سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المقيم العام الفرنسي يصدر قرارا بتوقيفي بعد إذاعتي برنامجا ينتقد سياسة فرنسا الإذاعة المغربية تشكل أول نقطة توتر بين الحكومة المغربية وفرنسا في بداية عهد الاستقلال
ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. شكلت الإذاعة المغربية أول نقطة احتكاك بين أول حكومة مغربية والإقامة العامة الفرنسية قبيل إعلان استقلال المغرب رسميا بفترة قصيرة. كان ذلك خلال شهر يناير من عام 1956 أي بعد 23 يوما فقط من تأسيس أول حكومة «مغربية ائتلافية مستقلة» كما وصفها الملك محمد الخامس يوم تنصيبها في 7 ديسمبر 1955، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على عودته التاريخية المظفرة من المنفى إلى عرشه وشعبه الوفي يوم 16 نوفمبر 1955. كان المغرب يعيش في تلك الأثناء بداية عهد جديد يتميز بفترة انتقالية امتدت من تاريخ العودة إلى انتهاء المفاوضات مع الحكومة الفرنسية والتي أسفرت عن إعلان استقلال المغرب بصورة رسمية في ثاني مارس 1956. برز هذا التوتر بعد إذاعة برنامج كنت أقدمه أسبوعيا تحت عنوان ( العالم في أسبوع) وتضمنت إحدى الحلقات انتقادات اعتبرت شديدة اللهجة لسياسة فرنسا في الجزائر التي كانت تخوض حربها التحريرية بقيادة جبهة التحرير الوطني. برنامج إذاعي يثير حفيظة فرنسا أذيع هذا البرنامج يوم الأحد 29 يناير 1956، وهو عبارة عن شريط إذاعي لأهم الأحداث العالمية كما يعرفه شعاره في بدايته ونهايته. انصب الجزء الأول من البرنامج على الأحداث التي عاشها المغرب في ذلك الأسبوع والتطورات المتلاحقة في تلك الأيام التاريخية التي عاشها الشعب المغربي في غمرة عودة الملك محمد الخامس من المنفى. أربع قضايا رئيسية ضمن الملف المغربي في ذلك الأسبوع. 1 استعداد محمد الخامس للسفر إلى فرنسا لحضور افتتاح المفاوضات المغربية الفرنسية بينما تعكف الحكومة على تحضير هذه المفاوضات. 2 تحرير فوج جديد من المعتقلين السياسيين. 3 الاحتفال بيوم الشهداء الأبرار. 4 تأسيس لجنة للوفاق والاتحاد بين الأحزاب الوطنية بإشراف سعيد رمضان الزعيم الإخواني المصري الأمين العام للمؤتمر الإسلامي (الموجود إذ ذاك في المغرب) وذلك في أعقاب الحوادث الدامية التي وقعت بمدينة سوق أربعاء الغرب. أما الجزء الثاني من البرنامج فقد تضمن عرضا لأبرز الأحداث الجارية في الجزائر (حيث الحرب الاستعمارية الفرنسية مستمرة) وفي تونس حيث الصراع مشتد بين أنصار الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف حول الاتفاقيات الفرنسية التونسية التي قبلها الأول ورفضها الثاني. ثارت ثائرة السلطات الفرنسية سواء في الرباط أو في باريز لما جاء في البرنامج بخصوص الجزائر حيث اعتبرت التعليق ذا طابع غير ودي بل معاديا لفرنسا التي يتهمها بسلوك سياسة البطش والقهر ضد الشعب الجزائري. ويدعوها (وهذا هو الأخطر بالنسبة للسلطات الفرنسية) للتفاوض المباشر والعاجل مع زعماء الثورة الجزائرية قبل فوات الأوان كما فعلت في الهند الصينية، واتضح من ردود الفعل الفرنسية التي أعقبت إذاعة البرنامج أن السلطات الفرنسية لم تستسغ »الدعوة الموجهة إلى فرنسا للتفاوض مع قادة الثورة الجزائرية ». ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أننا في بداية سنة 1956 أي بعد 14 شهرا فقط من اندلاع الثورة (التي ستستمر زهاء ثماني سنوات) وكانت فرنسا تعتقد في البداية أن الأمر لا يعدو أن يكون عمل مجموعة من (الفلاكة) كما كانت تسميهم، سيتم القضاء عليهم بما سخرته من وسائل نارية فتاكة وقوة عسكرية ضاربة. بالإضافة إلى أن فكرة انفصال الجزائر عن فرنسا لم تكن تدور بخلد الحكام الفرنسيين. فالجزائر في منطق فرنسا وخططها وقوانينها، جزء من فرنسا وبالتالي فمن غير المعقول قبول أصوات ترتفع هنا وهناك بالدعوة إلى التفاوض مع الثوار، مع أن فرنسا عاشت قبل ذلك بقليل تجربة حرب الهند الصينية (الفيتنام) حيث اضطرت بعد حرب دامت عدة سنوات إلى التفاوض مع الزعيم هوشي مينه، ولو جاءت في بداية الثورة الجزائرية إلى المفاوضات التي قبلتها في خاتمة المطاف لوفرت على نفسها الخسائر المادية والمعنوية والبشرية التي تكبدتها طيلة ثماني سنوات، ولوفرت أيضا على الشعب الجزائري آلاف الضحايا والمآسي الفظيعة التي عاشها. ثم إن فرنسا اضطرت في الأخير إلى التفاوض مع قادة جبهة التحرير الوطني بعد أن تأكدت أنه لا مناص من الاعتراف للشعب الجزائري بحقه في تقرير المصير وبالتالي في الحرية والاستقلال. توقيفي عن العمل قبل متابعة سرد الوقائع واستعراض ردود الفعل التي أعقبت إذاعة البرنامج، أسارع إلى القول بأن رد الفعل الأول والسريع الذي اتخذه المقيم العام الفرنسي أندري لوي دوبوا ( الذي سيصبح فيما بعد أول سفير لفرنسا في المغرب) هو توقيفي عن العمل. وفي هذا الصدد أذاع راديو المغرب في نشرة الأخبار الساعة الثامنة مساء بالفرنسية يوم الثلاثاء سابع فبراير 1956 (بلاغا من الإقامة العامة حول الأخبار الصادرة في الصحف الفرنسية بشأن برنامج أذيع من راديو المغرب بالعربية ينتقد سياسة فرنسا في الجزائر). جاء في هذا البلاغ: «أولا: إن المحرر المذيع المسؤول عن البرنامج المذكور قد تم توقيفه بعد بحث جرى في الموضوع، وقد اتخذ هذا الإجراء في انتظار القرار النهائي الذي سيتخذ عندما ينتهي التحقيق في القضية. ثانيا: عين المقيم العام موظفا جديدا مكلفا في راديو المغرب بمراقبة البرامج باللغة العربية». لقد كانت وضعية الإذاعة المغربية في تلك الفترة غير واضحة المعالم بفعل الظروف التي كان يعيشها المغرب. والإقامة العامة كانت ما تزال متحكمة في تسيير هذه المؤسسة رغم أنها في ملكية الدولة المغربية. وكان على رأس هذه المؤسسة مدير فرنسي هو بول بير (سيكون آخر مدير أجنبي للإذاعة المغربية). وكان هناك مدير فرنسي آخر اسمه القبطان كوسي مكلفا بالبرامج العربية واللهجات الأمازيغية وإلى جانبه عبد الحميد الحجوي كمستشار تمشيا مع سياسة الحماية في تسمية مستشارين أو مندوبين مغاربة إلى جانب المديرين المركزيين الفرنسيين أصحاب القرار النهائي والسلطة المطلقة. كان رجوع محمد الخامس رحمه الله يوم 16 نونبر 1955 من المنفى بالنسبة إلينا في الإذاعة بداية لعهد الحرية والاستقلال بلا منازع وبالتالي بداية عهد تتحرر فيه الإذاعة من الرقابة الفرنسية التي أصبحت شكلية في هذه الفترة بدليل التغطية الإخبارية الحرة لكل مظاهر الحياة السياسية والوطنية الجديدة وما رافقها من تعبئة شعبية واسعة النطاق تذكيها أفراح اللقاءات المتوالية لمحرر المغرب بمختلف الوفود القادمة من جميع أنحاء البلاد، ووفود أخرى قادمة من شتى أنحاء العالم لتبارك له عودته الميمونة وتهنئ الشعب المغربي بانتصاره، وتضع اللبنات الأولى لتعاون صادق مع المغرب الجديد، وكما قال الإعلامي الكبير الأخ عبد الله شقرون: «بعودة الملك محمد الخامس وأسرته الكريمة من المنفى أشرقت أنوار الحرية ساطعة على صوت الإذاعة». وما كان علينا في الإذاعة في ذلك الوقت إلا أن ننهج هذا السبيل الذي أضاءته هذه الأنوار، إذ لم يعد هناك أي شك يخامرنا بخصوص استقلال المغرب، وعودة محمد الخامس بعد المعارك النضالية والصراعات السياسية والدبلوماسية هي في حد ذاتها رمز الاستقلال. وما كان لنا أن نشك في هذه الحقيقة ونحن نسمع مع بقية المواطنين الملك المجاهد يعلن في أول خطاب العرش (بعد العودة من المنفى) يوم 18 نونبر 1955: «وتلك بشرى يطيب لنا أن نزفها إليك في هذا اليوم الميمون، بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجرالاستقلال والحرية». أبعد كل هذا وتستمر الإقامة العامة الفرنسية في التحكم في الإذاعة المغربية؟ بعد وقت قصير تأسست يوم 7 دجنبر 1955 أول حكومة مغربية برئاسة مبارك البكاي، وكانت حكومة ائتلافية ضمت 19 وزيرا وكاتبين للدولة أحدهما مكلف بالإعلام وهو المرحوم الأستاذ عبد الله ابراهيم (من حزب الاستقلال) وكانت تسمى كتابة الدولة في الأخبار، لأن عبارتي الإعلام والاتصال لم تكنا متداولتين في ذلك الوقت.