الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فهذه سيرة مختصرة لأبي هريرة رضي الله عنه اختصرتها من أهم المصادر: من "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، و"الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر، و"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لحافظ المغرب ابن عبد البر الأندلسي، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"فضائل الصحابة" لأحمد بن حنبل، و"فضائل الصحابة" للنسائي، وغيرها من المصادر المعتمدة: هو الإمام، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المقرئ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجاهد، العابد، الزاهد، أبو هريرة الدوسي، اليماني، سيد الحفاظ الأثبات. اسمه وكنيته: اختلف في اسمه على أقوال جمة، أشهرها: عبدالرحمن بن صخر. وقيل: عبد عمرو بن عبد غنم. وقيل: عبد شمس. وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس فسميت في الإسلام عبد الرحمن، وإنما كنيت بأبي هريرة، لأني وجدت هرة فجعلتها في كمي، فقيل لي: ما هذه؟ قلت: هرة. قيل: فأنت أبو هريرة. وفي رواية عن أبي هريرة قال: كنت أرعى غنماً لأهلي، فكانت لي هُريرة ألعب بها، فكنَّوني بها. قال ابن عبد البر: غلبت عليه كنيته، فهو كمن لا اسم له غيرها. إسلام أبي هريرة وهجرته إلى المدينة: أسلم أبو هريرة رضي الله عنه وهاجر إلى المدينة وهو ابن ثمان وعشرين سنة في نفر من قومه من قبيلة دوس اليمانية، وقدموا المدينة وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فلحق أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم وقدم عليه وهو في خيبر أول سنة سبع من الهجرة، قال ابن عبد البر: أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا. روى ابن سعد في الطبقات (4/242) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق: قال: وأبق مني غلام في الطريق فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة هذا غلامك. فقلت: هو لوجه الله. فأعتقته. إسلام أم أبي هريرة: أمه صحابية اسمها: ميمونة بنت صبيح رضي الله عنها. روى مسلم (2491) وأحمد (8259) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4240) عن أبي كثير يزيد بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علي، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة» فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمِعَت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً، قال: قلت: يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب عُبيدك هذا – يعني أبا هريرة – وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين» فما خلقٌ مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. صبر أبي هريرة على طلب العلم وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم: قال ابن عبد البر: "أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضيا بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث دار، وكان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار، لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائجهم، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث". وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 359) من طريق الوليد بن رباح أن أبا هريرة قال: قدمت ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه حتى مات أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحجّ، فكنت أعلم الناس بحديثه، وقد واللَّه سبقني قوم بصحبته، فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديثه، منهم: عمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، ولا واللَّه لا يخفى عليّ كلّ حديث كان بالمدينة. وقد جاع أبو هريرة، واحتاج، ولزم المسجد مع أهل الصفة الفقراء. روى البخاري (3708) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة!! وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية، هي معي، كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فنشقها فنلعق ما فيها». وروى البخاري (6452) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: ألله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق» ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي» قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم» قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «اشرب» حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكا، قال: «فأرني» فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. وروى ابن سعد في الطبقات (4/243) بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: كنت أجير ابن عفان وابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أسوق بهم إذا ركبوا، وأخدمهم إذا نزلوا. قال ابن سيرين: قال أبو هريرة: لقد رأيتني أصرع بين القبر والمنبر من الجوع، حتى يقولوا: مجنون!! خدمة أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته: كان أبو هريرة رضي الله عنه مقدماً في خدمة النبي صلى الله عليه سلم وأهل بيته، روى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (1401) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العشاء وكان الحسن والحسين يثبان على ظهره، فلما صلى قال أبو هريرة: يا رسول الله، ألا أذهب بهما إلى أمهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، فبرقت برقة فما زالا في ضوئها حتى دخلا إلى أمهما». وروى البخاري في صحيحه (5884) ومسلم في صحيحه (2421) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف، حتى أتى خباء فاطمة فقال: «أين لكع – ثلاثا – ادع الحسن بن علي»، فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا، فلم يلبث أن جاء يسعى، حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أحبه، فأحبه وأحبب من يحبه»، زاد البخاري في روايته: قال أبو هريرة: فما كان أحد أحب إلي من الحسن بن علي، بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. حفظ أبي هريرة للكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، طيبا، مباركا فيه، لم يُلحق في كثرته، وروى عن: أبي بكر وعمر وأُبيّ بن كعب وأسامة بن زيد وعائشة والفضل وبصرة بن أبي بصرة رضي الله عنهم. وحدث عنه: خلق كثير من الصحابة والتابعين. قال البخاري: روى عنه ثمانمائة أو أكثر. وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة. قال محمد بن المثنى الزَّمِن: حدثنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي يحيى، قال: سمعت سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟! قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: "اجمعها، فصرها إليك"، فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني. وقصة بسطه لثوبه ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ ثابتة، وقد رويت من طرق كثيرة عن أبي هريرة. قال أبو صالح الزيات: كان أبو هريرة من أحفظ الصحابة. وروى حماد بن زيد قال: حدثني عمرو بن عبيد الأنصاري قال: حدثني أبو الزعيزعة كاتب مروان: أن مروان أرسل إلى أبي هريرة، فجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول، دعا به، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر!! قال الذهبي معلقا على هذه القصة: هكذا فليكن الحفظ!! وعن عبد الله بن شقيق قال: قال أبو هريرة: لا أعرف أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحفظ لحديثه مني. وعن عاصم بن كليب قال: حدثنا أبي أنه سمع أبا هريرة كان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وأخرج ابن سعد بسند جيد – كما قال ابن حجر – عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث بشيء ما سمعتُه!! قال: يا أمه، طلبتُها وشغلك عنها المكحلة والمرآة!! وروى الأعمش عن أبي صالح أنه قيل لابن عمر: هل تنكر مما يحدث به أبو هريرة شيئا؟ فقال: لا، ولكنه اجترأ، وجبنا!! فقال أبو هريرة: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟!! وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلا، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم، ثم يحدثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مرارا. قال: فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسدّد في مسنده من طريق يحيى بن عبيد اللَّه عن أبيه عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي، فقال لي: كنت معنا يوم كنّا في بيت فلان؟ قلت: نعم، إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال يومئذ: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » قال: اذهب الآن فحدّث. قال الذهبي: احتج المسلمون قديما وحديثاً بحديث أبي هريرة، لحفظه، وجلالته، وإتقانه، وفقهه، وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه، ويقول: أفت يا أبا هريرة. وأصح الأحاديث ما جاء: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وما جاء عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وما جاء عن: ابن عون وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأين مثل أبي هريرة في حفظه، وسعة علمه؟! وقال الحافظ الذهبي أيضا: كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث. عدد أحاديث أبي هريرة: قال الذهبي: عدد أحاديث أبي هريرة المتفق عليها في البخاري ومسلم: ثلاث مائة وستة وعشرون حديثاً. وانفرد البخاري: بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم: بثمانية وتسعين حديثاً. قلت: فعلى كلام الحافظ الذهبي يكون مجموع أحاديث أبي هريرة في صحيح البخاري ومسلم: 517 حديثاً، وجميع أحاديثه الصحيحة من غير تكرار نحو الألف حديث والله أعلم كما حققته في كتابي "أحاديث أبي هريرة" الذي هذه السيرة جزء من كتابي المذكور. الأحاديث الصحيحة التي تفرد بروايتها أبو هريرة: أكثر الأحاديث الصحيحة الثابتة عن أبي هريرة رضي الله عنه لم يتفرد بروايتها وحده، بل رواها غيره من الصحابة الكرام، وعدد الأحاديث الثابتة الصحيحة والحسنة التي تفرد بروايتها أبو هريرة رضي الله عنه هي نحو 110 أحاديث فقط، ومعظمها في الترغيب والترهيب والأخلاق والقصص، ومن أراد بيانها بالتفصيل فليرجع إلى رسالتي المسماة "الأحاديث الصحيحة التي تفرد بروايتها أبو هريرة رضي الله عنه" أو إلى كتابي "أحاديث أبي هريرة تحقيق واستقراء" حيث ذكرت في آخره تلك الأحاديث التي تفرد بروايتها أبو هريرة رضي الله عنه. قلة رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار: روى أبو هريرة عن كعب الأحبار بعض أخبار بني إسرائيل كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في ذلك بقوله: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" رواه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وروى البخاري (4485) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]. وكعب الأحبار كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي (2/490): " كعب بن ماتع الحميري، اليماني، العلامة، الحبر، الذي كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه فجالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء. سكن بالشام بأخرة، وكان يغزو مع الصحابة. وتوفي كعب بحمص، ذاهبا للغزو، في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه". وقد كان كعب يحدث بما يعلمه من أخبار بني إسرائيل ولا حرج في ذلك، ولم ينسب شيئا من ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان يحكيه عن الكتب القديمة ليس بحجة عند أحد من المسلمين، ولا حرج على من روى عنه شيئا مبينا أنها من رواية كعب عن بني إسرائيل، وهو ما يعرف عند العلماء بالإسرائيليات، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في روايتها بشرط أن لا تُصدق ولا تُكذَّب، إلا إذا كانت مخالفة لما عندنا من القرآن والسنة الصحيحة فإنها تُكذَّب، ولا يشك حينئذ أنها مما غيِّر وحرِّف، لكن ما لا يخالف القرآن والسنة منها فلا بأس بروايتها بشرط أن لا نصدقها ولا نكذبها. ورواية الصحابة رضي الله عنهم عن كعب الأحبار قليلة جداً، وقد بحثت بواسطة المكتبة الشاملة في كتب الحديث التسعة المشهورة فلم أجد ذكرا لكعب الأحبار إلا في روايات قليلة جداً، وأبو هريرة إنما جالس كعب الأحبار مرتين أو ثلاثاً، وعجبا ًلمن يطعنون في أحاديث أبي هريرة بأنه كان يروي عن كعب الأحبار وكأنه كان يلازمه ويكثر من مجالسته!! روى أحمد (7714) بسند صحيح عن القاسم بن محمد قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة، يحدث كعبا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب يحدث أبا هريرة عن الكتب. وأخرج البيهقيّ في المدخل من طريق بكر بن عبد اللَّه بن أبي رافع عن أبي هريرة أنه لقي كعب الأحبار فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة!! وقد يقع خطأ من بعض الرواة عن أبي هريرة فيخطئ الراوي فيجعل الخبر عن بني إسرائيل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يجعل الكلام الموقوف عن أبي هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الحديث الجهابذة يبينون ذلك؛ لأنهم يجمعون طرق الحديث فيتبين لهم من أخطأ من الرواة. روى بكير بن الأشج، عن بسر بن سعيد، قال: اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! مثال ذلك: روى مسلم (2789) وأحمد (8341) من طريق عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. فهذا الحديث بين كثير من نقاد الحديث الجهابذة أنه موقوف على كعب الأحبار وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام البخاري في تاريخه (1/413-414): "وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح". وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 1/99 بعد أن أورد الحديث من طريق مسلم: "هذا الحديث من غرائب "صحيح مسلم"، وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري، وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعا". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (17/236 ): "وأما الحديث الذى رواه مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت" فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم". وبهذا يتبين أن أبا هريرة لم يرو عن كعب الأحبار إلا قليلا جدا من الروايات قد لا تصل إلى عشر روايات، وأنه لم يخطئ هو ولا غيره في رواية بعض أخبار بني إسرائيل عن كعب أو غيره لكون النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ذلك، ولكن قد يخطئ بعض الرواة فيجعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نادر جدا، والنادر لا حكم له، لكن أهل الحديث رحمهم الله يجتهدون في تمييزها ويبينون أي خطأ قد يحصل من بعض الرواة في نسبته لرواية منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تختلط الأحاديث النبوية بالإسرائيليات. وقد رد أبو هريرة على كعب الأحبار عندما خالفت روايته الإسرائيلية الحديث النبوي، فرجع كعب عن خطئه، روى الإمام مالك في الموطأ (16) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس، يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات. وفيه تقوم الساعة. وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة. إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه» قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم! حفظ أبي هريرة للقرآن الكريم وتعليمه: لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه حافظا للحديث النبوي فحسب، بل كان أيضا حافظا للقرآن الكريم، وهو من القراء المشهورين الذي حفظوا القرآن الكريم وعلَّموه التابعين، قال الإمام أبو عمرو الداني: عرض أبو هريرة القرآن على أبي بن كعب. وذكر الذهبي في كتابه طبقات القراء أن أبا هريرة قرأ القرآن على أبي بن كعب، وأخذ عنه القرآن من التابعين: الأعرج، وأبو جعفر المدني يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة المشهورين، وطائفة من القراء. قال الذهبي: أبو هريرة رأس في القرآن، وفي السنة، وفي الفقه. محبة أبي هريرة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويحث الناس على حبهم، روى أحمد في مسنده (7876) وابن ماجه (143) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني " يعني حسنا وحسينا. وأخرج الطيالسي (2502) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن والحسين: "من أحبني فليحب هذين". وقد كان أبو هريرة ينشر الأحاديث التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل آل البيت، وروى المحدثون كثيرا من أحاديث فضائل آل البيت عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (2405) عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه» قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: «امش، ولا تلتفت، حتى يفتح الله عليك» قال فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله». وروى النسائي في فضائل الصحابة (48) عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأدفعن الراية اليوم إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فتطاول القوم فقال: " أين علي؟" قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به فبزق نبي الله صلى الله عليه وسلم في كفيه ثم مسح بهما عيني علي، ودفع إليه الراية ففتح الله عليه يومئذ. وروى الترمذي (3764) وصححه الألباني عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولا ركب الكور ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (1393) عن علي بن زيد أن فتية من قريش خطبوا بنت سهيل بن عمرو وخطبها الحسن بن علي فشاورت أبا هريرة وكان لنا صديقا فقال أبو هريرة: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل فاه فإن استطعت إن تقبلي مقبل رسول الله فافعلي فتزوجته». وقد أنكر أبو هريرة على بني أمية حين منعوا من دفن الحسن بن علي بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فروى عبد الرزاق الصنعاني (6369) وحسن إسناده الألباني في كتابه أحكام الجنائز ص 101عن أبي حازم قال: لما مات الحسن وسعيد بن العاص الأموي أمير على المدينة وصلوا عليه قام أبو هريرة فقال: أتنفسون على ابن نبيكم صلى الله عليه وسلم تربة يدفنونه فيها؟ ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». عدالة أبي هريرة وأمانته: كان أبو هريرة رضي الله عنه من عباد الصحابة، وكان مكثرا للصلاة والصيام وقراءة القرآن وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، قال أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا. قلت: يا أبا هريرة، كيف تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثا. وعن شرحبيل: كان أبو هريرة يصوم الاثنين والخميس. وعن عكرمة قال: كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي. وروى ابن سعد (4/251) بسند حسن عن أبي هريرة قال: ما وجع أحب إلي من الحمى لأنها تعطي كل مفصل قسطه من الوجع وإن الله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر. وكان أبو هريرة مؤتمناً عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، حتى أنه استعمله على البحرين. عمل أبي هريرة بعلمه: كان أبو هريرة رضي الله عنه عاملا بعلمه حتى أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» رواه مسلم في صحيحه (1378)، فلم يزل ساكناً في المدينة النبوية حتى توفي بها. وروى البخاري (1178) ومسلم (721) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر». وروى البخاري (5971) ومسلم (2548) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: " ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»، فكان أبو هريرة يحسن صحبة أمه، ويجتهد في برها، روى ابن سعد (4/245) عن أبي هريرة قال: خرجت يوما من بيتي إلى المسجد لم يخرجني إلا الجوع. فوجدت نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ فقلت: ما أخرجني إلا الجوع. فقالوا: نحن والله ما أخرجنا إلا الجوع. فقمنا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بكم هذه الساعة؟ فقلنا: يا رسول الله جاء بنا الجوع. قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر فأعطى كل رجل منا تمرتين فقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا. قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حجرتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟ فقلت: رفعتها لأمي. فقال: كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين. فأكلتها فأعطاني لها تمرتين. وروى مسلم (1665) من طريق ابن شهاب الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للعبد المملوك المصلح أجران»، والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك "، قال: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. اعتزال أبي هريرة الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه: كان أبو هريرة رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم يشهد معركة الجمل ولا صفين، وقد اعتزل أكثر الصحابة رضي الله عنهم الفتنة، روى الخلال في كتاب السنة (2 / 466) بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضر فيها مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين". إنكار أبي هريرة على الأمراء: كان أبو هريرة رضي الله عنه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ولا يسكت عن منكر يراه من الأمراء، روى مسلم عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة». وتقدم ذكر إنكار أبي هريرة رضي الله عنه على بني أمية حين منعوا من دفن الحسن بن علي رضي الله عنهما بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى أحمد وصححه الأرناؤوط أنه قيل لمروان بن الحكم: هذا أبو هريرة على الباب، قال: ائذنوا له، قال: يا أبا هريرة، حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أوشك الرجل أن يتمنى أنه خر من الثريا، وأنه لم يتول من أمر الناس شيئا "، وسمعته يقول: " إن هلاك العرب بيدي فتية من قريش " قال: قال مروان: بئس والله الفتية هؤلاء. وروى البخاري الشطر الأخير منه، وزاد في روايته: قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم بني فلان، وبني فلان. وترك تسمية أبي هريرة رضي الله عنه لأولئك الأمراء لا ينبني عليه عمل، وهو من باب ترك ما يؤدي إلى الفتنة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ". قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 216): "حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم". وأيضا لم يحدث أبو هريرة رضي الله عنه الناس بما لا تبلغه عقولهم، وهذا من حكمة أبي هريرة رضي الله عنه، روى ابن سعد في الطبقات (4/331) عن أبي هريرة أنه كان يقول: لو أنبأتكم ما أعلم، لرماني الناس بالخزف، وقالوا: أبو هريرة مجنون. وروى ابن سعد أيضا (4/331 عن الحسن قال: قال أبو هريرة: لو حدثتكم كل ما في كيسي، لرميتموني بالبعر. قال الحسن: صدق، والله لو حدثهم أن بيت الله يهدم أو يحرق ما صدقه الناس. وروى الحاكم (3/509) عن أبي رافع قال: سمعت أبا هريرة يقول: حفظت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث ما حدثتكم بها، ولو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالأحجار!! صفة خَلق أبي هريرة وخُلُقه: قال ابن سيرين: كان أبو هريرة أبيض، لينا، لحيته حمراء. وقال عبد الرحمن بن لبينة الطائفي: كان أبو هريرة رجلا آدم، بعيد المنكبين، أفرق الثنيتين، ذا ضفيرتين. ولا منافاة بين وصف ابن سيرين له بالبياض ووصف ابن لبينة له بأنه آدم، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 168): " العرب إذا قالت: فلان أبيض، فإنهم يريدون الحنطي اللون بحلية سوداء. فإن كان في لون أهل الهند، قالوا: أسمر، وآدم. وإن كان في سواد التكرور، قالوا: أسود. وكذا كل من غلب عليه السواد، قالوا: أسود، أو شديد الأدمة". وكان أبو هريرة طيب الأخلاق كريما، شديد التواضع. قال عبد الله بن رباح: سافرنا مع أبي هريرة فكان يكثر أن يدعونا للطعام إلى رحله. قال أبو رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب حمارا ببرذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، فيسير، فيلقى الرجل، فيقول: الطريق! قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، فلا يشعرون حتى يلقي نفسه بينهم. وكان أبو هريرة إذا طلب من أهله طعاما يقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا. قال: إني صائم. وعن أبي المتوكل الناجي أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له أمة زنجية قد غَمَّتْهُم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه – يعني الله عز وجل- اذهبي فأنت حرة لله. شدة خوف أبي هريرة من الله سبحانه: كان أبو هريرة رضي الله عنه شديد الخوف من الله، وإنما العلم الخشية، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. عن ميمون بن ميسرة قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم: أول النهار وآخره، يقول: ذهب الليل وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمعه أحد إلا استعاذ بالله من النار. وروى ابن المبارك عن وهيب بن الورد عن سلم بن بشير: أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي؟ وروى ابن سعد (4/251) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه دخل على أبي هريرة وهو مريض فقال: اللهم اشف أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم لا ترجعني. قال فأعادها مرتين. فقال له أبو هريرة: يا أبا سلمة إن استطعت أن تموت فمت. فو الذي نفس أبي هريرة بيده ليوشكن أن يأتي على العلماء زمن يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر. أو ليوشكن أن يأتي على الناس زمان يأتي الرجل قبر المسلم فيقول: وددت أني صاحب هذا القبر. وروى مالك عن المقبري قال: قال أبو هريرة في مرضه الذي مات فيه: اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي. وروى ابن سعد (4/252) عن سعيد قال: لما نزل بأبي هريرة الموت قال: لا تضربوا على قبري فسطاطا ولا تتبعوني بنار فإذا حملتموني فأسرعوا، فإن أكن صالحا تأتون بي إلى ربي، وإن أكن غير ذلك فإنما هو شيء تطرحونه عن رقابكم. وفاة أبي هريرة رضي الله عنه: مات رضي الله عنه سنة سبع وخمسين للهجرة عن ثمان وسبعين سنة، صحب الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وعاش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم 47 عاما داعيا إلى الله، معلما للقرآن والسنة، عاملا بعلمه، مجتهدا في عبادة الله ذكرا وصلاة وصياما وقراءة للقرآن وتعليما، فرحمه الله ورضي عنه، وجزاه عن المسلمين خيرا بما حفظ من سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. روى ابن سعد (4/253) عن نافع قال: كنت مع عبد الله بن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين. وفي الختام أسأل الله أن ينفعنا بكتابه وسنة رسوله، وأن يعلمنا الحكمة والتفسير، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا من المعتصمين بكتابه والمتمسكين بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يوفقنا لاتباع سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وجميع الآل والأصحاب، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم المعاد. ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/72045/#ixzz5DbNg7qbf