ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. الرباط 23 شتنبر 1994 المحترم وزير الدولة في الداخلية والإعلام إدريس البصري الرباط السلام عليكم ورحمة الله كان بودي أن أتوجه إليكم بالكتابة منذ وقت بعيد، ولكنني أنتظر تسوية وضعيتي «كمتقاعد» حتى تكون رسالتي أشمل وأعم. وها أنا ذا والحمد لله أنعم بصفة «المتقاعد»، بعد 42 سنة من العمل المتواصل في الحقل الإعلامي، وخاصة في الإذاعة والتلفزة المغربية كما تعرفون ذلك جيدا. وأصبحت أتوفر على بطاقة المتقاعد، التي تجدون نسخة منها مشتملة على المعلومات الضرورية، وخاصة على الأجرة الشهرية، التي هي من حظ موظف خدم الدولة من مواقع المسؤولية الحساسة مدة 42 سنة. ولكن اسمحوا لي السيد وزير الدولة قبل مواصلة الحديث عن هذا الموضوع، أن أتطرق إلى نقطة أخرى هي بالنسبة إلي أهم من الجانب المادي: لقد انتهت مهمتي في الإذاعة يوم 8 ديسمبر 1993، وبقيت لعدة أشهر بين مد وجزر، قبل أن أعرف أن المدير العام للإذاعة والتلفزة أمر القسم الإداري بتصفية وضعيتي بالإحالة على المعاش. والغريب في الأمر هو أنني ربما الموظف الوحيد ولا شك، من بين آلاف الموظفين المحالين سنويا على المعاش، الذي لم يتوصل بتلك الرسالة التقليدية، التي تشعره فيها إدارته بانتهاء خدماته وتعبر له، ولو مجاملة، عن الشكر على ما قدمه في ميدان عمله، وهذا أكبر مظهر من مظاهر الازدراء، الذي يمكن لإدارة جحودة أن تتصف به إزاء موظف سام دخل الإذاعة قبل أن يولد من يوجدون على رأسها وأدى خدمات إعلامية لبلاده لا ترقى لها خدمتهم، حتى بنسبة واحد في المائة، وبطبيعة الحال فأنا لم أكن أنتظر من الإذاعة والتلفزة أن تشكرني على ما قدمت من أعمال في ميدان الإعلام، فتلك رسالتي في الحياة أديتها بإخلاص وحب وتفان ونالت وما تزال إلى الآن رضا المستمعين، وإنما كنت أنتظر وأتوقع من وزير الإعلام أن يلتفت إلي في تلك اللحظة، التي دقت فيها ساعة الرحيل عن الإذاعة التي قضيت بها العمر كله، ويستدعيني لمكتبه ليقول على الأقل كلمة شكر، هي حق من حقوقي كإذاعي معروف القيمة والقدر، وهي واجب من واجبات الوزير كمسؤول يقدر الكفاءات ويجازي العاملين، وتذكرت السيد وزير الدولة يوم احتجتم إلي لأذهب إلى العيون وأتحمل مسؤولية تسيير الإذاعة لمدة تزيد عن 3 سنوات (وهو عمل أعتز به أشد الاعتزاز وقمت به على أحسن ما يرام ومستعد للقيام به مجددا)، كيف سارعتم إلى استدعائي إلى مراكش، وفي اليوم الذي قدر لي فيه أن أغادر العمل الإذاعي بعد 42 سنة، لم أجد أي واحد بجانبي، لا إذاعة ولا تلفزة ولا وزارة، ولا أي مسؤول كبير أو صغير شأنه. سبحانك يارب، أنت خالق هذا الكون لك الحمد والشكر على كل حال. وبطبيعة الحال، يضاف هذا الجحود، الذي لقيته من إدارتي ووزارتي في نهاية حياتي المهنية، إلى مواقف أخرى مطبوعة بمظاهر الجحود، تتمثل في عدم إنصافي في حقوقي، التي طالبت بها في كثير من المناسبات، ومن ضمنها تسوية وضعيتي كمدير للإذاعة لأزيد من 9 سنوات، وأداء أجرة العطل السنوية الممتدة إلى أكثر من 20 سنة، وضمنها السنوات التي قضيتها في العيون، والتي ساومتني فيها إدارة الإذاعة من غير حق، هذا إلى جانب الجحود الأكبر، الذي مسني في كرامتي وحياتي المهنية المرصعة بصفات الوفاء والإخلاص والجد والكفاءة والنزاهة، والمتمثل في قراركم بتوقيفي ظلما عن العمل في الإذاعة عام 1986 وأنتم تعرفون في قرارة أنفسكم أن لا علاقة لي بالمشكل الذي تسببت فيه قلة الكفاءات الموجودة في التلفزيون. وأستطيع أن أقول لكم السيد وزير الدولة إنه كانت لي من الكفاءة المهنية ما جنبني الوقوع في أي خطأ طيلة عملي في الإذاعة، وذلك فضل من الله. فسبحانك يارب، أنت خالق هذا الكون لك الحمد والشكر على كل حال. السيد وزير الدولة أردت عمدا إرفاق هذه الرسالة بوثيقة التقاعد، التي تظهر لكم القدر المالي الذي أتوصل به، ومن سوء حظي أنني أنتمي لطائفة الموظفين، الذين لا يشملهم النظام الجديد للمعاشات، المطبق ابتداء من فاتح يناير 1990، ما دمت أنني من مواليد 1929، ولو أنني كنت متمتعا بفوائد النظام الجديد، لما أثرت هذه النقطة بالذات، لكنه حرام أن تحرمني الدولة من نصف الأجرة، التي كان من المفروض أن أتوصل بها، لا لشيء، إلا لأنني جئت إلى الدنيا، في عرف الإدارة وقانونها المجحف، متقدما بعشرين يوما. هذه بعض الخواطر أردت أن أبلغها إليكم، وحقائق ربما تجهلونها، ولم يعمل أحد في الإذاعة والتلفزة والوزارة على إطلاعكم عليها، رغم علمهم بها، فعسى أن تجد صدى لديكم لاتخاذ الموقف الذي ترونه ملائما. والسلام عليكم ورحمة الله الإمضاء: محمد بن ددوش ملاحظة: (بقيت هذه الرسالة بدون جواب) عودة بنددوش إلى دار البريهي بعد سنوات من مغادرته لدار البريهي، عاد الصحفي ببندوش قبل أشهر إلى الدار، إذ نظم منتدى أطر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة لقاء للاحتفاء بمحمد بن ددوش بمناسبة صدور كتابه «رحلة حياتي مع المكرفون». وأخذ الكلمة خلال ذلك اللقاء ادريس الإدريسي، رئيس منتدى أطر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وأشاد بما قدمه الإعلامي بن ددوش على امتداد خمسين سنة من عمر الإذاعة الوطنية. كما تناول الكلمة الحسين بنحليمة، الذي اعتبر أن هذا الأخير كان يتوجه عبر الإذاعة إلى مستمعين «من طبيعة أخرى، مستمعين متعطشين إلى معرفة تفاصيل ذلك الورش الكبير، الذي انخرط فيه مغرب ما بعد الاستقلال من أجل البناء والتقدم»، مؤكدا أن بن ددوش كان وطنيا غيورا وصحافيا متفوقا، عمل من أجل أن تصبح الإذاعة على هذا النحو الذي توجد عليه اليوم، ضمن مغرب يتطور باستمرار.. وتم عرض شريط وثق لعدد من المواقف المهنية لمحمد بن ددوش، حيث بدا، من بين مشاهد أخرى، في تغطية للمسيرة الخضراء وفي مراسلة صوتية من أديس أبابا خلال انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية. وأشار محمد بن ددوش، في كلمته يومها، إلى أن «رحلة حياتي مع المكروفون» يشمل 50 سنة من العمل الإذاعي قائلا: «غادرت هذه الدار قبل 25 سنة، في ظروف ليس المقام لذكرها الآن، ثم جاءت قصة حياتي مع المكروفون، الذي كان بالنسبة إلي أوفى من الإنسان، وأصارحكم بأنني أعتبر وجودي اليوم معكم، بداية مصالحة بيننا». وأضاف بنددوش «إنني أعرف أن الزمن الإعلامي اليوم يختلف عن الزمن الإعلامي بالأمس، ولكن الذي لا يتغير هو حب المهنة». وقدم النادي هديتين لمحمد بن ددوش، الأولى قدمها له فيصل العرايشي، الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، والثانية سلمها له المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، السيد محمد عياد، وبعد ذلك قام بن ددوش بتوقيع كتابه.