ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. في يوم 16 يوليوز 1971، أي بعد ثلاثة أيام من إعدام الضباط العشرة، كشف الحسن الثاني لأول مرة في مؤتمر صحافي أن مجلسا حربيا هو الذي أصدر حكم الإعدام في حقهم، فقد قال أمام الصحافيين: «إن جميع الضباط أعدموا شرعيا، وهذا سر حرصت على أن أحتفظ به لنفسي، ذلك أن مجلسا حربيا انعقد في الصخيرات في نفس المساء وحكم عليهم في ميدان المعركة بالإعدام، كما تقتضي بذلك الأعراف». وسئل الملك الحسن الثاني في هذا المؤتمر الصحافي عما إذا كان قد تحدث شخصيا إلى الضباط، الذين حكم عليهم بالإعدام وماذا قال لهم، فأجاب: «إنني لم أتحدث معهم، وبالإضافة إلى ذلك لم يكن علي أن أتحدث إليهم». وكان الملك قد تحدث يوم 15 يوليوز 1971 لجريدة فرنسية عن قرار إنشاء محكمة أمن الدولة لتحاكم المتمردين، فقال: «تقرر أثناء المجلس الوزاري، الذي انعقد يوم الثلاثاء الماضي (13 يوليوز)، إعداد مشروع قانون، لإحداث محكمة أمن الدولة سيعرض على مجلس النواب، إن وجود هذه المحكمة ينقص المؤسسات المغربية، وإنه من اللازم أن تسير الأمور بسرعة، ولذلك ستتخذ إجراءات استعجالية للإسراع بخروج القانون المتعلق بتأسيس محكمة أمن الدولة، إن هذه المحكمة ستؤسس في أجل لا يتعدى ثمانية أيام، وبمجرد تأسيسها سيبدأ التحقيق» وعبر الملك عن اعتقاده بأنه من المفيد أن تجري العدالة مجراها، فيقع العقاب الشرعي بسرعة، كما أن كل الظلم سيكون لا فائدة منه. حقائق ثابتة بخصوص ظروف إعدام الضباط بخصوص إعدام الضباط العشرة، أود التأكيد على بعض الحقائق التي كثيرا ما تغيب عن الإعلام عند ذكر أحداث الصخيرات، وذلك من واقع المعلومات التي توفرت لدي بحكم وجودي في موقعي الإعلامي. أول هذه الحقائق: أن الملك الحسن الثاني حضر فعلا عملية تنفيذ حكم الإعدام من بعيد، ولكن ليس بالطريقة التي صورتها كثير من التقارير الإخبارية. وكما سبق أن شرحت ذلك، فقد كان الحسن الثاني يتابع المشهد من بعيد (فوق هضبة غير بعيدة عن الموقع) وحده. يلاحظ أن روايات جديدة وغريبة تظهر بين حين وآخر، ورغم مرور زهاء أربعين سنة على الحدث، بخصوص حضور الملك الراحل في موقع الإعدام، وقد ادعت إحدى الروايات الأخيرة المنشورة في صحيفة يومية «رواية خيالية» أن الحسن الثاني امتطى عربة جيب مكشوفة وألقى نظرة أخيرة على الجنرالات والضباط المقيدين إلى الأعمدة، بل تضيف الرواية أن الملك ترجل ونزع من صدور أولئك الضباط الأوسمة التي كانوا يحملونها، وهذا الرواية بطبيعة الحال لا أساس لها من الصحة ولا يمكن تصورها، وأستغرب لكون بعض الصحف لا تنتبه لمثل هذه الروايات الخيالية وتقدم على نشرها بدون تردد. الحقيقة الثانية: أن الملك حسين، عاهل الأردن الراحل، لم يكن حاضرا ساعة الإعدام مع الملك الحسن الثاني. والملاحظ أن الملك حسين كان رئيس الدولة الوحيد الذي جاء بنفسه إلى المغرب لتهنئة الملك بالسلامة، وخلال مقامه القصير والذي لم يتجاوز 24 ساعة، دعاه الحسن الثاني لمرافقته إلى قصر الصخيرات، مسرح الأحداث الدامية، لمعاينة الحالة التي كان عليها، والتي ظلت على ما هي عليه. وتأثر العاهل الأردني كثيرا لأنباء محاولة الانقلاب وهو في عمان، إذ ما كاد يسمع الخبر حتى انتقل إلى سفارة المغرب في عمان ومعه شقيقه الأمير الحسن ورئيس الوزراء وصفي التل، حيث تابعوا التطورات الجارية في المغرب واستمعوا إلى الخطاب الذي وجهه الملك الحسن الثاني إلى الشعب المغربي في تلك الليلة. الحقيقة الثالثة: أن كثيرا من وسائل الإعلام تقول وتكرر أن الإعدام وقع في ثكنة مولاي اسماعيل، وهذا غير صحيح، فالإعدام تم في ميدان الرماية التابع للقوات المسلحة الملكية الواقع على شاطئ البحر بين قرية تمارة وقرية الهرهورة الساحلية، وأيضا بالتبعية، فلا صحة لما كتب من أن الملكين الحسن والحسين تابعا من أحد المكاتب في ثكنة مولاي اسماعيل بالرباط وقائع الإعدام بواسطة المنظار، حيث ظلا يتابعان المشهد بالمنظار إلى حين سقوط المعدومين، كما زعمت بعض الكتابات. وذهبت بعض الصحف إلى حد الادعاء بأن «جماهير غفيرة حضرت إلى ثكنة مولاي اسماعيل لمعاينة هذا الحدث». والحقيقة أن هذه الثكنة احتضنت المراسيم العسكرية لجنازة الضباط، الذين قتلوا في الصخيرات يوم المحاولة الانقلابية، وجرت هذه المراسيم بحضور الحسن الثاني والعاهل الأردني، ومن هذه الثكنة خرج موكب الجنازة نحو مقبرة الشهداء. ثم إنه لا يتصور أن يقبل رئيس دولة مهما كانت قوة وجودة علاقاته مع أي رئيس دولة آخر أن يقبل حضور تنفيذ حكم الإعدام في مجموعة من الضباط المسؤولين عن حركة انقلابية في بلد ذلك الرئيس. كما أنه يستحيل عليه أن يحشر نفسه مباشرة في شأن داخلي محض من هذا المستوى، فقد جاء الملك حسين إلى المغرب فقط ليهنئ الملك الحسن الثاني على خروجه من هذه المحنة بسلام، وقد شاهدت ملك المغرب الراحل شخصيا واقفا وحده على هضبة تطل على ميدان الرماية يتابع الأحداث بالعين المجردة كما قلت من قبل. وكان العاهل الأردني الراحل قد وصل إلى الرباط في اليوم الثالث لأحداث الصخيرات (12 يوليوز) يقود طائرته بنفسه مرتديا بذلته العسكرية، وبمجرد نزوله في المطار، استقل طائرة هيليكوبتر نقلته أولا إلى مطار السويسي قاعدة طائرات الهيلكوبتر التابعة للدرك الملكي حاليا، ومن هناك التحق موكبه بالفيلا الواقعة في حي السويسي، والتي كانت مقر إقامة الملك عندما كان وليا للعهد، وهناك تم اللقاء الأول بين الملكين، وبعد فترة قصيرة، انتقل الحسن والحسين إلى قصر الصخيرات للوقوف على مسرح الأحداث كما سبق ذكره. والحقيقة الرابعة: ليس صحيحا أن وسائل الإعلام الرسمية من إذاعة وتلفزة «بثت وقائع الإعدام مباشرة»، فالبث المباشر، في لغة الإذاعة والتلفزة، هو نقل الحدث وقت وقوعه، وهذا لم يحدث، كما أن البث المباشر يتطلب ترتيبات تقنية في عين المكان، وهذه الترتيبات لم تكن متوفرة في ذلك اليوم، لأنها لم تكن مقررة. وقد ذكرت سابقا أن ممثلي الإذاعة والتلفزة تأخر وصولهم إلى عين المكان، لأنه لم يتم إخبارهم إلا في ساعة متأخرة. فالإذاعة الوطنية قدمت في نشرتها الزوالية روبورتاجا قصيرا جدا أنجزته شخصيا في عين المكان، أي في ساحة الإعدام، بينما قدمت التلفزة مساء في نشرتها الخبرية فقط مناظر خاطفة يظهر فيها الضباط من بعيد واقفين، ولا يشمل الشريط أي صورة مقربة أو مكبرة لعملية الإعدام. والملاحظ أيضا أن هاتين المادتين الإذاعية والتلفزية لم تُعَد إذاعتهما في النشرات الموالية. ملاحظة أخرى تفرض نفسها: إن تنفيذ أحكام الإعدام حسب الأعراف الجاري بها العمل في العالم يتم مبدئيا في الساعات الأخيرة من الليل قبل انبلاج الفجر، ولكن إعدام الضباط العشرة تم في واضحة النهار في نهاية صباح ذلك اليوم، وسوف لن يتكرر ذلك مع الضباط الطيارين، الذين شاركوا في الهجوم على الطائرة الملكية يوم 16 غشت 1972، ثم إن إعدام هذه المجموعة من ضباط سلاح الطيران، تم في غيبة الإذاعة والتلفزة، حيث تم الاقتصار على إذاعة البلاغ الرسمي الصادر في الموضوع. قصر الصخيرات يسترجع تألقه لم يتخل الملك الحسن الثاني عن قصر الصخيرات بعد الأحداث الدامية التي عاشها يوم 10 يوليوز 1971، فقد ظل ذلك المنتجع الواقع على شاطئ المحيط مكانا مفضلا لديه إلى آخر عهده بالحياة، بل إن قصر الصخيرات أخذ رونقا جديدا بفضل الإصلاحات الهامة التي أدخلت عليه، وظل خلال قرابة ثلاثة عقود مجالا لعدة أنشطة ملكية في اجتماعات واستقبالات وندوات صحافية، كما ظل مقرا للاحتفالات السنوية بذكرى ميلاد الحسن الثاني كلما كان مقيما في عاصمة المملكة، باستثناء العيد الأخير (10 يوليوز 1999)، أي قبل وفاته رحمه الله بعشرين يوما، حيث أقيم الاحتفال بقصر الضيافة في الرباط، والملاحظ أنه عندما وقعت حادثة «البوينغ»، بعد مرور سنة على أحداث الصخيرات ونزل الحسن الثاني بسلام من الطائرة، التحق مباشرة بقصر الصخيرات، بينما كانت الطائرات تقصف القصر الملكي في الرباط، والملاحظ أيضا أن الملك الحسن الثاني استقبل في قصر الصخيرات، بعد أيام قلائل من المحاولة الانقلابية، نائب الرئيس الأمريكي سبيرو أغنيو وأقام له هناك مأدبة غداء. وقفت شاهدا أمام المحكمة العسكرية بالقنيطرة في يوم 31 يناير 1972، بدأت محاكمة العسكريين المشاركين في محاولة الانقلاب أمام المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية بالقنيطرة، واستمرت شهرا كاملا. كانت هيئة المحكمة العسكرية برئاسة عبد النبي بوعشرين وعضوية الجنرال عبد السلام النكرة والكولونيل النعيمي والكولونيل الفاسي الفهري والكولونيل التيجاني واليوتنان كولونيل بلميلودي، أما الادعاء العام فقد تولاه الكولونيل رمضان بنعيادة. لم يسمح للصحافيين بالدخول إلى القاعة صباح افتتاح المحاكمة، وفي المساء سمح لهم بالدخول، بعد أن أعلن الرئيس علنية الجلسات، كما عبر عن أسفه لعدم تمكن الصحافيين من الدخول صباحا بسبب ضيق المكان. وفي يوم الثلاثاء 29 فبراير 1972 صدرت الأحكام، وكان المؤبد من نصيب القبطان الشلاط، في حين طالبت النيابة العامة بالإعدام في حقه، وتشاء الأقدار أن تعيدني هذه المحاكمة إلى صميم الأحداث التي عاشتها الإذاعة المغربية قبل ذلك بسبعة أشهر، فقد تلقيت استدعاء من العقيد رمضان بنعيادة، وكيل الدولة لدى المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية بالقنيطرة، يطلب مني الحضور يوم 16 فبراير 1972 على الساعة التاسعة صباحا بصفتي «شاهدا ليدلي بشهادته في المرافعة الموجهة ضد عبابو ومن معه، المتهم بمؤامرة مسلحة ضد النظام والعرش والاعتداء على حياة جلالة الملك وولي عهده إلخ» كما هو وارد في الاستدعاء. طبعا لم يكن لي أن أتخلى عن الإدلاء بشهادتي، خاصة أن الاستدعاء يتضمن تهديدا صريحا في حالة عدم الاستجابة للاستدعاء: «إذا الشاهد المطلوب بالحضور لم يمتثل لهذا الاستدعاء، فإنه سيستهدف للمعاقبة طبقا لما ينص عليه الفصلان 63 و91 من قانون العدل العسكري». لم أكن الوحيد المدعو لأداء الشهادة، فقد توصل بالدعوة نفسها عدد من العاملين في الإذاعة، ومنهم بعض التقنيين ممن عاشوا تلك الساعات الطوال تحت رحمة الانقلابيين، وقد انتقلنا جميعا في اليوم الموعود إلى مدينة القنيطرة استجابة لدعوة المحكمة العسكرية، وقضينا وقت طويلا في قاعة الانتظار حتى يتم النداء علينا واحدا بعد الآخر. وكانت المحكمة قد خصصت جلساتها في ذلك اليوم (16 فبراير) للاستماع إلى شهود النيابة العامة وشهود الدفاع، وهم ينتمون إلى القوات المسلحة الملكية ووزارة الداخلية والإذاعة والتلفزة (على سبيل الاستئناس). كنت أول من نودي عليه من بين موظفي الإذاعة، فدخلت قاعة المحكمة العسكرية وقد غصت بمئات الجنود والضباط المتابعين في قضية محاولة الانقلاب (وعددهم ألف و200 بالضبط) طلب مني الرئيس أن أحكي للمحكمة ما أعرفه عن احتلال الإذاعة من طرف المتمردين وعلى رأسهم القبطان الشلاط. سردت بكل نزاهة للمحكمة كل ما عايشته وما شاهدته في ذلك اليوم من شهر يوليوز 1971 وما عاينته من تصرفات القبطان الشلاط، ولم أتردد في ذكر المعاملة العادية والخالية من كل عنف التي عاملني بها والأفراد الموجودين معي في الأستوديو.