1 - قامة تظلل الكونَ من لفح الغباء: في فضاءٍ؛ كهذا المؤَثث بعبق الوفاء، والمعشَّق بياقوت العرفان والتقدير، أجدُني أتصببُ هيبة وتهيُّبا في حضرة هذه القامة التي تظلل الكون من لَفح الغباء، فأغدو قطرة حبرٍ، وعينَ حرفٍ، تَتَأَمْثَلاَنِهِ كَأنه المقصود بقول أبي تمام: مُتَوَقِّدٌ مِنْهُ اُلزَّمَانُ، وَرُبَّمَا كَانَ اُلزَّمَانُ بِآخَرِينَ بَلِيدَا وتستحضران شموخه في الأزمنة، وشموخ الأزمنة به، وائْتلاقه في الأمكنة، وائتلاقَ الأمكنة به: فاس تاج الروح، وبغداد فردوس المعرفة، و الأندلس وطن اكتمال البهاء، وغيرها من الأمكنة الكونية التي أبصرت بحدسه وبصيرته ما لم تُبصر بعقلها. هذه القيمة الكونية المثلى اسمها محمد السرغيني، وأسمح لنفسي أن تُحلل اللقب إلى مقطعين هما: (السِّرُّ الغَنِيُّ)، وتقرأه بهذا المعنى النَّضَّاخِ بالدلالات الكبرى، دون السقوط في فخِّ التعريف. فهو أسمى من أن يعرف به، وهل الشمس تحتاج أن تعرفها العين للعين، والنبتة لجذرها؟. منذ يفاعةٍ مُنْذَرِرَةٍ في شعاب الكلمة اصطادني أستاذنا الدكتور محمد السرغيني كما يصطاد الشيخ العارف بلوامِعِ إشاراته طير الوجدان بنص «أيها الضباع» في»آفاق» اتحاد كتاب المغرب. ومن ذلك الحين، وأنا بكلماته أتجَدَّدُ، وأحترق صلاة في محراب التفرد. ونحن إذْ نقف في قوس حضرته، مستمدين البهجةَ من فيوض مُنَّته، ولأْلاَءِ حكمته ،نستحضر أسمى خصاله. فهو إذا نصحك أفهمك،و إذا قادك دلَّك، وإذا أخذك نهض بك، يُمسدك بيد نبله، ويشكلك من أريج فكره، فتنهض من طينك اللازب إلى ضرب من الحياة مضيءٍ كأنه الثريا. وإذا كان أولو الألباب، ممن سلف، وممن خلفَ، على امتداد الزمن شرقا وغربا، يتباهون بأنهم عاشوا مثلا في زمن هوميروس، أو سقراط، أو المتنبي، أو ابن سينا،أو دانتي، أو المعري، أو الخيام،أو جلال الدين الرومي، أو ابن رشد، أو طه حسين، أو ملارمي، أو أراغون، أو برْجْسُون، أو كَانَتْ، ومن إليهم، فإني أتباهى فرحا وتيهًا بأني عشت في زمن السرغيني بارك الله في عمره، وأنار بوارف معارفه حياتنا واستظللتُ بشساعة إنسانيته. فهو كونٌ معرفي في بِلَّوْرِ الصفاء، أتحدث عنه بلسان صدق في الحاضرين، وكلمة العارف سيدي أحمد الرفاعي المنقوشة على جدران القلب تقول لي: «ليس الرجل من يفتخر بشيخه، وإنما الرجل من يفتخر به شيخه» ولذا سأقتصر على البوح بما نقشه فِيَّ الدكتور محمد السرغيني، كذات يصعد دمها إلى القصيدة وفي القصيدة مكثفا ذلك في ثلاثة نقوش: ٭ أولها : صيانةُ مجهول القصيدة لقد تعلمت منه أن المعايير والقواعد لا يُمكن أن تَلِدَ القصيدة، وإن كانت القصيدة لا توجد إلا بهذه المعايير والقواعد، غير أن مضايق تلك ليست من قبيل مضايق هذه، فالفرق بين القصيدة وقاعدتها هو فرق فُسحة كامنة في الأزرق، لا تستطيع الإمساك بها أبدا،وكل ما في وُسعك هو الاقتراب منها، والإنصات إليها، و إلى ما في كلماتها من مجهول وضعه الشاعر ليبقى مجهولا، تسكن حقيقته ما يتعدى الكلمات، إ ذ الكلمات دائما ينقصها شيء عندما يتخلى عنها الشعر، وهذا الشيء هو الأسرار الكبرى التي تتنفس المجهول في فضاءات القصيدة. بهذا التصور وضعني على سكة كتابة الشعر، وعلمني أن له حقيقة خاصة به ممعنة في الصيرورة بها يؤسس معرفة متفردة خارج المعارف المتداولة، وينطق بما يختلف عن الحقيقة الراكضة في كلمات أخرى غير كلماته. إن حقيقته أطول من زمن إنصاتنا إليه، إنها تَجَدُّدُ التكوين في منعرجات أسرار كبرى، تنفتل من سلطة الإخضاع إلى ما لا حقيقة له، لتقاوم ما يعتقلنا من خطابات، وما يبتر وجداناتنا، وما يُلوث ذاكرتنا ويُنمطها. فهي تُعلن عن طريقٍ غير الطرق المعتادة، تزج بنا فيه لنعانق ما لا ينتهي بجسد الشعر؛ الذي هو أحد الأشكال الرمزية الأكثر تأثيرا في وجدان البشر، والأفضل استجابة لانتظاراتهم الروحية و الأعمق إضاءة للوجود. إذ به يحس الناس على الدوام بكون ينشأ ولا ينتهي..كونٍ تجذبهم الأسرار التي يتكلمها فيتسابقون نحوها...ولكنهم لا يصلون إليها لكونها مُمْعِنَةً في الهروب كما نُقطة في سرِّ التكوين، ضوؤها متموج برعشة المستحيل، يعيد تشكيل ذواتنا ووجوداتنا لتنطق بحقيقة عالم حيوي، تضوع فيه إرادة هذه الذوات والوجودات، وتتنافذ تنافذ الضوء في الماء والعطر في الصوت، وتسكن فيما تتوحد فيه من أسرار الوجود على الأرض. إن هذا السري هو الذي يُسكننا فيه الشعر، فَنَنْشَدُّ إلى اللانهائي سائرين على طريق المجاهدة لبلوغ صفاء اللمعة والنزول ضيوفًا دائمين فيه. حيث تكون الرؤية بجحيم الماء، واللغة بحجم الإبرة، مما يجعل التوتر المتولد عن هذا التباين صرخةً راجَّةً كالتي عبَّرَ عنها الشاعر ريلكه بقوله: من إذن، إن أنا صرختُ، من بين كتائب الملائكة يُمكن أن يسمعني؟! إنها قوة الرؤية المندفعة باتجاه الذات لحثِّها على السهر على اللغة في قصيِّها الأقصى، وإنقاذ الشعر من أجل إنقاذ اللغة. فالشعر مطلقا هو المتعدد الذي ينفرد بالإقامة في اللغة. وباستضافة لغة الآخر. إذ في أقصى اللغة شعريات تلتقي وتتحاور من خلال مؤشرات لا تنتهي، وبمجرد ما نروغ عن هذا الأقصى اللغوي بحجة الوصول إلى الجمهور العريض نكون قد دخلنا في عقد المنفعة الماحي للغة وللشعر معا، والشعر لم يكن شعرا إلا حينما ألغى العقود، وانفرد بالرحيل في الوعد، ونحو الأقصى المنصتة لغته إلى ما يُنصت إليه في المنعرجات والهوامش الكونية. يتجه نحو الحيوي الإنساني كأفق لمعنى جديد، ونحو المجهول كنغمة يتيمة، ضدًّا على خرائب المنفى ومنطق الاستهلاك. ٭ ثانيهما: تخليق الوجود بالكتابة الصوفية كما تعلمت منه أيضا كيف أصافي مجهول القصيدة، وكيف أَهْدِم منطق الاستهلاك، عن طريق الكتابة الصوفية التي هي كتابة رمزية بامتياز،وكتابةُ مجاهدة لتخليق الوجود، من ثمة كان الحديث عن الرمز فيها حديثا شاسعا يستغرق مُكونات هذا الوجود،لأنها كتابة لا تقوم على إقصاء الآخر و إلغائه ايًّا كان، أو إهمال قيمه أو تجاهل خصوصياته. فهي طريق الحداثة الحق الذي فتح الأستاذ السرغيني بصيرتي عليه، حين رسم لنا صُواهُ ومعالمه اللامتناهية الأبعاد في الذات والزمان، فأدركت، وأدركنا،أن اليقين الحقيقي يثوي خلف المُدركات الظاهرية، وأن الصوفية بعدٌ شعري حداثي رحيب، يُخرج الذات من الراكد الراهن ويحقق ذاتية المبدع، ويُؤصل فرديته كإنسان فاعلٍ متفردٍ في الوجود ومتفاعل معه. فالذات النازفة تحت ضغط انعدام اليقين الروحي في عالم متلاطمٍ زاخرٍ بالنفعية المادية قد تفجرت، وتولد فيها الشعور بسلوك طريق التصوف كمخرج طبيعي من الفوضى ومن ظلمة الكاوس chaos بمعناه الفلسفي. فالبديل المناقض للواقع لن يتحقق إلا في الذات وعالم التصوف، شريطة أن يكون هذا العالم عالمَ إبداع، وتصوفهُ تصوف قوة خَلاَّقَةٍ، لاَ تَصوف تَخَاذُلٍ وخنوع، وهروبٍ وانكسار، وإحباط واجترار. فبالرؤيا الصوفية يتقوى رفضُ الشاعر للظواهر الخارجية العيانية، وينفسح أمامه المجال لخلق عالم مفارق يستند إلى داخليته وجوهره المغاير للظاهر، فيتمثل الحقيقة في أجلى حالات الصفاء عن طريق الرؤيا الكشفية باعتبار أن المعادلة العقلية قد تحتاج إلى أكثر من وسيلة للوصول إلى الحقيقة المطلقة. ومن هنا يتجلَّى تماس الصوفية كبعد روحي ميتافيزيقي مع الشعر لخلق واقعٍ آخر يفارق الواقعَ الموضوعي، فكل من الشعر والتصوف يلتقي في التعالي عن الظاهر بغية استشراف أبعاد ماورائية. وإذن؛ فنزوع الشعر إلى الكتابة بحبر التصوف المضيء هو نزوع إلى البحث في مجال روحاني لِرَوْحَنَةِ الذات القلقة، والتسامي بها عن طريق تلاشي الحواس الظاهرية للاستمداد من ينبوع الذات بوصفها مصدرا لطاقةٍ كامنةٍ يتسرَّرُ في طبقاتها الإشعاع الروحي، وبحكم كونِ الشعر ينزع من الداخل إلى الخارج، ويهتضم الواقع ويتمثله عن طريق الرؤيا التي تُحيل التناقض إلى انسجام وألفة. وما نعنيه بصوفية الشاعر هنا ليس سوى تلك الحالة الوجودية التي يتلبسها الشاعر، والتي يكون فيها ارتباطهُ بالعالم الحسي مشروطا بارتباطٍ آخر لاحِسِّي، أي أن إبداعه الشعري يكون مظهرا شعوريا صوفيا وميتافيزيقيا لا يرتبط بثقافة معينة، ولا بجنسٍ إنساني بعينه، بل هو تجربة حياة تهيأت له نتيجة تكامل معطيات ذاتية مع أخرى موضعية، فأتى كنظرة مخصوصة إلى الكون. بهذه الخطوة وضعني الدكتور السرغيني في عمق التصوف كشاعر، فَتَشَرَّبْتُهُ منه أكثر مما تشربته من الزاوية ، وعَلِقْتُهُ كحاجة روحية و إبداعية، وكحبل سُرِّي يرتبط أصلا بالإنسان حيثما كان و أينما وُجِدَ، بقطع النظر عن لونه وجنسه ومعتقده وموطنه، إذ هو بهذا المفهوم لا يقتصر على مجتمع دون غيره، لأنه ظاهرة في المجتمعات الإنسانية، ونزعة طبيعية فردية في كل إنسان، واستجابةٌ لحنين الروح إلى مصدرها الأول عن طريق الكشف أو الاستغراق الذاتي قصد استجلاء عوالم خفية باطنية. ولذلك؛ فإن صوفية الشاعر ليست صوفية دين ما، أو صوفية مذهب ما، أو صوفية عقيدة ما، وإنما هي صوفية شعر نابع من معاناة ومواجهة الذات الشاعرة كفاعلة في الوجود مُتفاعلةٍ معه، الأمر الذي ينتج عنه توتر باعثُه إحساس الشاعر بضيق الرؤية، وبعدم اتساع رؤيته إن هو لم يتجاوز أفقه الإنساني برؤيا شاملة تمكنه من أن يظل يُفاعل الوجود مُفاعلةَ الرافض المُغير المُكّيِّف. فصوفيته انبثاق من وجدانية أدبية ذوقية حدسية، تلاحظ الواقع، وتنقده إشارةً لا تصريحاً، وفيما هي تفعل ذلك بالأشياء المرئية والمعلومة، تشير إلى الأشياء الغير المرئية وتدل عليها. هكذا يتقاطع الشعر مع التصوف، يتقاطعان: I. في الرؤية الإنسانية للإنسان. II. وفي الارتقاء بالروح إلى مدارج السمو III. وفي استشفاف المجهول، واكتشاف ما يختبيء وراء هذا الستار الكثيف الذي هو الواقع اليومي الأليف. وعن هذا التقاطع وفيه يقول الشاعر الصوفي حسب تعبير رُوبِرْتْ بْرُوكْ :» أنا لا أعني أي شيء ديني، ولا أي شكل من أشكال الإيمان ، وإنما صوفيتي في أساسها هي النظرة إلى الناس و الأشياء لذاتهم». لأن لحظة الإبداع لديه لحظةَ التأمل الصوفي هما لحظة إشراق معرفي تعتمد العرفانية، وتتجرَّدُ من أعباء المذهبية والعرقية لتلج جوهر الإنسان، وتغرف من منبع الإلهام الشعري، ولو لم تكن هذه الصوفية في الذات الشاعرة لكان الشعر أقرب إلى التقريرية والموضوعية، والمباشرة منه إلى الإيحاء. ألم يَقُلْ أستاذنا الشاعر الدكتور محمد السرغيني :» لا يستطيع استيعاب الشعر غير التصوف معرفةً وسلوكاً وتذوقًا». ٭ ثالثها: حضور الروح في المادة وتعلمتُ منه ثالثا أن التعبير في كل فن من الفنون تتطور أسبابه مع الزمان، فيزداد القصد منه غموضا وخفاء، من خلال تغير هذه الأسباب، حتى ليتعذر علينا يومًا أن نقف على دلالة فن ما، إذ تحول بيننا وبينه أساليبُ للأداء جديدةٌ تقطع كل سبل التواصل المعتادة، ومن ثمة يتعيَّنُ البحث عن سُبُل أخرى جديدةٍ للتواصل مع هذا التطور في أساليب الأداء. ولا ريب أن المبدع العبقري يُعرف بأنه يتخطى أدوات تعبيره، فتكون مُقومات إبداعه عابرةً الزمنَ، محتفظةَ بشيء لا يزول، ذلك أن العبقرية الحق تنفلت من وسائلها بعد أن تُسخِّرها، كأن الذي بقصدها يفوق بتعبيرها، حتى إنه إذا همدت أنفاس التعبير، لم يزل تَفجُّر القصد يتطاير شَرَرُهُ. وعلى وجه التدقيق ؛ فإن الروح يُعرف بهذه الوثبة غير المتزنة في بعض الشيء، و لأجلها يتحفز على المادة، ويشعُّ من خلالها، فتستقر استقرارا نهائيا، ويتجدَّدُ شبابها كلما عرف مبدع كيف يكتشف فيها حضور الروح. وهذا التجاوز والاكتشاف مشروط بالحرية ، والحرية سِمَتُهَا أنها تقبل الشك، مثلها في ذلك مثل سائر القيم الإنسانية، إذ لا حرية و لا حقيقة أُنْجزت وفُرغ منها فأمكن عرضها و كأنها العضلة قد قاومت وقاحة المرتاب، وكما أن الحقيقة لا تصاغ في القوالب، فكذلك الحرية لا تُبسط بالبراهين. والحقيقة لا أحد يتلوها علينا إذ هي عرضٌ لذواتنا على الواقع، بحيث لا مناصَ لنا من الدخول فيها على هَدْيِها. فالبرهان على الحرية للنفس أو للآخرين هو إنكار لها، ومنعٌ مِنْ أن تُحَرِّرَ. ذلك أنها لا برهان عليها، وبصفتها هاته نحيا فيها، نعانيها إلى حدِّ المخاطرة بأنفسنا من أجلها. فهي لقاءٌ، ومن تعرف إليها أمست لديه حضورا خَلاَّقًا في الكيان وفي الأشياء، يراها في حدود ذاته وقد أخذت تتسع في تدريج بفعل ذلك الحضور، وفي المادة روحا موعودةً بالاكتشاف.أي أنها حضورٌ في العالم وفي الذات، وفي هذا «الشيء الأكثر» الذي يحمله كل إنسان وحده. ولهذا فإن مشيئة الحرية فينا هي التي تدفعنا إلى أن نخرق كثافة العالم كلها، فنُسخرها وكأنها مادة ابتسامنا الذاتي الفريد التي تساعدنا على اكتشاف حضور الروح فيما حولنا من عناصر مادية. فالكثافة حجبٌ لحضور الروح في المادة، ولذلك نراها كثيرة الترداد في المُنجز الشعري لأستاذنا السرغيني بوصفها مقولة دالة دلالة كلانية على هذا المنحى. إن الإبداع جسدٌ فردي يدفع كل واحد منا إلى أن يكون إنسانا، وجِدَّةُ فعل الخلق فيه هي خرق المألوف الناجز، وهي طبيعة المبدع بعينها منطلقة في مغامراتها لإنقاذ الإنسان الذي تدور في صميمه مأساة العالم. وما أصدق كَالِيغُولاَ في مسرحية كَامُو لما صاح:»ما أصعب أن تكون إنسانا!» وبخاصة في زمن مُتَعَوْلِمٍ، ينذر أن تقع فيه على يوم للإنسانية أصيلٍ، فالعالم فيه هو عالمٌ في منتهى التسطح..عَالَمُ من ليس له غدٌ و لا أملٌ..عالمٌ جَلاَّهُ باقتدار شعري شيخنا السرغيني في قصيدتيه الأخيرتين اللتين نشرهما في فبراير من هذا العام، وهما:» المآدب الأربع» و»ثلاث كلمات عن استدارة الدائرة». يقول في الأولى:
حَضَرَ اُلْمَأْدُبَةَ مُتَطَفِّلُونَ بِعَدَدِ اُلنَّمْلِ: كَلِمَاتٌ مُفْتَضَّاتٌ بَقَايَا عُشْبٍ صِنَاعِي أَبْوَاقٌ مَبْحُوحَةٌ غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِاُسْمِهَا. مَا فَسَحَ اُلْحَاضِرُونَ فِي مَجْلِسِهِمْ مَكَانًا لِلْحَدْسِ وَ لاَ تَمَاهَوْاْ فِي اُلْوَاقِعِ مَعَ حُلْمِ اُلْحُلُمْ. و يقول في الثانية: ثَلاَثُ بَجَعَاتٍ رَشَقْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ صَفْحَةَ «بُحَيْرَةِ اُلْبَجَعِ» اُلسِّاكِنَة تَرَكْنَ عَلَيْهَا ثَلاَثَ دَوَائِرَ: اُلْأَخِيرَةُ أَكْثَرُ إِحَاطَةً مِنَ اُلثَّانِيَة وَ اُُلثَّانِيَة ُ أَقَلُّ اُسْتِغْرَاقًا مِنَ اُلْأُولَى وَ اُلْأُولَى وَخْزَةٌ مِنْ سِنِّ إِبْرَة. -------------------------- -------------------------- أَيُّ اُلدَّوَائِرِ هُوَ اُلصِّفْرُ اُلْمُمْكِنُ وَ أَيُّهَا سُكُونٌ يَقِفُ عَلَيْهِ آخِرُ اُلْكَلاَمْ؟ -------------------------- -------------------------- اُلْمِشْنَقَةُ أَوَّلاً اُلْمِقْصَلَةُ ثَانِيًا اُلْمُنْجَنِيقُ ثَالِثًا اُلْغُبَارُ اُلذَّرِّي رَابِعًا ولغيري أن يرى السرغيني في صورة أخرى غير هاته التي رسمتها له هذه النقوش الثلاثة بألوان الذاكرة والسُّويداء. أما أنا فيكفيني أن أرى فيه مُنقذا لي من التيه في متاهات دونها متاهات بُورْخِيسْ. 2- يدٌ تكتب بإزميل النور: فهو يَدُ بهاء معرفي، تكتب بإزميل النور، وترسم بريشة العطر، وتُفكر بوجدان نبي وحصافة فيلسوف. هكذا أراه، وهكذا تراه ذاتي في مجرة إبداعه، لم أفهم «مواكب» جبران إلا بِنَفَسِه السيميائي، ولم أتَوَطَّن أرض الحداثة الشعرية الحق إلا في «بحار جبل قاف» و»ويكون إحراق أسمائه الآتية» و»الكائن السبئي» و»من فعل هذا بجماجمكم»و من أعلى قمم الاحتيال فاس» و «إرم» حيث أدركت أن الشعر انفلات وجودي، وأن الحقيقة شك لا يقين، وأن الحرية حضور في العالم وفي الذات. لقد قرأت وقرأتُ، وذوبتُ الذات في بحار المنجز النقدي وتياراته عَلِّي أعثر على لؤلؤة المستحيل التي تضعني في نبض النص ودَمِهِ أَيًّا كان، فوجدتُ الكثير الكثير من اللؤلؤ...ولكن لؤلؤة السرغيني النقدية التي سماها ب «بالمنهج المقولاتي» سبتني، ورفعتني إلى أفق معرفي شمولي لا تخوم له، أرى فيه النص المقارَب بها نابضا داخل خلاياي، مركوزا في الصيرورة ، مُزهرا بفلسفات ذات عُمْقٍ كوني وحضاري حي. بكلمات السرغيني ومنهجه المقولاتي أبصرتُ، وفهمتُ أسرار الشعر و إبدالاتها، ومكامنَ الجمالية والكونية في شعر الفيتوري وصلاح ستيته وغيرهما، وحرارة الشعرية الثاوية في التشكيل، فأصبحت «عن الشعر دائما» أقصر وجودي، علَّني أسمع أستاذي يقول لي:»وجدتك في هذا الأرخبيل» أيها التائه في جراحاته، والصارخ في «حانة روحه». سيدي السرغيني...يا أيها السر الغني؛ لَيْتَ شِعْرِي أَفِي زِمَامِ رِضَاكُمْ كُتِبَ اُسْمِي أَمْ فِي زِمَامِ اُلْهَوَانِ؟ إني لأراك وأنت في بهاء تجلياتك تواضعًا في شموخ وهمةً في سماحة، وحلما في حصافة، وفردوسَ معرفةٍ إنسانية، تجذبني إليك كما النورُ الفراشَ، حتى لأَجزم أن الإنسان الذي كان أبو تمام يبحث عنه حين قال: مَنْ لِي بإنْسَانٍ إذَا أَغْضَبْتُهُ وَ جَهِلْتُ كَانَ اُلْحِلْمُ رَدَّ جَوَابِهِ وَ إِذَا طَرِبْتُ إِلَى اُلْمُدَامِ شَرِبْتُ مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَسَكِرْتُ مِنْ آدَابِهِ وَ تَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيثِ بِقَلْبِهِ وَ بِعَقْلِهِ، وَ لَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ
(٭)هامش وتنويه: قدمت هذه الشهادة في الحفل التكريمي الذي أقامه مركز طارق بن زياد، وبيت الشعر في المغرب، واتحاد كتاب المغرب، للأستاذ الشاعر الدكتور محمد السرغيني في كلية الآداب بمكناس يومي 18،17 مارس 2007م احتفاءا به، وبصدور أعماله الكاملة من طرف وزارة الثقافة. وقد استضاءت الشهادة المذكورة بمؤلفات المحتفى به، وبالكتب والدوريات التالية: 1 - بدايات الخليقة، لرينه حبشي، ترجمه عن الفرنسية: خليل رامز سركيس، المنشورات العربية، المطبعة البولسية، بيروت 1968م. 2- النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، للدكتور محمد مصطفى هدارة، مجلة «فصول»، المجلد 1، العدد 4، القاهرة 1981م. 3 - صوفية الشاعر المعاصر: الظاهر والمفهوم، لأحمد بوزيان، مجلة «كتابات معاصرة»، المجلد 16،العدد 61، بيروت، أيلول/تشرين الأول 2006م. 4 - الحق في الشعر، للدكتور محمد بنيس، دار تبقال، ط1، البيضاء 2007م. 5 - القيم الشعرية والميراث الثقافي، للدكتور بنعيسى بوحمالة، العلم الثقافي، الرباط، الخميس 18 صفر 1428 ه / 08 مارس 2007م.