ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. وفي ختام هذه الصفحات، التي كتبتها عن علاقة الإذاعة بمحاولة الانقلاب الفاشلة، لابد لي من الإشارة ولو باختصار إلى الأجواء السياسية، التي كانت سائدة في المغرب في تلك الفترة من حياة البلاد. فقبل أحداث الصخيرات بثلاثة أسابيع، أي يوم 17 يونيو 1971، بدأ ما يعرف بمحاكمة مراكش الكبرى، التي توبع خلالها عدد من أعضاء المعارضة بتهمة المؤامرة، وكانت المحاكمة مستمرة في أسبوعها الرابع عند وقوع أحداث الصخيرات. وكانت الإذاعة قد كلفتني بتغطية محاكمة مراكش، ولكن أداء هذه المهمة لم يتجاوز 24 ساعة، إذ استدعيت للعودة إلى الرباط استعدادا لمرافقة الوزير الأول الدكتور أحمد العراقي خلال زيارته الرسمية لألمانيا الفدرالية بدعوة من المستشار ويلي براند، وقد عاد الدكتور العراقي من ألمانيا قبل أسبوعين فقط من أحداث الصخيرات. وفي 3 غشت 1971، أي بعد المحاولة الانقلابية بأقل من شهر، وقع تعديل حكومي، تقلد خلاله كريم العمراني رئاسة الحكومة. وفي 31 يناير 1972، بدأت محاكمة الانقلابيين، وفي 18 فبراير من السنة نفسها، أعلن الملك الحسن الثاني عن مشروع دستور جديد عرض على الاستفتاء في نهاية الشهر. وعلى إثر ذلك، سجلت الكتلة الوطنية باستغراب الإعلان عن تنظيم هذا الاستفتاء، في حين «أن وفدا عن الكتلة الوطنية كان يجري محادثات مع رئيس الدولة، منذ نونبر الماضي، لإيجاد الحلول والوسائل الناجعة لإخراج البلاد من الأزمة التي تتخبط فيها»، حسبما جاء في بيان الكتلة الصادر غداة الخطاب الملكي. كما أن الإعلان عن نتائج الاستفتاء تزامن مع صدور أحكام المحكمة العسكرية بالقنيطرة، وبعد ستة أشهر كانت المحاولة الجديدة المتمثلة في الهجوم على الطائرة الملكية العائدة من فرنسا وعلى متنها الملك الحسن الثاني. هذه ليست قصة الانقلاب العسكري هذه الوقائع والأحداث، التي سردتها في الصفحات، تتعلق بما في دار الإذاعة المغربية يوم عاشر يوليوز 1971، وبعض تبعاته المباشرة، ولا تتضمن سوى ما عايشته من أحداث في ذلك اليوم والأيام الموالية، فهذه ليست قصة الانقلاب العسكري الفاشل، وإنما هي جزء منه أو مظهر من مظاهره، حرصت على أن تتركز ذكرياتي حول الإذاعة وحدها دون التلفزة، لأننا لم نكن على علم بالوضع في هذه المؤسسة، رغم أن بناية واحدة تضمهما معا، وذلك بسبب الحصار المضروب علينا في أحد استوديوهات الإذاعة. لقد ظهرت عدة كتابات عن انقلاب الصخيرات وعواقبه، والتبعات التي عاشها في معتقل تازمامارت عدد من ضباط مدرسة أهرمومو ومعهم ضباط الطيران، الذين شاركوا في العملية الثانية، في محاولة إسقاط الطائرة الملكية، وهذه الكتابات سلطت الضوء على مرحلة صعبة في حياة أصحابها، وكشفت أيضا مدى المأساة التي عاشها قصر الصخيرات ومن فيه من كبار رجال الدولة وموظفين سامين مدنيين وعسكريين وعلماء وزعماء سياسيين وأعضاء في السلك الدبلوماسي وغيرهم كثيرون، ولكن الألطاف الإلهية حفت بهذا الوطن وشعبه وجنبته الانزلاقات ذات المصير المجهول. لقد ظلت الحركة الانقلابية غائبة عن الساحة الإعلامية والسياسية طيلة عقود، لا تذكر إلا لماما، وخاصة عندما بدأت تتسرب أخبار معتقل تازمامارت الرهيب، الذي نقل إليه ضباط مدرسة أهرمومو وزملاؤهم ضباط سلاح الطيران، كما أن معتقل تازمامارت نفسه ظل وجوده في البداية سرا من الأسرار، قبل أن تنكشف الحقيقة كاملة عندما خرج منه من بقي من نزلائه على قيد الحياة وبدأوا يتحدثون ويكتبون عن المعتقل الجحيم. لم يكن اسم معتقل تازمامارت غائبا عنا في الإذاعة الوطنية، وخاصة في نطاق قسم الأخبار، ولم يكن الاسم يذكر إلا همسا بين الصحافيين، فقد كانت الإذاعة المغربية تتوفر على عدة وكالات إخبارية دولية مثل وكالة الأنباء الفرنسية ووكالة رويتز ووكالة أسوشياتيدبريس، وكانت هذه الوكالات تورد بين حين وآخر أخبارا وتصريحات حول المعتقل سيء الذكر صادرة عن أوساط المعارضة والمنظمات الحقوقية في الخارج. وما زالت تظهر إلى حدود الآن كتب يروي أصحابها من نزلاء تازمامارت القدامى المآسي التي عاشوها هناك، وأخيرا أقدمت السلطات الرسمية على إزالة المعتقل من الوجود، وهو عمل لم يحظ برضى المنظمات الحقوقية التي كانت تفضل أن يبقى قائما للذكرى والعبرة. إن هذه الأحداث التي عاشها المغرب عامي 71 و72 ما زالت موضع تساؤلات عديدة رغم ما قيل و ما كتب حولها. كما أن هذه الأحداث لم تثر لحد الآن اهتمام المؤرخين، وقد مرت تقريبا أربعون سنة على وقوعها، من أجل تعميق البحث عن الأسباب والمسببات والمسؤوليات بالاعتماد على نصوص موثوق بها (إذا كانت هناك فعلا وثائق)، ولا أظن إلا وجود هذه الوثائق متفرقة في مختلف قطاعات الدولة كالقوات المسلحة الملكية والأمن الوطني والديوان الملكي ومصالح الاستخبارات الداخلية والخارجية والوزارات المعنية بالأمن كالداخلية والخارجية، إذ لا يمكن أن يتصور الإنسان أن كل هذه المصالح تجاهلت أحداث الصخيرات والطائرة الملكية ولم تعرها الاهتمام الذي تستحقه. والجدير بالتذكير أن الملك الحسن الثاني عين لجنة من بعض الوزراء لبحث موضوع الأحداث، التي شهدها المغرب واستخلاص النتائج، فأين هي نتيجة عمل هذه اللجنة إذا كانت قد وجدت فعلا؟ إن من شأن الكشف عن كل الحقيقة أن تنتهي كل التناقضات والتفسيرات المتباينة، التي تطغى على الكتابات والروايات التي تتناسل اليوم بكثرة على صفحات الجرائد والكتب وشاشات الفضائيات. على كل حال، فلقد رويت من الأحداث ما له صلة بالإذاعة وبالمهمة الإعلامية التي اضطلعت بها، فأنا شاهد في هذه الذكريات على الأحداث من هذه الزاوية ليس إلا، كما أن التساؤلات والملاحظات التي طرحتها وسجلتها كانت بدافع مهني محض، كرجل إعلام كتب له أن يعيش من موقعه الإذاعي جانبا من الأحداث.