أزيد من أربعة عقود وصوته ينسل من أثير الماكيروفون، ملازمًا أفراح المغاربة وأتراحهم. تعوّد المغاربة على لغته العربيته الأصيلة في وقت لم تكن فيه موجات الFM ولا الإذاعات الخاصة ولا الصحون الهوائية، إذ كانت النشرات الإخبارية والربورتاجات التي يقدمها تصل إلى كل فج عميق في مغرب سنوات الاستقلال الأولى وسنوات الجمر والرصاص. محمد بن ددوش، الرجل الذي أعلن الانقلاب العسكري على أثير الإذاعة الوطنية وعاد ليعلن فشله، يفتح قلبه في حوارمع هسبريس ينشر على جزأين، عن الأيام الأولى للاستقلال وكيف حزن المغاربة على رحيل محمد الخامس، عن تحكّم وزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري، بالإعلام المغربي وتحقيره للصحافيين، وعن واقعة الاستغناء عنه من طرف الرجل نفسه، قبل أن يطلب خدماته من جديد دون أن يقوى بن ددوش على الرفض لإحساسه أن مهنته كانت تخدم وطنه بالأساس. الجزء الأول: بدأت مسيرتك في الإذاعة قبل الاستقلال، كيف كانت الأجواء في العمل حينئذ؟ قبل عودة محمد الخامس من المنفى، كان عدد الصحافيين المغاربة قليل في الإذاعة الوطنية في وقت كان فيه مديرنا فرنسي، لكن ذلك لم يمنعنا من تقديم مجموعة من البرامج المغربية. عملت في البدايات محررًا عبر ترجمة النشرات الفرنسية، ثم صرت مذيعًا، وبدأت أقوم بإنجاز مجموعة من الريبورتاجات، منها ربورتاج لا يزال عالقًا بذهني، تحدثت فيه مع حجاج كان يسافرون في ذلك الوقت إلى الحج عن طريق الحافلات، ولك أن تقدر حجم المعاناة التي كانوا يكابدونها. غير أن عملي بدأ يثير انتباه الإقامة العامة الفرنسية، إلى أن أوقفتني عام 1956، أياما قليلة قبل نيل المغرب لاستقلاله رسميًا. والسبب هو أنني استعرضت حالة الحرب في الجزائر، وقلت إن على الفرنسيين أن يتفاوضوا مع الجزائريين حول الاستقلال. كان الراحل عبد الله إبراهيم هو وزير الأنباء في ذلك الوقت، وقد اعتبر توقيفي محاولة فرنسية لعرقلة المفاوضات، لذلك لم تملك الإقامة العامة إلّا إرجاعي للعمل في اليوم نفسه الذي سافر فيه محمد الخامس إلى باريس. كيف تغيّر حال الإذاعة الوطنية بعد الاستقلال؟ صارت الإذاعة تحت وصاية وزارة البريد والبرق والتلفون، وبعد ذلك صارت تابعة لوزارة الأنباء، قبل أن تتطوّر وتصير تابعة لوزارة الإعلام والداخلية، وبعدها وزارة الاتصال. غير أن أسوأ فترة مرّت علينا داخل الإذاعة، هي عندما ضم البصري وزارة الإعلام إلى وزراته، فصار اسمها وزارة الداخلية والإعلام. كان تحكّم هذا الرجل قويًا، لدرجة أنه كان يجعل من أعضاء ديوانه مدراء عامين في الإذاعة، كما كان يأمر الإذاعة بإرسال بلاغاته بعد تحريرها، كي يطلع عليها قبل النشر، فضلَا عن أنه كان يتصل بنا شخصيًا قبل النشرة الرئيسية سواء بعد الظهر أو في المساء، ويطلب منا أن نقرأ له الموجز قبل البث. كان البصري يتدخل في النشرة حسب ما يريد، يمنع الأخبار التي يريد دون حتى أن يبرّر ذلك. غير أنه لم يكن الوحيد الذي يتدخل في عملنا، فوزراء آخرين كذلك يطالبوننا بنشر ما يريدون، لدرجة أننا كنا نقول إننا تحت وصاية عشرات المدراء وليس مديرًا واحد. كان إدريس البصري يتعمد إهانة الصحافيين، إذ كان يجبر التلفزيون على إرسال ثلاثة محرّرين كي ينتظروا في مكتبه لعدة ساعات كي يغطوا نشاطًا ما يقوم به، وأحيانًا يعودون دون تغطية إذا لم يقم البصري بأي نشاط. كنتَ في المكتب في الوقت الذي توّفي فيه الملك محمد الخامس؟ نعم، أتذكر كيف جاء ولي العهد، مولاي الحسن، إلى مقرّ الإذاعة، وأعلن بصوته خبر وفاة والده. كنت أعمل في ذلك الوقت سكرتير تحرير في الإذاعة، وقد قمت بنقل جنازة محمد الخامس. صلى الناس عليه صلاة الجنازة في ضريح حسان، وأعيد الجثمان إلى القصر حيث دُفن في ضريح مولاي الحسن الأوّل، قبل نقله إلى ضريح حسان بعد تشييده. كانت الأجواء شديدة الحزن في يوم الجنازة، أتذكر كيف رأيت الكثير من المغاربة يغمى عليهم حزنًا على وفاة مفاجئة لرمز الاستقلال. دعنا نمر إلى واحد من أكبر الأحداث التي بصمت تاريخك المهني، وهي قراءتك لبلاغ الانقلابيين عام 1971. كيف وقع ذلك؟ كنت أعمل في ذلك الوقت نائبًا للمدير، وكنا نشتغل دون أن نعلم بأن قصر الصخيرات يشهد في تلك الأثناء محاولة انقلابية قادها بعض الجنرالات، منهم اعبابو. كانت الإذاعة محاطة بمجموعة من الجنود المخلصين للدولة، غير أن الانقلابيين بقيادة الكابتان الشلاط تفوّقوا عليهم وقتلوا الضابط الذي كان يترأسهم. بعد سماعنا دوّي الرصاص، اختبأنا في مكاتب التحرير، بينما صعد المتمرّدون إلى الاستوديو، ثم وجدوا المغني المصري عبد الحليم حافظ رفقة الملحن المغربي عبد السلام عامر، إذا كانا يوّضبان أغنية بمناسبة عيد ميلاد الحسن الثاني. لم يكن المتمرّدون يتوّفرون على أيّ بلاغ مكتوب يعلنون من خلالهم استلاءهم على الحكم، لذلك طلبوا من عبد الحليم حافظ أن يعلن ذلك على الأثير مباشرة، فرفض، ثم التفتوا إلى عامر، وضغطوا عليه حتى أعلن عن الانقلاب بأمر من الكابتان الشلاط. إذا أعلن عامر عن الانقلاب، فلماذا أمروك أنت بذلك؟ لقد أسماها الشلاط ب"البركة ديالي"، فعندنا كنا بصدد الخروج من مكاتبنا والهرب من مقرّ الإذاعة، صادفنا جندي في الممر، فألقى القبض علينا وأمرنا أن نسير أمامه. صعدنا إلى الطابق الثاني، فوجدناه مليء بمجموعة من المغاربة الذين ألقي القبض عليهم لمجرّد مرورهم بقرب الإذاعة. بعد لحظات نادى عليّ الشلاط وأدخلني إلى الاستوديو، فأمرني بإعادة الإعلان عن الانقلاب، بدأت أماطل، إلّا أن تهديدات الشلاط جعلتني أكرّر ما قرأه عامر بالضبط. كيف تمّ تحريركم؟ بقينا في مكتب الإذاعة حتى الساعة العاشرة ليلًا، كان المتمردون يحرسوننا في انتظار التعليمات. لم نكن نعلم حقيقة ما يجري في الخارج، إلى أن دخل جنود مضادون للانقلاب، وألقوا القبض على من يحتجزوننا. وكما أمروني الانقلابيون بإعلان سيطرتهم على الدولة، أمرني الجنود الذين حررونا بإعلان استعادة زمام الأمور، استئنفنا الإرسال بعدما قُطع مباشرة بعد إعلان الانقلاب، وقمنا ببث النشيد الوطني في لحظة لم تفارقني، وأعلننا أن الانقلاب فشل وأن الأمور عادت إلى نصابها. وبعد ذلك أرسل إلينا وزير الأنباء أحمد السنوسي يطلب منا تقنيًا كي يقوم بتسجيل خطاب للملك يؤكد فيه فشل الانقلاب. عدا أمرك لهم بإعلان الانقلاب، هل أساء المتمرّدون معاملتك؟ لا أبدًا، وقد قلت ذلك في المحكمة عندما طُلبت شهادتي. أتذكر كيف سمح لي الشلاط بأن أتصل بعائلتي هاتفيًا، وكلّف جنديًا بأن يذهب معي إلى الطابق الذي كان يتوافر فيه هاتف. ألم تتم مساءلتك عن سبب إعلانك الانقلاب؟ أبدًا، ولم تسألني الدولة أبدًا عن ذلك، فقد كانت السلطة متأكدة أنني قمت بذلك تحت التهديد، وأن لا أحد داخل الإذاعة كان يعلم حقيقة الوضع في الخارج. وأكثر من ذلك، نادت علينا وزارة الأنباء من أجل أن نغطي حدث إعدام المتورطين، رفقة وكالة المغرب العربي للأنباء. لم تكن التغطية مباشرة، بحكم أن مثل هذه التغطية تفترض إرسال حافلة الإرسال إلى عين المكان، ونظرًا لأنه لم يتم إخبارنا إلّا في اللحظات الأخيرة، فقد كان مستحيلًا تجهيزها. لذلك قمنا في الإذاعة بربورتاج بسيط، بثيناه في نشرة الواحدة.