أزيد من أربعة عقود وصوته ينسل من أثير المايكروفون، ملازمًا أفراح المغاربة وأتراحهم. تعوّد المستمعون على لغته العربيته الأصيلة في وقت لم تكن فيه موجات الFM ولا الإذاعات الخاصة ولا الصحون الهوائية، إذ كانت النشرات الإخبارية والربورتاجات التي يقدمها تصل إلى كل فج عميق في مغرب سنوات الاستقلال الأولى وسنوات الجمر والرصاص. محمد بن ددوش، الرجل الذي أعلن الانقلاب العسكري على أثير الإذاعة الوطنية وعاد ليعلن فشله، يفتح قلبه في حوار مع هسبريس ينشر على جزأين، عن الأيام الأولى للاستقلال وكيف حزن المغاربة على رحيل محمد الخامس، عن تحكّم وزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري، بالإعلام المغربي وتحقيره للصحافيين، وعن واقعة الاستغناء عنه من طرف الرجل نفسه، قبل أن يطلب خدماته من جديد دون أن يقوى بن ددوش على الرفض لإحساسه أن مهنته كانت تخدم وطنه بالأساس. الجزء الثاني هل كان الملك حاضرًا في لحظة إعدام المتوّرطين في انقلاب الصخيرات عام 1971؟ أؤكد أنه كان حاضرًا، وقد تحدث معنا عندما كنا في طريقنا إلى مكان الإعدام، وقال لنا إننا تأخرنا ويجب أن نسرع الخطى. لقد كان يجلس بعيدًا عن مكان إعدام المحكوم عليهم. كيف كان إحساسك وأنت تشاهد منظرًا مباشرًا لقتل بشر بالرصاص؟ المنظر كان مأساويًا، فظيعًا.. لا أملك الكلمات لوصفه. أحد الضباط المعدمين كان يصرخ بأعلى صوته قبل قتله: "عاش الملك.. عاش الحسن الثاني". هل علمت أن هناك من كان بريئًا من تهمة الخيانة؟ لا أستطيع الجزم بذلك، فرغم عملنا في الصحافة، إلّا أننا لم نكن نطلع على كل شيء، ما كنا نعرفه هو ما نقدمه للمستمعين، إذ كان عملنا في مثل هذه الأمور الحساسة، يتوقف على ما نقرأه للعموم من بلاغات وأخبار تصلنا من دوائر القرار. بخصوص الانقلاب الثاني عام 1972 الذي قاده أوفقير، هل كنت حاضرًا في الإذاعة؟ لم أكن موجودًا في المغرب في تلك الفترة، إذ كنت في مهمة خارج الوطن. لكن كما تعلم، فلم يقتحم الانقلابيون الإذاعة الوطنية كما وقع قبل ذلك بعام. بعد ذلك بثلاث سنوات، شهد المغرب أكبر مسيرة في تاريخه، ويتعلّق الأمر بالمسيرة الخضراء. كيف قمتم بتغطية هذا الحدث داخل الإذاعة؟ قامت الإذاعة بتغطية خروج المشاركين من كل إقليم على حدة، لقد واكبنا بالصوت تلك الاحتفالات الكبيرة التي رافقت المتطوعين، ونقلناها على الأثير بشكل مباشر. أكثر ما أتذكره هو خطاب المسيرة الذي ألقاه الراحل الحسن الثاني، وكيف كان قويًا وحاثًا على المشاركة في المسيرة لأجل استرجاع الأقاليم الجنوبية الصحراوية. بخصوص عملي في تلك الأيام، فقد ذهبت أوّلًا إلى مراكش مع الموكب الملكي، وبعد ذلك قمت رفقة طاقمي بالنقل المباشر لعملية خروج المشاركين من طرفاية نحو المناطق التي كانت تابعة آنذاك للاستعمار الإسباني. من أقوى اللحظات، نقلنا لصلاة الجمعة من داخل المسيرة، وأتذكر أن من قام بإلقاء خطبة الجمعة، هو أحد أئمة مسجد بالرباط، الذي كان من المشاركين في المسيرة. ماذا عن أحداث 20 يونيو 1981 التي عرفت مئات القتلى، هل قمتم بتغطيتها؟ لم أكن حاضرًا حينها في المغرب، كنت في نيروبي في مهمة لتغطية مؤتمر خارجية وزراء الدول الإفريقية الذي سبق مؤتمر القمة الإفريقية. عام 1986، سيتم الاستغناء عن خدماتك وأنت تعمل حينها مديرًا للإذاعة، بأمر من البصري. كيف حدث ذلك؟ أوّد أن أشير في البداية إلى أنني كنت الوحيد الذي يستطيع الحديث مع إدريس البصري بلهجة قوية، فقد كنت أعمل في الإذاعة عندما كان مجرّد رجل أمن يحرسنا في القصر الملكي إبّان تغطياتنا. واقعة الطرد تعود إلى يوم عيد الفطر، كان صاحب الجلالة الحسن الثاني يتلقى برقيات التهنئة بالعيد من عدد من حكام العالم، ووصلت برقية من الرئيس الأمريكي ريغان، اتصل بي وزير الأنباء المريني وطلب مني إرسال البرقية إلى التلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء من أجل بثها، رغم أنني لم أكن مسؤولًا إلّا عن الإذاعة. غير أن الملك لم يسمع أيّ شيء عن البرقية في التلفزيون، فاتصل بي البصري غاضبًا يستفسرني عن ذلك، أخبرته بأنني غير مسؤول عن التلفزيون، فسألني لماذا لم أقم بإشعاره بالبرقية، فأجبته أنها وصلت من مصدر رسمي المفروض أن يتواصل معه قبل إرسالها لي. بعد ذلك، سألت رئيس التحرير في القناة الأولى عن السبب، فأجابني بأنهم قاموا باختصارها بناءً على تعليمات سابقة من وزير الأنباء، قال لهم فيها باختصار البرقيات إذا استشعروا عدم وجود أهمية كبرى بها. ماذا وقع بعد ذلك؟ أخبرت البصري بما وقع عبر الهاتف، فطلب مني أن أحضر في الغد إلى بيته. وذلك ما كان، وجدت عنه مدير البرامج في التلفزيون نور الدين الصايل، وما إن دخل البصري حتى بدأ بلومي، ثم أعلن عن توقيف خدماتي بالإذاعة. بعدها أدخل خادمه الشاي والحلويات، فدعاني البصري إلى شرب الشاي لأجيبه: "اتخذت هذ القرار في يوم عيد وأنا في بيتك، ومع ذلك تقدم لي الشاي؟". أحسست بألم كبير في تلك اللحظة، خاصة وأنني قضيت جزءًا كبيرًا من عمري في الإذاعة، ولم يكن يتبقى لي إلّا ثلاث سنوات وأخرج إلى التقاعد. لكن علاقتك مع الإذاعة الوطنية لم تنته عند هذا الحد؟ صحيح، فبعد أن كلّفني البصري بتقديم دروس في المعهد العالي للصحافة، طلب من زملائي في الإذاعة أن ينادوا عليّ كي أساعدهم في تغطية زفاف الأميرة، بعدما كانت التغطية كارثية، وبعدها اتصل بي مرة أخرى كي أكون مسؤولًا عن تغطية سفر الملك إلى الأقاليم الجنوبية، وبعدها اتصلوا بي وطلبوا مني أن أعمل في الإذاعة الجهوية بالعيون بدءًا من عام 1989، وأتذكر أن البصري قال لي أن أدافع عن القضية الوطنية في وجه الانفصاليين، قبل أن تنتهي مهمتي عام 1994، وبعدها اشتغلت مسؤولًا إعلاميًا في وزارة الثقافة مع وزيرين، وعملت فترة في السعودية مع عبد الواحد بلقزيز. لكن لماذا قبلت التكليفات التي كلّفك بها البصري وهو من طردك من الإذاعة؟ كنت أرى في ذلك واجبًا وطنيًا، خاصة وأن كل هذه المهام ارتبطت بالوطن وبالمؤسسة الملكية، وبالتالي لا يمكن أن أرفض نداء وطني عندما يحتاج لي. هل أنت راضٍ عن مستوى الصحافيين المغاربة الذين كانوا يعملون في الإذاعة في ذلك الوقت، خاصة وأنكم اقتصرتم في الشأن السياسي على بث بلاغات الدولة؟ الإذاعة الوطنية هي صورة للدولة، وهي آليتها لإيصال رسائلها إلى عموم المواطنين، لكن لا يعني ذلك أننا كنا نقوم بوظيفة العلاقات العامة، فقد أنجزنا ربورتاجات عن المعيش اليومي للمواطنين، وكانت للإذاعة سمعة طيبة عند مختلف شرائح المجتمع المغربي. تقول كانت، هل أفهم أنها لم تعد؟ صدقني أنني لم أسمع الإذاعة الوطنية منذ أن أنهيت مهامي بها. لماذا؟ خرجت من هذه المؤسسة غاضبًا لأنهم تخلوا عني، ولأن البصري جلب لها أعوانه من وزارة الداخلية كي يشرفوا على الصحافيين. لسنوات طويلة وأنا أحس بغبن شديد جراء الاستغناء عني رغم ما قدمته لهذه المؤسسة، وجراء عدم اتصال مدير الإذاعة بي ولو مرة واحدة عندما كنت في العيون. هذا الغبن هو ما أبعدني عن الاستماع إليها، وكل ما أسمعه عنها، يأتي من تقييم أصدقائي، الذي يبقى في الغالب مليئًا بالانتقادات. هل تشاهد القناة الأولى؟ نعم أشاهدها، ولي عليها ملاحظات كثيرة، هناك عيوب تظهر بوضوح بسبب قلة الاحترافية، وهناك أخطاء لغوية بيّنة، زيادة على التقصير في تغطية بعض الأحداث. صحيح أن الطاقم يقوم بمجهود، لكنه غير كافٍ، ولو كان بيدي الأمر، لطلبت من القائمين عليها الاستفادة من خبرة القنوات الفرنسية، وكيفية تقديمها لبرامجها. لكننا سمعنا عن تكريمك من طرف الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة بعد صدور كتابك "رحلة مع المايكروفون"؟ صحيح، أعتبر ذلك الحفل بمنزلة صلح بيني وبين الإذاعة والتلفزة، وقد قلت ذلك في كلمة قصيرة بهذه المناسبة. قام المسؤولون في الإذاعة بتعييني عضوًا في لجنة الأخلاقيات بالإذاعة والتلفزة، غير أن تدهور حالتي الصحية دفعني إلى الاستقالة منها، ولزوم بيتي. بشكل عام، كيف ترى واقع الصحافة في المغرب؟ ما يسرني هو أن المغرب أضحى يتوفر على صحافيين أكفاء يعالجون قضايا شائكة، وهذا يشرّفني كإعلامي، لكن أحيانا أقرأ بعض الأمور في الصحافة التي تسيء إلى المغرب. مثلًا التحامل على رئيس دولة صديقة وانتقاده بشكل غير مهني. إجمالًا، المغاربة يستحقون إعلاما أكثر تطوّرًا من الإعلام الحالي، كما أنهم يستحقون سياسات أكثر إنصافًا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية.