سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قتَالُ مولانا أبي بكر مانعي الزَّكاةِ خُرافةُ الخرافات
نشر في هسبريس يوم 22 - 01 - 2016

روى جماعة من الأئمة الثقات، ومن طرق كثيرة متشعبة، عن الإمام ابن شهاب الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. (رواه الشافعي في المسند ص208 وأحمد 1/228 و15/286 والبخاري ح1399 و ح6924 ومسلم 32 (20) وأبو داود ح1556 والترمذي ح2607 والنسائي ح2443 و3091 و3092 وغيرهم ).
وقد ناقشنا الجزء المرفوع إلى رسول الله من هذه الرواية في مقال: "حديث: أمرت أن أقاتل الناس مشوّه محرّف"، وأوضحنا أنه لا علاقة له بفكرة قتال الكافرين لفرض الإسلام عليهم.
ونخصّص هذا المقال لبحث القصة المنسوبة إلى مولانا أبي بكر، وحواره مع مولانا عمر الفاروق لأنهما حجة الجماهير على أفكار متطرّفة عمياء سبّبت الكوارث للمسلمين عبر تاريخهم ولا تزال.
فقد استدلوا بتلك الخرافة على هذه الأحكام القبيحة:
أولا: حكم تارك الصلاة هو القتل، لأن الصّدّيق قاتل مانعي الزكاة بناء على تفريقهم بين الصلاة والزكاة، وأقرّه الصحابة على فهمه وفعله، فكان ذلك إجماعا حسب الأسطورة الزّهرية بطبيعة الحال.
ثانيا: يجب على الحاكم المسلم أن يُكرِه الناس على الإتيان بالعبادات كالصوم ولو بالمقاتلة، قياسا على حكم تارك الصلاة وعلى محاربة الصحابة الممتنعين عن الزكاة حسب الخرافة الزهرية.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث من "جامع العلوم والحكم": (وَقَوْلُهُ: "لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ"، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ لِأَنَّهَا حَقُّ الْبَدَنِ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَالِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِتَالَ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ وَإِنَّمَا أُخذَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِحَقِّهَا" فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا مِنْ حَقِّهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ... وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِلَّا بِحَقِّهَا" وَفِي رِوَايَةٍ: "ِإلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ"، قَدْ سَبَقَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحَقِّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ فِعْلَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ أَيْضًا. وَمِنْ حَقِّهَا ارْتِكَابُ مَا يُبِيحُ دَمَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ حَقِّهَا بِذَلِكَ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ، فَيُقْتَلُ بِهَا» وَلَعَلَّ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصَّوَابَ وَقْفُ الْحَدِيثِ كُلِّهِ عَلَيْهِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»). ه
قلت: الحديثان الواردان في كلام ابن رجب يردّان عليه وعلى الجمهور، ويؤكدان أن رواية الزهري خرافة مفبركة، فهما صريحان في أن دم المسلم لا يباح إلا بثلاثة أسباب، وليس ترك الصلاة أو منع الزكاة منها.
واستدلال الجمهور بقول نبينا في الحديث: "إلا بحقها" تحريف وتشويه، والحق الذي تدل عليه الروايات هو أن الضمير في كلمة: "بحقها" عائد على كلمة التوحيد، وهو ما صرّحت به رواية: "إلا بحق الإسلام".
وحقّ الإسلام -لا إله إلا الله- المبيح للإعدام هو قتل نفس معصومة عمدا، أو الردّة المقرونة بالتّمرّد المسلّح، أو ممارسة الحرابة والبغي.
أما الإعدام رجما بسبب "الزنا بعد إحصان" فسنّة نبوية فعلية وقولية نسخها الله سبحانه وأبطلها بقوله: (الزّانية والزّاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)، ولعلّنا نخُصّ الموضوع ببحث مستقلّ إن شاء الله قريبا.
فلم يبق من الحديثين الواردين في كلام ابن رجب إلا القتل العمد والارتداد مع الخروج على الجماعة، وأضاف كتاب الله حدّ الإعدام بسبب الحِرابة والبغي، وهما التّمرّد والعدوان من قبل جماعة مسلمة كقطّاع الطّرق والانفصاليين المسلّحين.
والمعيار عندنا في قبول عقوبة الإعدام أن تكون منصوصا عليها في كتاب الله صراحة، فحق الحياة مقدّس عند الله، ولا يباح هدرها إلا بنص شرعي متواتر معصوم لا يتطرق إليه الشكّ، ولا متواتر معصوما إلا كتاب ربّنا.
فإن قلت: المرتد الباغي لا ذكر له في القرآن، قلت لك: ومتى تدبّرتم القرآن؟
إن كتاب الله يبيح دم الكافر المعتدي حصرا، والآيات في ذلك تتوالى فيه تترى، والمرتدّ الباغي أشدّ عدوانا وكفرا.
سبب حرب الصّدّيق على (مانعي الزكاة):
إن القول بأن الصديق قاتل قبائل مسلمة لأنها امتنعت عن دفع الزكاة إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر خرافة ألحقها العلماء بصفحاته المشرقة حتى سوّدتها وقدّمته في صورة المتعطّش للدماء، الحريص على تقوية سلطانه بأي وسيلة قويمة أو عرجاء.
وهي خرافة أسطورية مستندة إلى غلط الإمام الزهري وتقصيره في تلخيص أحداث المرحلة كما سنثبت بالحجج العلمية المنطقية المقنعة للمتحرّرين من عقدة تقديس التراث.
لقد اختصر الزّهري رحمه الله الوقائع التي جرت أيام الصديق فأفسدها، ثم زاد الطين بلّة فاضطرب وخلّط ونسب خرافته لأبي هريرة رضي الله عنه، فأعطاها قوة غرّرت بالسادة المحدّثين إلا قلة كالإمام مالك، ومن المحدثين تسرّبت الأسطورة إلى الفقهاء وغيرهم، فكانت الكارثة وانتشر الإرهاب الداخلي باسم إقامة الدين.
والذي جرى حسبما فصّلته كتب التاريخ، كان مخالفا لما تضمنته رواية الزهري الخرافية.
فماذا جرى؟
بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلاف مولانا أبي بكر بشهور، تحرّكت العصبية الجاهلية في نفوس غالب القبائل العربية حديثة الإسلام، أي التي أعلنت خضوعها لسلطان المسلمين بعد فتح مكة ثم تبوك.
وكانت تلك القبائل على قسمين:
القسم الأول: قبائل ارتدّت عن الإسلام عقيدة وشريعة، وانتفضت على أمرائها المسلمين بقيادة زعمائها وكهنتها كبني حنيفة بزعامة مسيلمة الكذاب، واليمن بقيادة الأسود العنسي، ثم أكرهت المستضعفين على العودة للشرك، وقتلت من أبى منهم، وصارت تهدّد باجتياح المدينة، فهي مرتدّة انفصالية عدوانية، لذلك وجب قتالها دفعا لشرّها وعقابا على جرائمها في حق المسلمين المستضعفين.
القسم الثاني: قبائل مسلمة قرّرت عدم دفع ضريبة الزكاة لبيت مال المسلمين كغطفان وطيّئ بحجة أن القرآن أمر بدفعها للنبي صلى الله عليه وسلم دون خلفائه، وذلك قوله سبحانه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم).
ثم أرسلت وفودها إلى الصديق تخبره بما قرّرت لا لمفاوضته ومناقشته، لكن الخليفة لم يقرّهم على ما أعلنوا، وصارحهم بأنه لن يقبل منهم ذلك، وأمر الوفود بالعودة ونقل رفضه القاطع لشيوخ قبائلهم.
وكان الوفد قد علم أن خيرة مقاتلي الصحابة خرجوا في جيش مولانا أسامة بن زيد لمواجهة الروم عملا بوصية رسول الله.
وبناء على رفض الصديق إعفاء تلك القبائل من دفع الزكاة، وانتهازا لفرصة غياب جيش أسامة، أعلنت تلك القبائل تمردها المسلح على سلطة أبي بكر، وقرّرت الانفصال عن دولته والعودة إلى نظام القبائل العربية قبل الإسلام، والتي كانت ترفض وجود سلطة مركزية تخضع لها، وتبغض الخضوع السياسي لغير الزعامات المحلية.
ثم عظمت شوكة تلك القبائل وتوحّدت، فبادرت إلى مهاجمة القرى التابعة لعاصمة الخلافة، وصارت تخطّط لغزو المدينة، فكان لا بدّ من النفير العام.
إن سيدنا أبا بكر قاتل تلك القبائل المسلمة لبغيها وعدوانها ونزعتها الانفصالية المسلحة، لا لامتناعها عن دفع الزكاة كما روّج الزهري رحمه الله، ولو قاتلهم الخليفة الأول بسبب الزكاة فقط، لكان أغبى وأظلم حاكم عرفه تاريخ المسلمين، وحاشاه من ذلك.
والدولة من حقها أن تستخلص الضرائب، وإذا رفض جماعة من المواطنين دفعها دون سند ولا مبرّر، جاز للسلطة التنفيذية أخذها بالقوة من غير قتل ولا تعذيب، فإن أشهرت الجماعة الممتنعة السلاح في وجه الدولة كان ذلك حرابة تهدد أمن المجتمع وتقضي على أسس الدولة بالانهيار، فيكون قتالها واجبا لا مشروعا فقط، وهو ما حصل مع القبائل العربية التي رفضت أداء الزكاة، وأعلنت أنها ستحارب وتقاتل دولة الخلافة لمنعها من استخلاص ضريبة الصدقات، في وقت كان المسلمون بحاجة للاصطفاف الداخلي لمواجهة حركة الردة من جهة ومقاومة التحركات الرومية من جهة، فكان مولانا أبو بكر عبقريا موفقا مسدّدا حين واجه المانعين البغاة بحزم لتقوية الجبهة الداخلية أولا، وإرهاب المرتدين ثانيا، وتخويف الروم ثالثا، وهو ما تحقق له رضي الله عنه.
روايات تاريخية مهملة:
قَالَ التابعي الكبير عروة بن الزبير: لَمَّا مات رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفَصَل أسامة (أي خرج بالجيش لجهاد الروم) ارتدت العرب عوام أو خواص، وتوحّى مسيلمة وطليحة، فاستغلظ أمرهما، واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه، وقدّمت هَوَازِن رِجلا وأخّرت رِجلا، أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ولفِّها، فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز، وارتدت خواصّ من بني سليم، وكذلك سائر الناس بكل مكان. قَالَ: وقدمت رُسل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطليحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر، وأخبروه الخبر، فَقَالَ لهم أبو بكر: لا تبرحوا حَتَّى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر، وانتقاض الأمور. فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتقاض عامة أو خاصة، وتبسُّطهم بأنواع الميل على الْمُسْلِمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله ص حاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، وَكَانَ أول من صادم عبس وذبيان، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة. ( تاريخ الطبري3/ 242 والكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 201)
وفي تاريخ الطبري3/225 عن عروة أيضا قال: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي الأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لِيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوُّهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَرَبُ- عَلَى مَا تَرَى- قَدِ انْتُقِضَتْ بِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرِقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخَطَّفنِي لأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لأَنْفَذْتُهُ!
وفي تاريخ خليفة بن خياط ص16 عن عروة بن الزبير قال: كفرت العرب، فجاءت بنو سليم إلى أبي بكر فقالوا: إن العرب قد كفرت فأمدنا بالسلاح. فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون أبا بكر، فقال عباس بن مرداس : ( لم تأخذون سلاحه لقتاله ... ولكم به عند الإله أثام ) ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى بني سليم فجعلهم في حظائر ثم أضرم عليهم النار، ومضى خالد فلقي أسدا وغطفان ببراخة فهزمهم الله، ثم لقيهم ببطاح فأقبلوا براياتهم وأسلموا.
وفي تاريخ دمشق (25 / 157) عن الإمام التابعي عامر الشعبي قال: لما ارتدت العرب بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوامّ أو خواصّ، فارتدت أسد، واجتمعوا على طليحة واجتمعت عليه طيء، إلا ما كان من عدي بن حاتم، فإنه تعلق بالصدقات، فأمسكها، وجعل يكلم الغوث، وكان فيهم مطاعاً، فيتلطف لهم، ويترفق بهم، وكانوا قد استحلَوا أمر طليحة وأعجبهم، وقام عيينة في غطفان، فلم يزل بهم، حتى أجمعوا عليه. ثم أرسلوا وفوداً، وأرسل غيرهم، ممن حول المدينة وفوداً، فنزلوا على وجوه المهاجرين والأنصار ما خلا العباس، فإنه لم يُنزلهم ولم يطلب فيهم، فعرضوا أن يقيموا الصلاة، وأن يُعْفَوا من الزكاة، فخرج عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد، وأمثالهم يطلبون أبا بكر، فلم يجدوه في منزله، فسألوا عنه، فقيل: هو في الأنصار، فأتوه، فوجدوه فأخبروه الخبر، فقال لهم: أترَوْن ذلك؟ فقالوا جميعاً: نعم، حتى يسكن الناس، ويرجع الجنود، فلعمري لو قد رجعت الجنود لَسمحوا بها، فقال: وهل أنا إلا رجل من المسلمين؟ اذهبوا بنا إليهم. فلما دخل المسجد نادى للصلاة جامعة. فلما تتامّوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنّ الله عزّ وجلّ توكل بهذا الأمر، فهو ناصرٌ من لزمه، وخاذلٌ مَن تركه، وإنه بلغني أن وفوداً من وفود العرب قدموا يعرضون الصلاة، ويأبَون الزكاة، ألا ولو أنهم منعوني عِقالاً مما أعطوه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرائضهم ما قبلته منهم. قال: وكانت عُقُل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة. قال: ألا برئت الذمة من رجل من هؤلاء الوفود، أجد بعد يومه وليلته بالمدينة فقاموا يتخطون رقاب الناس حتى ما بقي منهم في المسجد أحد، ثم دعا نفراً فأمرهم بأمره، فأمر علياً بالقيام على نقب من أنقاب المدينة، وأمر الزبير بالقيام على نقب آخر، وأمر طلحة بالقيام على نقب آخر، وأمر عبد الله بن مسعود يعسّس ما وراء ذلك بالليل والارتباء نهاراً، وجدّ في أمره، وقام على رَجْل.
وفي تاريخ الطبري3/343 وتاريخ دمشق25/158 والبداية والنهاية(6/344) عن القاسم بن محمَّد قال: اجتمعت أسد وغطفان وطيء عَلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، وَبَعَثُوا وُفُودًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلُوا عَلَى وُجُوهِ النَّاس فَأَنْزَلُوهُمْ إِلَّا العبَّاس، فَحَمَلُوا بِهِمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، عَلَى أَنْ يُقِيمُوا الصَّلاة وَلَا يُؤْتُوا الزَّكاة، فَعَزَمَ اللَّهُ لِأَبِي بَكْرٍ عَلَى الحقِّ وَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ، فردَّهم فَرَجَعُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بقلَّة أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وطمَّعوهم فِيهَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الْحَرَسَ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: إنَّ الْأَرْضَ كَافِرَةٌ، وَقَدْ رَأَى وَفْدُهُمْ مِنْكُمْ قلَّة، وإنَّكم لَا تدرون ليلاً يأتون أَمْ نَهَارًا، وَأَدْنَاهُمْ مِنْكُمْ عَلَى بَرِيدٍ، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤَمِّلُونَ أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ وَنُوَادِعَهُمْ وَقَدْ أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ، فاستعدُّوا وأعدُّوا فَمَا لَبِثُوا إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى طَرَقُوا الْمَدِينَةَ غَارَةً، وخلَّفوا نِصْفَهُمْ بِذِي حُسًى لِيَكُونُوا رِدْءًا لَهُمْ، وَأَرْسَلَ الْحَرَسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُخْبِرُونَهُ بِالْغَارَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ: أَنِ الْزَمُوا مَكَانَكُمْ. وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفشَّ الْعَدُوُّ واتَّبعهم الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبِلِهِمْ، حَتَّى بَلَغُوا ذَا حُسًى فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الرِّدْءُ فَالْتَقَوْا مَعَ الجمع فكان الفتح.
قلت: في رواية الشعبي: (ولو أنهم منعوني عِقالاً مما أعطوه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرائضهم ما قبلته منهم)، وهي عبارة لا تدل على القتال، بل رفض قرارهم بالإعفاء من الزكاة.
وعبارة القاسم تفيد أنه عازم على جهادهم، لكن بعد احتشادهم العسكري وبعثهم الوفود لتبليغه قرار الامتناع مصحوبا بالتهديد الفعلي، فلا يكون أثر القاسم شاهدا لرواية الزهري الدالة على أن الصديق عزم على الحرب لمجرد امتناع القوم عن الزكاة.
والذي يظهر لي أن الزهري سمع أخبار الشعبي وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد، ثم لخصها فأفسدها، وزاد على ذلك بإسناد ما لخصه لأبي هريرة.
والخلاصة أن مولانا أبا بكر عزم على قتال مانعي الزكاة بعدما أعلنوا العصيان المسلح وهاجموا أطراف عاصمة الخلافة وخططوا لاجتياحها.
وجملة: (لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ)، قابلة للتحسين من غير رواية الزهري، ففي الموطأ(1/ 269): عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: «لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ».
وفي مصنف ابن أبي شيبة (2/353) بسند منقطع عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «لَوْ مَنَعُونِي، وَلَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَجَاهَدْتُهُمْ» قَالَ: ثُمَّ تَلَا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
وفي المصنف (6/438) أيضا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَطَاعَنَا أَبُو بَكْرٍ لَكَفَرْنَا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ سَأَلُوا التَّخْفِيفَ عَنِ الزَّكَاةِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ» قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ.
وعبارة: (لو منعوني) صريحة في أنه رضي الله عنه علق القتال على المنع بواسطة القوة والسلاح، وهو ما فعلوه، فصاروا بغاة يستحقون الجهاد والقتال.
والمعنى نفسه تفيده عبارة: "لقاتلتهم"، ففعل قاتل يدل على المشاركة في القتال، أي هناك طرفان مسلحان، أحدهما صاحب حق، والثاني باغ معتد يستحق القتال.
وإقرارنا بصحة مقولة الصديق مشروط بقراءتها في سياقها وسوابقها، ولا يلزم من ذلك تسليمنا بخرافة الزهري التي آن بيان عللها متنا وسندا.
العلل الدالة على فساد خرافة الزهري رحمه الله:
أخطأ الإمام الزهري رحمه الله في تلخيص أحداث الردة، فجملة: ( لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ...).
لا تشير من قريب ولا من بعيد للعصيان المسلح الذي مارسته القبائل المانعة للزكاة، بل تفيد أن الصديق بادر إلى الحرب من غير استشارة الصحابة، ولا مفاوضة المانعين خلافا لروايات غيره.
وروايته ضعيفة سندا ومتنا لهذه العلل القبيحة:
العلة الأولى: كثرة النكارات:
اشتملت رواية الزهري على نكارات شديدة فاضحة لتقصيره في التلخيص شاهدة بضعف حفظه للقصة، وهي:
النكارة الأولى:
جملة: (وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) تفيد أن قتل تارك الصلاة حدّ شرعي مقرّر عند الصدّيق، وهي عبارة لم ترد في روايات عروة والشعبي والقاسم، ثم إن حدّ القتل لا يثبت إلا بنصّ قطعي الثبوت والدلالة، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يشهد لهذا الحكم الشديد، بل فيهما ما يحصر حدّ الإعدام في القتل العمد والخروج المسلح على الإمام والنظام والحرابة، ومولانا أبو بكر لا يمكن أن يجهل هذه الحقائق، فتكون تلك الجملة المنكرة من أوهام الزهري وبنات أفكاره جزما.
النكارة الثانية:
صورت لنا خرافة الزهري مولانا الصديق ومعه كبار الصحابة جاهلين بأصول القياس وشروطه، فالخليفة قاس مشروعية قتال مانعي الزكاة على قتل تارك الصلاة، ونسي المصححون لأسطورة الزهري أنهم اشترطوا في القياس أن لا يكون في مجال الحدود الموجبة للقتل ولا في العبادات، ولا بين مسألتين بينهما فارق واضح.
وها هم ينسبون إلى أحد كبار مجتهدي الأمة أنه قاس في مجال الحدود المشدّدة، وبين عبادتين مفترقتين لا جامع بينهما إلا كونهما ركنين في الإسلام، ففتحوا المجال أمام الفقهاء المتطرّفين الذين أوجبوا حدّ القتل على تارك الصوم والحج كما أشار كلام ابن رجب.
وقد ناقض الجمهور أنفسهم إذ استثنوا الصوم والحج رغم أنهما ركنان أيضا وأنهما أقرب شبها بالصلاة من الزكاة، أما الذين قاسوهما على الصلاة فمنسجمون مع تصوّرهم رغم أنه غلوّ وتطرّف مقيت.
ونحن نبرّئ مولانا أبا بكر من هذا القياس الفاسد، ونبرّئ الصحابة الذين وافقوه على القتال، ونتقرب إلى الله بنسبة التخليط والوهم والغفلة للزهري بدل نسبة هذا القياس للخليفة وأصحابه.
وقد أفادتنا روايات غير الزهري أن كبار الصحابة، وبينهم مولانا علي باب مدينة العلم، اقترحوا على الصديق أن يعفو للقبائل عن الزكاة ويمهلهم، فوافق لولا أن المانعين بادروا بالهجوم العسكري فقاتلهم لعدوانهم بنص القرآن والسنة لا قياسا على قتل تارك الصلاة والذي هو عقوبة اخترعتها رواية الزهري.
النكارة الثالثة:
مقولة: ( فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ ) المنسوبة لمولانا عمر تدلّ كما قال شرّاح الخرافة على أنه كان وبقي يجهل الوجه الشرعي الدال على مشروعية قتال المانعين، وأنه اكتفى بتقليد الصديق والاستسلام لرأيه من غير قناعة.
وهذا النوع من الجهل لا ينسبه لِملهَم الأمة مسلم عاقل متحرّر من الهوى المذهبي، فالفاروق ليس طفلا في الشريعة حتى يعجز عن استيعاب وجه الحكم من الصديق مباشرة بينما يستوعبه الفقهاء بعدهما بسهولة.
والفاروق لم يكن وحده في صف معارضة الصديق، فقد جاءه جماعة من الأصحاب المجتهدين يطالبونه بتأجيل موضوع الزكاة، فيكونون جاهلين كالفاروق، وهو ما صرّح به الفقهاء دون حياء، وجعلوا تفرّد الصديق بالفهم المذكور حسنة من محاسنه الكثيرة.
والحق أنه لم يفهم ما نسبه الزهري إليه، وخيرة الصحابة لم يكونوا جاهلين ولا مقلدين تابعين، وإنما هي رواية محرفة شوهاء، قسما برب العالمين.
العلة الثانية: الشذوذ عن الجماعة:
لقد تفرّد الزهري برواية الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مقرونا بقصة الرّدّة ومانعي الزكاة، وشذّ بتلك الزيادة المنكرة عن جماعة من الأثبات الثقات الذين رووا الحديث دونها، ومحال أن يتذكّر هو دونهم، فهو مخطئ جزما في نسبة تلك الزيادة لأبي هريرة رضي الله عنه.
وبعد جمع طرق حديث أبي هريرة، وجدناها أكثر من عشرة طريقا غير طريق الزهري، وكلها خالية من قصة الصديق والفاروق والزكاة.
ونكتفي بعرض بعضها:
الأول، وهو أعلاها: قال همام بن منبه: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عصموا مني أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز و جل. (صحيفة همام ح50، ومصنف عبد الرزاق ح6915، ومسند أحمد ح8163، وإيمان ابن منده ح27).
الثاني، وهو أصحها: روى جماعة منهم مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الحديث دون قصة. (مسند أبي عوانة ح7318 وشرح معاني الآثار ح5118 ومسند الشاميين ح 129 و ح3334 وتوحيد ابن منده ح162 ومسند الجوهري ح544 وح549 ).
الثالث: جماعة عن عبد الرحمن بن يعقوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحديث المرفوع وحده» (مسند أحمد ح9661 وح10254 وصحيح مسلم ح134 وصحيح ابن حبان ح174 وح220)
الرابع: جماعة عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الحديث» (مسند أحمد ح8904 وح10158 ومصنف ابن أبي شيبة 5/556-557 و6/480، وصحيح مسلم ح35 وسنن أبي داود ح2640 والنسائي ح3976 والترمذي ح2606 وابن ماجه ح3927).
الخامس: قال سَعِيدُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المرفوع وحده» (أخرجه أحمد ح 8544 وابن راهويه ح272 وابن خزيمة ح2248 والحاكم ح1428 والدارقطني ح1885).
السادس: روى يُونُس، عَنِ الْحَسَنِ البصري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: الحديث. (سنن ابن ماجه ح71، وسنة الخلال ح1199 والصلاة للمروزي ح6، وسنن الدارقطني ح1884، وصححه الألباني).
السابع: عَاصِم، عَنْ زِيَادِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وذكره. (سنن النسائي ح3978 ومسند البزار ح9632).
الثامن: حماد عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: الحديث. (مسند أحمد بن حنبل ح10259، وحسّنه شعيب الأرنؤوط)
فهذه ثمان طرق تروي عن أبي هريرة الحديث المرفوع دون ذكر أحداث الردة، وتشهد لها روايات الصحابة جابر وأنس وابن عمر ومعاذ بن جبل وغيرهم، وتؤكدها بعض الطرق الصحيحة عن الزهري نفسه كما سيأتي قريبا، فلا مجال للتردّد في كونه حفظ ثم نسي، وضبط ثم اختلط، والعلة الثالثة شاهد إضافي على هذه الحقيقة المرّة على العاطفيين.
ولا مجال للقول هنا بأن زيادة الثقة مقبولة عند المحدّثين، لأنهم اشترطوا أن لا تضيف حكما جديدا، وما زاده الزهري أفاد أحكاما لا حكما واحدا، وهي أحكام قاسية عنيفة.
كما أنهم اشترطوا في راوي الزيادة أن يكون ضابطا متقنا للحديث، والزهري لم يضبط الحديث، بل اضطرب وخلّط وتناقض سندا ومتنا.
ومن يرجع إلى كتب التخريج والنقد، يجد الحفاظ يحكمون على كبار الأئمة، بمن فيهم الزهري، بالوهم والنسيان والخطأ في أحاديث لا يترتب عليها خطر أو ضرر، فكيف تجاوزوا له عن هذه الرواية الشاذة المنكرة الواهية؟
العلة الثالثة: الاضطراب الشديد متنا:
لم يثبت الزهري رحمه الله على مضمون واحد، ولا على سند واحد، بل خالف نفسه وناقضها إلى حدّ يجعلنا نرجّح أنه حكى القصة في شيخوخته وضعف ذاكرته، وهذه رواياته المضطربة:
الرواية الأولى:
روى ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بحقها، وحسابهم على الله " (حديث إسماعيل بن جعفر ح174، ورسالة الشافعي، والأم ومسند الشافعي ص197، ومسند أحمد ح10518 وح10822، ومسند البزار ح7683 زهر، ومعجم ابن الأعرابي ح92 زهر، وهو صحيح).
وروى الزهري عن سَعِيد بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» ( صحيح البخاري ح2946 وصحيح مسلم ح33 وسنن النسائي ح3090 وح3095 ومنتقى ابن الجارود ح1032 ).
وهذه الرواية خالية من قصة الصديق والفاروق، وهي موافقة لما تواتر عن أبي هريرة من رواية المتن المرفوع دون قصة الردة ومانعي الزكاة.
وهذا يعني أن الزهري كان ضابطا في البداية، يوافق الجماعة في الرواية.
الرواية الثانية:
وهي الرواية المشهورة الصحيحة عند الكافة، وهي ما رواه جماعة منهم الأئمة الزبيدي وشعيب بن أبي حمزة وعبد الرحمن بن خالد وعقيل وابن أبي حفصة عن الزهري عن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
في هذه الرواية أن أبا بكر قال: (لو منعوني عناقا).
الرواية الثالثة:
روى سُفْيَانُ وعقيل وصالح بن أبي الأخضر وسليمان بن كثير ومحمد بن علي الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة الحديث والقصة، وفيه عن أبي بكر: ( لو منعوني عقالا )، وهذه الرواية في مسند الشافعي (ص: 208) وصحيح البخاري ح7284 وصحيح مسلم 32/20 وسنن الترمذي ح7683 وشرح آثار الطحاوي ح5851 وإيمان ابن منده ح216.
واختلف المحدثون في العبارة المحفوظة، أهي "العناق" أم "العقال"؟ ورجّح الإمام البخاري أنها العناق، ونحن نرجّح "العقال" لأنها اللفظة المروية في الموطأ والمصنف عن غير الزهري، وتلك قرينة إضافية على عدم ضبطه للحديث وقصة الردة.
الرواية الرابعة:
أخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/82) بإسناد صحيح إلى الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ: " فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ حَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرٍ " فَقَالَ: " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ".
وهنا نرى الزهري يجعل أبا هريرة هو المعترض بالحديث على الخليفة، ولا نرى جملة: "لأقاتلن من فرق...".
الرواية الخامسة:
في المسند ح10840 بإسناد حسّنه الأرنؤوط عن الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ". قَالَ: فَلَمَّا قَامَ أَبُو بَكْرٍ، وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ، أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ قِتَالَهُمْ، قَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ، لَأُقَاتِلَنَّ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الزَّكَاةِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا فَرَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، لَقَاتَلْتُهُمْ. قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا رَأَيْتُ اللهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِقِتَالِهِمْ، عَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وهذه تفيد أن الفاروق اعترض بناء على صلاة القوم، ولم يحتج بالحديث، وعبارة: (لَأُقَاتِلَنَّ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الزَّكَاةِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا فَرَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، لَقَاتَلْتُهُمْ)، مخالفة لما جاء في غير هذه الرواية، فلا تفيد قتل تارك الصلاة، ولا قياس الصديق الزكاة على الصلاة، بل تدلّ على أن القوم كفروا بوجوب الزكاة لذلك سيقاتلهم.
الرواية السادسة:
في سنن النسائي ح 3971 بإسناد صححه الألباني عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " فَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: أَتُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَاتَلْنَا مَعَهُ فَرَأَيْنَا ذَلِكَ رُشْدًا.
زادت هذه الرواية جملة: "والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة"، واستعملت ضمير الجماعة في فقرة: "فقاتلنا معه..."، خلافا لرواية المفرد، وشتان بين الضميرين من جهة المعنى.
الرواية السابعة:
أخرج الطحاوي في شرح الآثار (15/ 83) بإسناد صحيح إلى الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَبَضَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ "؟ . فَقَالَ: " أَلَا أُقَاتِلُ أَقْوَامًا فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؟، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ اللهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِقِتَالِ الْقَوْمِ عَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ ".
في هذه الرواية أن الفاروق عارض الصديق بعدما بعث الجيوش لقتال المرتدين، والرواية المشهورة وشواهدها دالة على أن المناقشة كانت قبل ذلك.
وجملة: "أَلَا أُقَاتِلُ أَقْوَامًا فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ"، لا وجود لها إلا في هذه الرواية، ومعناها مختلف كليا عن مضمون عبارة: "لا أفرق بين الصلاة والزكاة"، وصيغة: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
ونحن محتارون في أي عبارة حفظها الزهري رحمه الله.
الرواية الثامنة:
روى جماعة من الثقات عَنِ الزُّهْرِيِّ قال: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَذَكَرَ قَوْمًا اسْتَكْبَرُوا فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية" فَكَاتَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ. (تفسير ابن أبي حاتم 10/3210 ، وتفسير الطبري 22/252 وصحيح ابن حبان ح218، وإيمان ابن منده ح199 وح200 والبيهقي في الصفات 1/263 وأمالي الشجري 1/16 وأوسط الطبراني ح1272 ومعجم ابن الأعرابي ح92 وعلل الدارقطني 9/155 وتاريخ دمشق 63/258).
وهذه الرواية لا تذكر قصة الردة، بل تذكر زيادات لا وجود لها في غيرها، واشتملت على نكارة واضحة، فقريش استكبروا عن التوحيد منذ البعثة النبوية لا عام الحديبية، والرسول لم يعرض عليهم التوحيد أيام الصلح لأنه كان في حرب معهم، بل عرض عليهم العمرة فأبوا ثم اتفق معهم على جملة بنود، أهمها قضاء العمرة في السنة السابعة، وهذه النكارة شاهد إضافي على اختلاط مرويات الزهري عليه في آخر حياته.
العلة الرابعة: الاضطراب الشديد سندا:
لم يضبط الزهري رحمه الله سند روايته، بل تناقض واضطرب اضطرابا فاحشا يزيدنا يقينا في كونه المسئول عن نسبة الخرافة لسيدنا أبي هريرة، وهذه تناقضاته:
الوجه الأول: وهو المشهور الشائع: الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة.
الوجه الثاني: قال الشافعي في مسنده (ص: 169): أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ...
فأدخل جابرا رضي الله عنه بين عبيد الله وأبي هريرة، ومحال أن يروي جابر عن أبي هريرة لأنه أعلم منه وأقدم صحبة، ثم إنه سمع الحديث المرفوع بنفسه كما ذكرنا في المقال الخاص به، ثم إنه حضر وقائع الرّدّة خلافا لأبي هريرة الذي كان غائبا بالبحرين في مهمة كلفه بها رسول الله، فمات وبويع أبو بكر وجرت حروب الردة وأبو هريرة بعيد، فالأولى أن يسمع هو من غيره، وهو الحق والصواب، لذلك لم يصرّح بسماع الحديث المرفوع بنفسه من النبي في أي طريق صحيح عنه، وهي كثيرة، فكان يكتفي بقوله: قال رسول الله أو عن رسول الله.
ورواية الشافعي هذه وغيرها دالة على أن أبا هريرة سمع الحديث المرفوع من الفاروق رضي الله عنهم جميعا، فترجّح أن روايته عن النبي مباشرة مرسلة، ومرسل الصحابي مقبول عند الجمهور.
وشيخ الشافعي المبهم لا يضر، ففي طبقات الشافعية الكبرى (2/30): قوله: أخبرنا الثقة عن ابن شهاب، يحتمل مالكا وابن سعد وسفيان ابن عيينة، ولا ثالث لهم في أشياخ الشافعي. ه
قلت: وكل المذكورين ثقات، وابن سعد هو إبراهيم الزهري.
الوجه الثالث: ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وغيرهما عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (سنن النسائي ح3093 و3975، ومسند الطبراني ح166)
وهنا نراه يجعل سعيدا مكان عبيد الله، وتقدم أنه روى الجزء المرفوع عن سعيد دون الخرافة.
الوجه الرابع: في مسند البزار ح7683 من طريق ابْن أَبِي الأَخْضَرِ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَعِيد، وَأَبي سَلَمة، عَن أَبِي هُرَيرة.
ثم قال البزار مقرا باضطراب الأسانيد: وهذا الحديث قد قال بعضهم: عَن أبي هُرَيرة، عَن عُمَر، وَقال بعضهم: عَن أبي هُرَيرة، ورواه غير واحد، عَن الزُّهْرِيّ عن عُبَيد الله، عَن أبي هُرَيرة.ه
قلت: جعل هنا أبا سلمة وسعيدا مكان عبيد الله، وتقدم أنه روى عنهما الجزء المرفوع دون الموقوف.
الوجه الخامس: في مسند الشافعي (ص:208): أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ... الحديث والقصة دون ذكر عبيد الله وأبي هريرة.
فدلّ هذا الوجه على أن الزهري كان يروي القصة منقطعة، ثم اختلطت عليه مروياته فأسندها توهما ونسيانا.
وقد اعترف كبار الحفاظ باضطراب أسانيد رواية الزهري، ونسبوه لتلامذته من باب العاطفة والتقصير في الاستقراء، ورجّحوا أن الصواب هو الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة.
وفي ترجيحهم إقرار بضعف الأوجه الأخرى، ولو تحرروا من الهيبة والعاطفة والقصور لما ألصقوا التهمة بغير الزهري لأن مدار الخبر عليه، فالقواعد تقضي بأنه الواهم الناسي المضطرب لا غيره.
وانظر كلام الحفاظ على رواية الزهري في العلل لابن المديني (ص80) وعلل الدارقطني (1/162) وغيرهما.
النتيجة:
لم يثبت الزهري على مضمون واحد، ولا على سند واحد، فهو مضطرب متناقض مع نفسه، ثم إنه خالف الجماعة وشذّ عن الكافّة الذين رووا الجزء المرفوع عن أبي هريرة وغيره من الصحابة دون ذكر أحداث الردة، وخالف المؤرخين الذين نقلوا الأسباب الحقيقية وراء قتال الصديق لمانعي الزكاة، فهو شاذّ عن الجماعة.
وعليه، فلا يعقل أن نصدّقه في إسناده القصة لأبي هريرة، ولا يجوز أن نقبل المضامين المنكرة المنسوبة للصديق والفاروق وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.
وإذا كان مولانا عمر لم يقبل رواية الصحابية الفقيهة فاطمة بنت قيس في مسألة الطلاق، وقال: «لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ».
فإننا نقولها بطمأنينة: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا وخلفائه المتواترة لقول رجل من التابعين ندري ونوقن من خلال اضطرابه وشذوذه ونكارات روايته أنه نسي وأخطأ وتوهّم.
وهذا تلميذه الخبير به، المطّلع على خفايا مروياته، الإمام مالك بن أنس، يعرض عن حديث شيخه بالكلية، فلم يرو مرفوعه إلى رسول الله، ولا موقوفه على الخليفة الصّدّيق، واكتفى بجزء ورد عن غير الزهري، ففي الموطأ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ.ه
وتقدم أن عبارة: "منعوني" تعني رفعهم السلاح في وجه الدولة لمنعها من إنفاذ القانون، وذلك حرابة وبغي تبيح المقاتلة شرعا.
فيكون الصديق أول من قاتل البغاة في الإسلام، وليس أمير المؤمنين عليا، ورضي الله عن الجميع.
وتخطئتنا للزهري رحمه الله في هذه الرواية الخرافية، لا تستلزم الانتقاص من علمه وإمامته إلا عند المتعصب الجاحد، فلا تكن منهما أيها المسلم العاقل.
*أستاذ التربية الإسلامية، خريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف
[email protected]m


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.