القرآن نور متبلور في القلوب، ومنبع نور للقلوب، ومعرض حقائق، ولكنه لا يعرفه على حقيقته سوى القلوب التي تستطيع حدس كل جمال الكون عند رؤيتها لزهرة واحدة، ومشاهدة طوفان من رؤية قطرة واحدة. هكذا يعرف الأستاذ محمد فتح الله كولن القرآن الكريم في كتابه (الموازين أو أضواء على الطريق) الذي كتبه بالتركية وترجمه إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي، وصدر عن (دار النيل للطباعة والنشر) في القاهرة. ففي تأملاته النورانية في القرآن الكريم، يقول المؤلف : «استطاع الإنسان بفضل القرآن أن يصل إلى مرتبة سامية، وهي مرتبة مخاطبة الله تعالى. والإنسان الذي يعي وصوله إلى هذه المرتبة، إن حلف أنه استمع بلسان القرآن الكريم إلى الله وأنه تحدث معه، لا يكون حانثاً في حلفه». ويقول عن فضائل القرآن ومكارمه في عبارات مشرقة : «القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعلّم الإنسان معنى الإنسان وماهيته والحق والحكمة وذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى، وذلك بأدق ميزان. وليس هناك كتاب يماثله في هذا الميدان أبداً. ولو طالعت حكم الأصفياء والأولياء وفلسفة الفلاسفة الباحثين عن الحق، لعرفت ذلك بنفسك». إن المؤلف يدرك إدراكاً عميقاً الأهدافَ التي يسعى إلى تحقيقها أعداء القرآن وهم كثر ، فيقول موضحاً هذا الأمر : «والذين يرون القرآن منبعاً للأساطير والخرافات، هم الذين ورثوا هذا الهذيان الأحمق من عصر الجاهلية العربية قبل أربعة عشر قرناً. والحكمة والفلسفة الحقيقية تسخران من هذه النظرة». ثم يستطرد في كشف نوايا من يهاجم القرآن وقد نشطوا في الفترة الأخيرة متحدياً إياهم قائلاً : «ويا ليت الذين يهجمون على القرآن وعلى تعاليمه، يستطيعون تقديم أي شيء بديلاً عنه لصالح النظام البشري وأمنه وسعاته. والحقيقة أن من الصعب جداً فهم سبب هذا التمرد وهذا العناد ضد القرآن في الوقت الذي تتخبط فيه جميع الحضارات والمدنيات المخالفة لتعاليم القرآن وتعاني الويل والثبور وتتجرع الآلام، كما تعاني جميع القلوب الخالية من نور القرآن أزمات نفسية حادة ومؤلمة». والمؤلف يضع يده على مفصل الصراع المحتدم اليوم كما كان محتدماً طيلة القرون الماضية بين المؤمنين بالقرآن وبين المحاربين له بشتى الأساليب. وقد ظهر منها اليوم أسلوب في غاية الدهاء والمكر والخداع، وهو (محاربة القرآن من الداخل)، من خلال التأليف في موضوعات قرآنية من مثل (مدخل إلى القرآن)، و(فهم القرآن)، و(قراءة معاصرة للقرآن)، و(القرآن والكتاب)، و(تاريخ القرآن)، و(القرآن والتأويل)، و(تاريخانية (؟) القرآن)، إلى آخر هذه العناوين التي تنتشر اليوم ويروج لها على نطاق واسع. يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن : «الذي يؤمن بالقرآن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والذي يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، يؤمن بالله تعالى. فمن لا يؤمن بالقرآن لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يؤمن بالله تعالى ... هذه هي أبعاد الإسلام الحقيقية». وقياساً على هذه الحقيقة الإيمانية، أقول إن من وضع كتاباً في الفلسفة مخصصاً للمدارس الثانوية يكفر فيه بالله تعالى وينكر الوحي ويشكك في مبادئ الإيمان، وهو الكتاب الذي اعتمد في مدارس الدولة لمدة ثلاث عشرة سنة، كيف نثق فيه ونقبل منه اليوم أن يكتب لنا عن مدخل القرآن وعن فهم القرآن؟؟. لقد وجدت الأستاذ محمد فتح الله كولن متفائلاً بحكم إيمانه القوي الثابت الراسخ. وأنا أشاركه هذا التفاؤل، فهو يقول : «أنا أرى بأنه في المستقبل القريب ستشاهد الإنسانية بنظرات ملؤها الإعجاب والتقدير، كيف أن شلالات مختلف العلوم والفنون تتجه نحو القرآن وتصبّ فيه. عند ذلك سيجد العلماء والباحثون والفنانون أنفسهم في البحر نفسه. ليس من المبالغة أبداً النظر إلى المستقبل بأنه سيكون عهد القرآن، ذلك لأنه الكلام الذي يرى الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد». فقطعاً ويقيناً أن المستقبل للقرآن الكريم، وإن الإنسانية ستؤوب إلى القرآن طال الزمن أم قصر. نقول هذا عن يقين مطلق وإيمان كامل لا تزيده الأيام إلاّ رسوخاً ووثوقاً. والمؤلف يعبر عن هذا اليقين في جميع مؤلفاته. ففي كتابه (أضواء قرآنية في سماء الوجدان)، يذهب الأستاذ محمد فتح الله كولن مذهباً جديداً في تفسير الآية العاشرة من سورة الأنبياء : ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون﴾، فيقول : «إن هذه الآية الكريمة تشير لمخاطبيها آنذاك بالوضع الذي سيتبوأونه في المستقبل، وتقول إنكم ستشغلون في المستقبل موقعاً مشرفاً لن تستطيع أمة أخرى بلوغه، وإن هذا القرآن سيحفظ لسانكم ولغتكم من الضياع والسقوط، ويبقى مرجعاً لكل من يريد فهم دينه. نجد هذا المعنى في كلمة (ذكركم). وهي كلمة لا تفيد معنى الموعظة فحسب، بل تشمل أيضاً معنى بقاء ذكركم، وعدم نسيانه، وعدم زواله». وهذا معنى عميق وفهم مستنير للآية الكريمة، اهتدى إليه المؤلف المفعم قلبه بنور القرآن المشرق قلمه من نور القرآن، فجاء شرحه لها وتأمله فيها، مشبعاً بنسائم القرآن مضمخاً بعطره الفواح. ويبلغ المؤلف مستوى راقياً من الإبداع البياني في شرحه للآية السابعة والثمانين من سورة الأنبياء ﴿فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾، فيقول : «إذا تناولنا هذه الآية نراها تعلن عظمة الله ووحدانيته بكل قوة ﴿لا إله إلا أنت﴾. وهنا أمر أشار إليه بديع الزمان سعيد النورسي (وهو أستاذه وشيخه)، وهو كون ﴿لا إله إلا أنت﴾ جملة مشيرة إلى مستقبلنا. أجل!. فلو تناولنا الموضوع ضمن قاعدة (الانطباق مع مقتضى الحال)، فإن الله تعالى وحده هو الذي يستطيع أن ينقذنا سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع من الظلام إلى النور، وأن يوصلنا إلى شاطئ السلامة. ويكون هذا بشعار ﴿لا إله إلا أنت﴾ الذي يحتوي على جميع أنواع التوحيد». ويختم المؤلف شرحه هذا بقوله البليغ : «ولكن يجب هنا الإشارة إلى أمر آخر. وهو أن النبي يونس عليه السلام نادى ﴿لا إله إلا أنت﴾ بسبب الظرف الخاص المحيط به. أما نحن فنقول (لا إله إلا الله) بدلاً من (لا إله إلا أنت) بسبب الظروف المحيطة بنا ..». وهذه سباحة في بحر معاني القرآن لاستخراج اللآلئ من أعماقه، على نحو يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل ربطاً يحمل على التأمل في واقعنا المعيش. لقد صدق المؤلف حينما قال في كتابه (الموازين) : «إن الذين يحولون دون فهم المسلمين لقرآنهم والتعمق في معانيه، يكونون قد حالوا بينهم وبين روح الدين وبين لب الإسلام وجوهره». وأعرف رهطاً من هؤلاء الذين يمتهنون الكتابة في الصحف والمجلات ويصدرون الكتب تباعاً، وشغلهم الشاغل هو الحؤول بين المسلمين وبين التعمق في فهم كتاب الله وتدبره على النحو الذي يملأ قلوبهم بأنوار القرآن. وفي فترة سابقة كان جل هؤلاء ممن هم من غير جلدتنا، أما اليوم، فقد تواطأ هؤلاء مع أندادهم من البلدان الغربية، وصاروا من عتاة خصوم القرآن وإن تحت شعار (القراءة الجديدة للقرآن) أو (الفهم المستنير للقرآن). والغريب أن لا أحد يتصدى لهم بالعلم وبالفكر وبالحجة والمنطق، عدا قلة محدودة من الغيورين على دينهم تقوم بواجبها في هذا الصدد في حدود ضيقة. تصحيح : في مقالي ما قبل الأخير (نفحات قرآنية من نسمات تركية)، أشرت إلى الدكتور (سعاد يلدرم) الذي كتب مقدمة لكتاب (أضواء قرآنية في سماء الوجدان) لمؤلفه الأستاذ محمد فتح الله كولن. وكنت أحسب أن هذا الاسم (سعاد) للأنثى، كما هو شائع عندنا في البلاد العربية، إلى أن نبهني الأستاذ الفاضل إحسان قاسم الصالحي، خلال لقائي به في زيارته الأخيرة للمغرب لحضور الدروس الحسنية، إلى أنه اسم لذكر، هو العلامة البروفيسور سعاد الأستاذ بجامعة مرمرة في استانبول. فوجب الاعتذار للدكتور سعاد وللقراء.