الأستاذ الفاضل، لقد قرأت مقالكم الذي نشرتموه تحت عنوان: "قبل أن يسقط المغرب من الذاكرة المشرقية"، فانتابتني سعادة ممزوجة بعتاب. سعادة، لأن قلماً في مستوى قلمكم وضع الأصبع على جرح ينزف في صمت في هذا الركن من "الوطن العربي".. وعتاب، لأن هذا المقال كشف أن الصورة غير واضحة أمام إخواننا في المشرق..ولن نقبل عذرا منهم انشغالهم بمشاكلهم التي هي أكثر من الهم على القلب.. وفي سياق هذا العتاب، أتمنى أن يتسع صدر الأستاذ هويدي لبعض رؤوس الأقلام التي استوحيتها مما ورد في مقاله المشار إليه.. (1) في ما يخص العلاقة مع الجزائر.. قال لوناس بلقاسم، رئيس الكونغرس العالمي الأمازيغي، في الندوة الصحفية التي عقدها المكتب الفيدرالي لهذا المجلس نهاية الشهر الماضي بالعاصمة الرباط: "عندما كنت طفلا في المدرسة بالجزائر، كان المعلم يقول لنا: عندكم عدوان اثنان، هما ..اليهود والمغاربة". وهذا الكلام يختزل كل ما يمكن أن يقال عن العلاقة بين البلدين، لكن تبقى هناك بعض الملاحظات: الأولى، أنه ترسخ في الوجدان العربي أن الجزائر هي الشقيقة الصغرى التي دفعت ثمنا غاليا مقابل استقلال تأخر كثيرا، بعد احتلال دام طويلاً، وهذه الصورة لازالت حاضرة خاصة لدى الأخوة في المشرق، وهذا ما يفسر أنه رغم عدم دولة عربية تعترف ب"الجمهورية الصحراوية" ..الدولة العربية رقم 23- باستثناء الجزائر نفسها وليبيا- فإن الجامعة العربية لم يصدر عنها على حد علمي- أية توصية تصب في اتجاه دعم الوحدة الترابية للمغرب. أما الملاحظة الثانية، فتتمثل في أنه بإمكان أي كان الاستعانة بمحركات البحث في أرشيف أية جريدة جزائرية عن كلمة "المغرب" أو "المملكة المغربية" ليرى كمَّ الحقد والضغينة والتحامل لأسباب نعترف صراحة أننا نجهلها..باستثناء حب الرياسة، لأن الجزائر تريد أن تكون القوة الأولى والوحيدة في المنطقة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، ولا تؤمن بالتكامل الذي جمع بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا..تحت سقف الاتحاد الأوروبي.. أما الثالثة، وهي إعلامية أيضا، فحبذا لو واظب الأستاذ هويدي على متابعة النشرات الإخبارية للقنوات الجزائرية الرسمية ليرى كيف أن قضية الصحراء تأتي في المرتبة الثانية دائماً من حيث الأهمية بعد الأنشطة الرئاسية والحكومية، حتى لو احترقت الكرة الأرضية.. أما الرابعة والأخيرة، فقد جاء على لسان وزير الخارجية الجزائري عند استقباله لسفراء بلده قبل نهاية السنة الماضية لإطلاعهم على خريطة الطريق الديبلوماسية المعتمدة، أن "القضية الصحراوية" تأتي في المرتبة الأولى من حيث الأهمية، بعيدا جدا في المقدمة، قبل القضية الفلسطينية وملفات العراق ولبنان والسودان والصومال.. (2) في ما يخص العلاقة مع إسبانيا... صحيح أن الموقف العربي متخاذل على طول الخط حتى في القضايا المصيرية والاستراتيجية، لكن لا ندري لماذا كلما كانت هناك أزمة بين المغرب وإسبانيا - صغرت أو كبرت-، إلا وفضل العرب وجامعتهم الاختباء وراء "اذهب أنت وربك فقاتلا إننا ها هنا قاعدون"، والأمر لا يرجع إلى تقصير النخب المغربية في التعريف بقضايا بلدهم المصيرية، بل إلى كون الأمر بالنسبة للإخوة المشارقة تجاوز اللامبالاة التقليدية، إلى ما يمكن أن نعتبره تواطؤا مع "الطرف المعادي" ليس بالصمت كما جرت العادة، بل بكلام صريح لا يحتمل ويحتمل، كما حدث خلال المواجهة "العسكرية" بين المغرب وإسبانيا بسبب جزيرة "ليلى"... يومها طلع السيد عمرو موسى بتصريح مؤداه أن الوقت غير مناسب ل"فتح هذه الجبهة"، وكأن الأمن -وليس الجيش- المغربي تحرك لاسترجاع الأندلس، والحال أن الدولة المغربية مارست سيادتها على جزء من التراب المغربي لمحاربة الهجرة السرية وتهريب المخدرات..فقط ليس إلا.. (3) - فيما يخص اللغة العربية.. يبدو أن الأستاذ هويدي لم يجتمع خلال مقامه القصير بمدينة فاس سوى مع من ينظرون إلى نصف الكأس الفارغ في ما يتعلق بحاضر اللغة العربية. ولو أنه كتب ما كتبه قبل عقد أو عقدين من الآن، لكان معه كامل الحق، لكن الصورة التي رسمت له بعيدة جداً عن الواقع في اعتقادي. لا أنكر بداية أن اللغة العربية تعرضت وما تزال تتعرض لهجمات متتالية وستتواصل المعركة بشراسة في المستقبل، لأن اللغة في اعتقاد كثيرين هي النقطة الأضعف التي يمكن أن تؤتى منها الهوية، في إطار السعي الحثيث لعزل المغرب عن محيطه العربي والإفريقي. وإلى ذلك، فغلبة اللغة الأجنبية أمر عاد في بلد تعرض كغيره من البلدان العربية للهزيمة النفسية التي كرست نظرية ابن خلدون حول كون المغلوب مجبورا على تقليد الغالب...وإن كنت على يقين أن الأذن قد تشتاق إلى اللغة العربية في دبي مثلا، أكثر من اشتياقها لها في فاس..علما أن اللهجة الفاسية من أقرب اللهجات إلى الفصحى. ومن المؤشرات المعبرة في هذا الباب : - القرار الذي اتخذه وزير الداخلية الحالي غداة تعيينه في منصبه بفرض استعمال اللغة العربية في كافة الوثائق الإدارية بالوزارة رغم أنه خريج جامعة بوردو، وهو قرار كان من المستحيل تصوره قبل سنوات معدودة، بل إن وزير تحديث القطاعات العامة في حكومة عبد الرحمان اليوسفي تعرض لهجمة شرسة فقط لأنه طلب تحرير لوائح الموظفين باللغة الرسمية المنصوص عليها في الدستور. - إقبال مجموعة من الوزراء في الحكومة الحالية وعدد من كبار المسؤولين على تعلم اللغة العربية عبر "دروس خصوصية"، وهو مؤشر على الضغوط التي أصبحوا يتعرضون لها من طرف الرأي العام، بسبب إصرارهم على استعمال اللغة الأجنبية في المناسبات الرسمية وغير الرسمية. - تصفح بسيط للجرائد اليومية الصادرة في المغرب كاف لاكتشاف أنها تحتل موقعا متقدما على المستوى العربي فيما يخص إجادة استعمال اللغة العربية، وهي خاصية تشاركها فيها الصحف المغاربية في الجزائر وتونس.. حيث لا (تظهر الياء المتطرفة في الأصل بدون نقطتين كالمعتاد لدى المصريين على رأي الأستاذ الدكتور حسيب شحادة)..وغير ذلك من الأخطاء الإملائية..الشائعة.. - الدعوة إلى استعمال العامية بدل الفصحى، إضافة إلى أنها فكرة ظهرت وانطلقت من المشرق العربي...هي إلى ذلك مؤشر على فشل مشاريع الفرنكوفونية التي ظلت تناضل من أجلها طيلة أكثر من قرن من الزمن، نصفها تحت الاحتلال، ونصفها الآخر في عهد الاستقلال.. كما أن الفشل المبكر ل"صحافة اللهجات"..مؤشر على انه لا خوف على العربية في المغرب لا حاضرا ولا مستقبلا.. - بالنسبة للأمازيغية، لو أنها ظلت حدود المطلب اللغوي والثقافي، لكانت لها مكانتها التي تستحقها كمكون من مكونات الشخصية والهوية المغربيتين، لكن إصرار البعض على تقديمها تعلى إنها النقيض المباشر لكل ما هو عربي وإسلامي، جعلها تقع في العدمية، ومن الغرائب أن أنصار هذا التيار يروجون أفكارهم باللغة العربية الفصحى، بل إن منهم من لا يتكلم أبناؤه أصلا "اللغة" التي يدعي الدفاع عنها.. (4) - على سبيل الخلاصة لا أشعر بالحرج ولا بالتردد حين أقول جازما لقد سقط المغرب فعلا من الذاكرة المشرقية، والدليل واضح -أستاذي الكريم-في مقالكم المشار إليه.. فحين يفاجأ صحفي مخضرم معروف باهتماماته القومية والإسلامية، بحجم الأزمة بين المغرب والجزائر والتي بلغت حد قرع طبول الحرب، وبينه وبين إسبانيا، والتي تجاوزت في الأشهر الأخيرة حدود المناكفة المعتادة، وحين يقف مشدوها أمام مسيرة الدارالبيضاء وملايينها الغاضبة، التي لا تجد لها صدى في الصحافة المصرية، هل تبقى هناك حاجة أصلا للتحذير من سقوط المغرب من الذاكرة المشرقية.. لقد قُضم جناح الأمة الشرقي ممثلا في العراق بمساعدة الجيران، وتم تمزيق السودان، خزان الأمة وضامن أمنها الغذائي، بمساعدة الجيران، واليوم هناك محاولة لقضم جناحها الغربي، وبمساعدة الجيران هنا أيضا.. كل هذا يحدث، والذاكرة المشرقية منشغلة بمشاكل أكثر من الهم على القلب..أتفق مع الأستاذ فهمي هويدي في أنها لا تغفر لهم أن يسقطوا المغرب من حساباتهم، ويتركوه نهبا للطامعين والكائدين والمتفرنسين.. أما التطبيع مع إسرائيل..فتلك قصة أخرى تحتاج إلى كلام طويل وطويل جداً، ملخصه جواب عن سؤال من قبيل :ماذا لو وضع أي مواطن مغربي في موقع اختيار بين الصحراء وفلسطين؟ * صحفي وكاتب مغربي [email protected]