ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنصالح: الإسلام يكفلُ دولة المواطنة .. والتراث يحتاجُ مراجعة شاملة
نشر في هسبريس يوم 02 - 02 - 2015

غدَاة إنحاء أطراف في الغرب كما في العالم الإسلامِي، باللائمة على الآخر، والاصطدام لدى الدفاع عنْ كلِّ مقدس على حدة، سواء كان حريَّة في التعبير أوْ رمزًا دينيَّا، ينفذُ الأستاذُ والباحث، محمَّد بن صالح، إلى الصراع على المقدَّس بالمقدس، ليصور تدافع منظومتين حضاريتين، في الذُّود عن الخطوط الحمراء، موضحًا أنَّ المجتمع الفرنسي الذِي طبع مع إقصاء ممنهج للدين المسيحي " La déchristianisation" يختلفُ عن السياق الإسلامي، وإنْ كان يدعُو إلى عدم إصدار ردُود فعل هوجاء على الإساءات.
الأمينُ العام لمركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني، يقاربُ في حوارٍ مطول مع هسبريس إشكال اندماج المهاجرِين في المجتمع الفرنسي، ويشخص تغذِّي التطرف وما لهُ من سندٍ في التراث الفقهي، الذِي لمْ ينفذْ في كثير منْ قراءاته إلى جوهر الدِّين واستقرَّ عند حاشيته، قبل أنْ يعرج على تجارب الإسلاميِّين في الحكم، والتمايزات التي طبعتْ إدراتهم للسلطة في تونس والقاهرة.
غذَّى الهجوم الإرهابيُّ الذِي استهدف صحيفة "شارلي إيبدُو" في فرنسا، جملة أسئلة حول التطرف وصلته بالدِّين، وخط التماس بين حريَّة التعبير واحترام المقدسات، كيف تتلقفون ما يثار حول المسألة؟
هذا سؤال إشكالي لأنه يتمحور حول الصراع على المقدّس بالمقدّس، إذ إننا أمام منظومتين حضاريتين تدافع كل منهما على مقدّسها غير آبهة بمقدّسات الأخرى، إحداهما تعتبر أن الحرية خط أحمر لا ينبغي الاقتراب منه، والأخرى ترى أن للحرية خطوطاً حمراء ينبغي أن لا تقترب منها. وهذا نقاش أثير بحدّة منذ العام 2005، حين أقدمت صحيفة يولند بوسطن (Jyllands-Posten) الدنماركية على نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي الكريم.
حينها برز في الساحة معسكران على طرفي نقيض، الأول تطاول بجهالة على الرموز الدينية للثاني بذريعة حرية الرأي والتعبير، والثاني قام بردّ فعل غوغائي بلغ حدّ محاولات إحراق مقرّات بعض البعثات الدبلوماسية الأوروبية. وبين "العنف الرمزي" المتمثل في تأجيج نار غضب المسلمين من خلال الاستهداف المجاني وغير المسؤول لمقدساتهم ورموزهم الدينية، و"العنف المادي" المتمثل في إشعال النار في بعض السفارات الدنماركية، غاب صوت العقل وترك المجال أمام أطروحات مانوية حدّية لا تسمح بالتقريب بين وجهات النظر والوصول إلى توافقات تاريخية حول جدلية الحرية والمقدّس. غير أن الأحداث الإرهابية التي هزّت باريس أعادت الموضوع إلى بساط الجدل من جديد، ولعلها فرصة لإحياء النقاش حول مسألة "العلمانية" و"الهوية الفرنسية" وفقاً لمقاربة تراعي التحوّلات التي عرفها المجتمع الفرنسي على مستوى بنيته الثقافية، إذ من الطبيعي أن يخضع مجتمع "تعدّدي" مثل المجتمع الفرنسي إلى التغيير في مكوّناته وتعبيراته الثقافية، وأن ينعكس هذا التحوّل في السياسات الثقافية الرسمية من خلال ترسانة قانونية تحدّد الحدود الفاصلة بين التمركز والتنوّع وبين الإدماج والإقصاء، وتربط الحرية بالمسؤولية وتراعي المشاعر الدينية للأقليات الدينية أو الإثنية.
قد يعترض معترِض بالقول إن السخرية من الأنبياء أمر طَبَّع معه المجتمع الفرنسي من خلال تناول شخصية السيد المسيح في الأعمال السينمائية والفنية والرسوم الكاريكاتورية، وهذا صحيح، غير أن القياس هنا في غير محلّه، فالمخيال الجمعي الفرنسي لا يعتبر أن السخرية من السيد المسيح مؤذية للشعور الديني، وذلك نتيجة تراكمات سياسة إقصاء ممنهجة للدين المسيحي (La déchristianisation) من الفضاءين العام والخاص منذ الثورة الفرنسية. ومن يتعمق في دراسة التاريخ الثقافي والاجتماعي لفرنسا ما بعد الثورة يتبيّن بجلاء عمق الصراع السياسي والاجتماعي بين الذي ناصروا هذه السياسة، ومعظمهم من سكان الحواضر الكبرى، وبين فئات عريضة (سكان البوادي والمدن الصغيرة) ناصبتها العداء وقاومتها بشراسة، الأمر الذي أجّل إقرارها واستقرارها في الوجدان الفرنسي إلى أجيال لاحقة على الجيل الذي طالب الكونت دي ميرابو بفرضها عليه بذريعة أنها الضمانة الحقيقية لتحقيق أهداف الثورة الفرنسية.
ولذلك، فإنه من الجهل أو التجاهل أن يتم إسقاط الموقف الشعبي الفرنسي من الإساءة "فنّياً" إلى المسيح عليه السلام، على مشاعر المسلمين تجاه الإساءة لنبيهم عليه السلام، أو أن يتمّ السعي إلى استنساخ التجربة الفرنسية في هذا السياق على النسق الثقافي الإسلامي وفقاً لتصوّر استشراقي كلاسيكي يزن التقدّم الثقافي بمعيار النظرية الداروينية. وفي مقابل ذلك، ينبغي الكفّ عن التفاعل الأهوج مع البذاءات الصادرة في حق الجناب النبوي الشريف، والتعامل معها بحكمة ورزانة من خلال استحضار القيم الإسلامية السامية والاعتزاز بالذات الحضارية التي لا ينبغي أن تنال منها الإساءات والاستفزازات، مع الاشتغال على الإمكانات المتاحة مثل الجبهات القانونية والدبلوماسية والإعلامية.
يدافع المسلمون اليوم في الغرب عن براءتهم، وينفون صلة التطرف بجوهر الدين، حتى أن الرئيس الفرنسي نفسه قال إن المسلمين أول ضحايا ما يحصل، في حين أن هناك من يرى سندا للهجمات والعنف في التراث الفقهي. كيف يمكن القول بقيام العلاقة أو انتفائها بنظركم، في ظل الجدلية التي تطبع قراءة النص الديني وتأويله داخل السياق وخارجه؟
إنه لأمر مؤسف أن يضطر المسلمون إلى التبرئ من جرائم يقترفها بعض المحسوبين عليهم، فليس من المعقول ولا من المقبول أن يحمّلوا المسؤولية الجماعية عن هذه الجرائم، ولا أن يتهم دينهم، تصريحاً أو تلميحاً، بتسويغها، فبالأحرى بالحث عليها. لقد آن الأوان للحسم في هذه المسألة، وذلك بأن يكفّ خصوم الإسلام عن استغلال كل حدث إجرامي يُرتكب باسمه لإشعال فتيل "حروب الأفكار" و"صدام الحضارات" والترويج لنزعة الإسلاموفوبيا والتحريض ضد الإسلام والمسلمين. فمثلما يتمّ التمييز بين المسيحيين والفظائع الصليبية، وبين اليهود والجرائم الصهيونية، ينبغي التمييز كذلك بين الإسلام وما يقترف من جرائم باسمه أو باسم الدفاع عنه. فلا مسؤولية للإسلام او لمسلمي فرنسا عن الجرائم الشنعاء التي كانت باريس مسرحاً، لأن الذين ارتكبوا هذه الجرائم هم "منتوج" فرنسي، ففي فرنسا ولدوا وفي أحيائها "الهامشية" ترعرعوا وفي مدارس هذه الأحياء تعلّموا. وعلى الدولة الفرنسية أن تتحمل مسؤوليتها في فشل خطط الإدماج وتحدّد مكامن الخلل وتعالجها من خلال مقاربة شمولية تراعي الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لآفة التطرف في أوساط بعض شباب "الضواحي".
ولعل الخطاب الرسمي الفرنسي أدرك هذه المعادلة حين دعا الرئيس هولاند إلى التمييز بين الإسلام والإرهاب، وحين وصف مانويل فالس ما يقع في الضواحي بالفصل العنصري المناطقي والاجتماعي والإثني. ولعل ما يبعث على التفاؤل في هذا الإطار عزف قطاع معتبر من الإعلام الفرنسي -على غير عادته- على الوتر نفسه، حين حال بعض مقدّمي البرامج التلفزيونية دون تمرير رسائل عنصرية من طرف ممثلي اليمين المتطرف أو بعض الشخصيات المعروفة بمعاداة الإسلام في فرنسا، فضلا عن تحوّل نوعي في تعاطي بعض المنابر الإعلامية ذات التأثير الواسع في صناعة الرأي العام الفرنسي، مع مسلمي فرنسا، حيث عمدت إلى تقديم نماذج ناجحة لمسلمين فرنسيين استطاعوا الحفر في الصخر والوصول إلى أرقى المراتب الأكاديمية أو الاجتماعية أو الحصول على أعلى المناصب الإدارية أو السياسية على الرغم من عدم توفر الشروط الموضوعية التي تسمح لهم بذلك، وهذا من شأنه أن يغيّر الصور النمطية السلبية لمسلمي فرنسا في المخيال الشعبي الفرنسي.
لا شك أن أمام فرنسا خطوات أخرى ينبغي أن تقطعها في مسار تنزيل قيم الجمهورية في التعامل مع مسلميها، وفي مقدمتها مراجعة سياستها الاجتماعية في الأحياء التي تقطنها أغلبية من المسلمين، والعمل على إيجاد حلول قانونية تحول دون النيل من مقدسات المسلمين تحت يافطة حرية الرأي والتعبير، وذلك من خلال تضمين هذه الإساءات في "قانون غيسو" الذي يقضي بتجريم التحريض على الكراهية ويحظر بموجبه معاداة السامية أو مراجعة ما استقر في "الأذهان" عن الهولوكوست وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية أو الترويج للعنصرية والتمييز بين الناس على أسس عرقية أو إثنية أو دينية. وربما يكون هذا هو الحل الناجع الذي يوازن بين احترام "القيم الفرنسية" وحماية النسيج الاجتماعي الفرنسي من الانفجارات الاجتماعية والهزات الارتدادية للصراع على الهوية.
من ناحية ثانية، ينبغي أن لا تعفي النخب الثقافية في العالم الإسلامي نفسها من مسؤولية إنتاج خطاب إسلامي جديد وسطي معتدل وإنساني. إذ بقدر ما هو مطلوب التأكيد على ضرورة التمييز بين الإسلام والتطرف وبأن الأغلبية العظمى من المسلمين تتبنى نهجاً معتدلا، مطلوب أيضاً الاعتراف بأن أغلبية من يرتكبون أعمالا إرهابية ينسبون أنفسهم إلى الإسلام. ولذلك، فقد آن للعقل المسلم أن يتراجع عن استقالته ويتحرّر من ارتهانه للتراث ليبدع فكراً دينياً جديداً مرتبطاً بالأصل منفتحاً على العصر وعلى "الآخر"، فالتراث الإسلامي حابل بالمتناقضات التي تتيح لكل لاجئ إليه إمكانية العثور فيه على غايته وبُغيته، لأنه منتَج بَشري متنوّع خاضع للشروط التاريخية التي أنتج خلالها، وليس منتجاً متجاوزاً للمكان أو متعالياً على الزمن التاريخي. ومن ثمة، من البديهي أن نجد ضمنه مواقف متشنجة تضيق بالاختلاف والتنوع والتعدّد وتسوّغ للمتطرفين تطرّفهم وعنفهم، لأنها ظهرت في سياقات تاريخية تميزت بالصراع والاحتراب، أو بحالة الضعف المفرزة للتخلف والانغلاق، الأمر الذي يجعل الارتهان له جهلا بالدين وعملا بغير مقتضاه.
ويكمن الإشكال المنهجي في عجز التيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية عن بناء نموذج معرفي مرتكز على الوحي لا على ما أنتج على هامشه، الأمر الذي يفرض مراجعة شاملة للتراث الإسلامي، الذي بات يشكّل سلطة معرفية منذ عصر التدوين تقريباً، ووضعه في حجمه الطبيعي من خلال عرضه على الوحي والعقل والمصلحة والواقع. لقد ظل هذا التراث طيلة قرون الانحطاط مهيمناً على حركة التاريخ في العالم الإسلامي، بسبب تعطل حركة التجديد والاجتهاد، فالاجتهاد الذي يفترض أن يكون مستوعباً لكل الأصول تحوّل إلى مبحث من مباحث علم الأصول، فحوصر في عملية الاستنباط وأصبح مرتبطاً بآلية اجتهادية بسيطة، مع أن الأصل فيه أن يكون مواكباً لحركة التاريخ. ولذلك بقي هذا التاريخ سكونياً مفتقراً إلى الوعي التاريخي والإبداع الإنساني وخالياً من مشروع بنائي يحقق النهوض الحضاري، إذ لا يمكن بناء مشروع للمستقبل بالارتحال إلى الماضي وضرب الخيام في تخومه، ولا بإعلان تبنّي بعض منجزات الحداثة ركوباً للموجة وتوهّماً بالانخراط في الحضارة المعاصرة. وغياب مشروع حقيقي للتجديد الديني يجعل حركة المجتمع فاقدة للروح، أي فاقدة لما سمّته الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل "العظمة الأصلية"، والتي تضعها في مقابل "العظمة المزيفة" الذي يعتبر المرض بالآخر والسعي الدائم إلى التصادم معه أحد تمظهراتها. وهذا داء استشرى في أوساط بعض الشباب المسلم لأسباب مركّبة لا يتسع المجال للتفصيل فيها، علماً بأن هؤلاء يبحثون لأدوائهم عن شرعية دينية في فتاوى ومواقف صدرت في قرون سحيقة تعبيراً عن علاقة تاريخية مثخنة بالجراح ومثقلة بإرث طويل من الاحتراب على المواقع والنفوذ بين عالميْ الإسلام والغرب، في حين أن الشرعية الدينية تكتسب من خلال اعتبار الوحي شاهداً على الناس وليس شاهدا لهم، أي أنه مصدر للقيمة لا مبرّراً لها.
والحال أن المتطرفين يتعاملون مع النص المقدّس بمنطق التبرير مستصحبين تراثاً متشنجاً يعتمدونه ديناً بدل الدين لافتقادهم القدرة على التمييز بين الدين بوصفه وحياً إلهياً والتدين باعتباره معطى بشرياً مرتبطاً بالتجربة التاريخية في التمثل والممارسة. وهذا ما يجعل من السهل استدراجهم لاستعمالهم حطباً في إشعال نيران الحروب الايديولوجية والعسكرية، والتي تبرز اليوم بجلاء في الصراعات الطائفية المشتعلة أوارها في بعض البلدان العربية في أعقاب ما سمي بالربيع العربي.
طفوٌّ للدم وتقاطبٌ طائفي وصراعات مذهبيَّة غير مسبوقة باتتْ تعصفُ بالمنطقة، بعد تبددِ حلم التغيير الذي كان منشودًا في أكثر من بلد. كيف تقرؤُون حالةَ العود التي آلتْ إليها دول "الربيع" بعد أربع سنوات من طموح التغيير؟
ربما يكون من المجازفة الجزم بتحقق حالة العود وتبدّد مطمح التغيير أو الانجذاب نحو غواية الانخراط في إقامة مأتم "الربيع العربي" وترديد مرثية الحلم الديمقراطي. صحيح أن حصاد الخيبات يؤشر على انتكاسات حقيقية لمطالب الإصلاح ومطامح التغيير التي عبّر عنها الحراك الشعبي، غير أن قراءة تحوّلات ما بعد ربيع الثورات في إطار الحدث الممتدّ في الزمن البطيء أو ما يصطلح عليه فيرناند بروديل "الزمن الطويل"، ومقارنة هذه التحوّلات بإفرازات الثورات الكبرى في العصر الحديث، من شأنه أن يمدّنا بآليات فهم وتحليل أكثر رصانة وموضوعية. فالثورة الفرنسية مثلا، لم تُقطَف ثمارها إلا بعد عقود من قيامها، ويكفي التذكير هنا بمحاولات الالتفاف على المطالب الثورية التي وحّدت الحكام والنبلاء والإكليروس في جبهة "الثورة المضادة"، وكذا باشتداد حدّة الصراع الاجتماعي والسياسي في عهد الجمهورية الأولى، وبالهوة السحيقة التي مزّقت المجتمع الفرنسي بين أهل المدن الثوريين وأهل البوادي المحافظين، والتي برزت بجلاء في العام 1848، دون أن نغفل معارك باريس الممتدة إلى حدود العام 1871، أي بعد قرابة قرن من الثورة.
وإذن، الفعل الثوري حدث تاريخي كبير، والأحداث التاريخية من هذا القبيل لا تدرك أبعادها ولا تستجلى مكنوناتها إلا باستحضار الزمن الطويل الذي لا يجعل الباحث تحت رحمة الأحداث والتقلبات الدرامية الظرفية الخادعة، لأن التحولات التاريخية وصيرورات وتفاعلات ومخاضات عسيرة متوالية في زمن ممتد عبر عقود.
من هذا المنظور يبدو التفاؤل أمراً مشروعاً مستساغاً، وإن كان المستقبل مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال الرّدة السياسية التي لن تكون نتيجتها سوى ترسيخ حالة الضعف والتجزئة والانقسام والتبعية، ولعل المرعب في هذا السياق تحول الطائفية الاجتماعية التي كانت مصدر غنى في المنطقة العربية الإسلامية إلى طائفية سياسية قد تأتي على الأخضر واليابس، وما من حلّ لهذا المأزم إلا من خلال تعاقد مجتمعي يكفل العيش المشترك في ظل الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، الأمر الذي يفرض على كل القوى الحية في البلاد العربية الخروج من شرنقة الحروب الايديولوجية التي تأسس عليها الزمن السياسي في سياق الصراع حول الدولة العربية الحديثة، وبلورة مشروع حضاري للمجتمع الراشد ودولة الحكم الصالح التي تحقق تطلّعات الناس في الحرية والكرامة والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية.
ثمَّة منْ يرى أنَّ سطوة الإسلاميِّين الذِين لمْ يكونُوا حملةَ مشروع واضح المعالم، هو ما أجهض الربيع، وأعاد الأمور إلى ما كانتْ عليه، سواء تعلق الأمر بإخوان مصر أوْ نهضة تونس، هلْ تحملُون الإسلام السياسي وزر الانتكاسة؟
قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن الإجهاض ما دمنا في فترة المخاض، فما سميت بدوَل الربيع العربي تعيش مخاضاً عسيراً، بخاصة وأن ملامح الجنين تبدو شائهة في معظم هذه البلدان، إذ يسير بعضها في تجاه الدول الفاشلة، بينما ما يزال بعضها الآخر يرزح تحت الصراع بين "الثورة" وما سمي بالثورة المضادة. ولذلك، يبدو من غير الموضوعي الحكم على هذه المرحلة في الظرفية الراهنة على الرغم من كل ما قد يقال عن إرهاصات أو مؤشرات ذات دلالات على مآلات التجربة ونتائجها. صحيح أن ثمة شعوراً عاماً بخيبة الأمل، ولا شك أن التيارات السياسية الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم تتحمل نصيبها من المسؤولية في ذلك، على اعتبار أنها لم تُبلور مشروعاً معبِّراً عن سقف المطامح الذي طالما رفعتها ووعدت بها. وهذا ما يفسّر تخبّطها في ممارسة السلطة وأداءها الباهت في الحكم قياساً إلى أدائها في المعارضة، ويفرض عليها الوقوف وقفة نقدية مع الذات تعرض فيها ما صارت إليه على ما وعدت به منذ أعلنت نفسها حركات "إحيائية إصلاحية" حاملة لمشروع قادر على رفع "التحدي الحضاري"، قبل أن تستعيض عن العمل الفكري بالعمل التربوي (وكأن التربية تقوم على أسس غير فكرية)، وقبل أن يتغوَّل الشق السياسي في عملها وانشغالاتها دون أن تتبلور هذه الانشغالات في مشروع سياسي يميّزها عن باقي الفرقاء السياسيين الذين اكتسبت جزءاً مهمّاً من شعبيتها من خلال نقدها لهم وتسفيهها لسياساتهم، حتى بات معلوماً لعموم الناس أن لا فرق بين الأحزاب "الإسلامية" وبين الأحزاب "الحداثية"، على مستوى الرؤية السياسية، غير القشرة الإسلامية التي كانت تعبّر عنها من خلال شعاراتها.
غير أن غياب المشروع لا يبرّر تحميل الإسلاميين وحدهم مسؤولية خيبات الأمل التي أصابت الشارع العربي غداة الحراك الشعبي، فثمّة قوى أخرى لم يكن من مصلحتها الفئوية نجاح تجارب الانتقال الديمقراطي في بلدان الربيع فعملت على تعطيلها، وهي تتحمّل بالقدر نفسه مسؤولية هذه المآلات. كما أنه ينبغي أن لا نسقط في فخ التعميم ونحن بصدد تقييم الأداء السياسي للإسلاميين، إذ لا مجال للمقارنة بين الأداء السياسي لحزب النهضة التونسي والأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، فهذه الأخيرة أبدت شرَهاً غير مفهوم للاستفراد بالحكم والاستئثار بالسلطة التي عمِلت على تدبيرها بهواية ساذجة، وربما غرّرت بها أدبيات "التمكين" فأعمت أعينها عن قراءة المشهد السياسي بعيون متبصّرة وبصيرة نافذة، أما حزب النهضة فأظهر حرصاً على السلم الأهلي والتجربة الديمقراطية الوليدة حين انخرط في الترويكا التونسية، ولم يعمل على السيطرة على مفاصل السلطة، الأمر الذي سمح لسفينة تونس بالإبحار في سلام في خضمّ أمواج الثورة المضادة العاتية، وبذلك أبدى النهضويون، رغم الأخطاء المرتكبة وعدم الوفاء بكثير من الوعود المعلنة، حكمة في تدبير المرحلة وأسهموا بنصيب معتبَر في بناء لبنات تأسيسية لنظام سياسي ديمقراطي على قاعدة التداول السلمي على السلطة.
دافعتم في أكثر من لقاء لكم عن إمكانيَّة نشوء الديمقراطيَّة في كنف الإسلام، بما لا يخلقُ تعارضًا بين هويَّة الشعوب والأنساق التي تحكمها، كيف استطعتم التوفيق بين الأمرين؟
لا يمكن أن نفهم جيداً إشكالية التعارض المزعوم بين الإسلام والديمقراطية إلا من خلال تفكيك منظومة الثنائيات الحدّية المتخاصمة التي تستبطن معارك مصطنعة ومتوهّمة تلهي الناس عن معاركهم الحقيقية، وتجعلهم رهناً لفكر سياسي غير متحرّر من قيود الايديولوجيا السياسية، فهو أشبه بنسق مغلق خاضع لنزعة دوغمائية تجعل الكلمة العليا للايديولوجيا وليس للمعرفة العلمية، كما تجعل كل طرف يتوهّم احتكار الحقيقة والتاريخ والمستقبل. فإذا كنا نعيب على التيارات ذات المرجعية الإسلامية اغترابها عن زمنها بجنوحها إلى التقليد واستنساخها لتجارب ماضية، فإننا نعيب على التيارات ذات المرجعية الحداثية اغترابها عن بيئتها الحضارية وسقوطها هي الأخرى في شرَك التقليد من خلال استيراد نماذج معرفية جاهزة من السياقات الغربية. فكل طرف هنا له سلفه الذي يقلّده ويكاد يقدّسه، على الرغم من أن الطرف الأول يبرّر موقفه بالحرص على "أصالة" مشروعه بينما يبرّر الطرف الثاني تموقعه بالحرص على "حداثة" مشروعه. والحقيقة أننا لو حرّرنا مفهوم "الأصالة" من فهم الإسلاميين له لأمكن أن يكون حداثياً، ولو حررنا مفهوم "الحداثة" من تمثل "الحداثيين" له لأمكن أن يكون أصيلا، أي أن ثمّة حاجة ماسّة إلى القطيعة مع المنطق الاحتكاري الذي يتعامل تعاملا "إقطاعياً" مع المفاهيم والمنجزات الحضارية، والاستعاضة عن هذا "المنطق" الإقصائي برؤية معرفية بنائية لمسألة "الهوية" و"الغيرية"، تجعل الذات الحضارية محافظة على خصوصياتها الثقافية دون الانغلاق عليها، ومنفتحة على "منجزات الآخر الحضارية" دون الذوبان في أنساقها.
ولولا منطق الانفتاح هذا لما حصل تلاقح ثقافي كوني أفرز الحضارة الإنسانية المعاصرة، والتي ليست سوى نتاج عملية تراكم مستمرّ للعطاء الإنساني عبر الارتحال التاريخي للبشرية، وضمنه عطاء الثقافة الإسلامية التي أسهمت بسهم وافر في مسيرة الحضارة الإنسانية.
بهذه المقاربة، يسقط التعارض المزعوم بين الإسلام والديمقراطية، ويغدو طبيعياً الاستفادة من تجارب الآخرين ومنجزاتهم الحضارية دون الارتهان لها، وفي مقدّمتها الديمقراطية باعتبارها المَعلَم الأساس للحداثة السياسية والنموذج الأفضل، على عيوبه "التقنية"، في إدارة الشأن العام وتدبير الاختلاف والتعدّدية السياسية. على أن الاستفادة دون الاستعارة، فالديمقراطية لا تستعار وإنما تبنى بمواد بناء ذاتية، والشرط الأساس أن تكون ضامنة للحقوق والمساواة والحريات، مرسّخة للعدل بين أفراد المجتمع ومعبّرة عن هويتهم الجمعية.
...لكنْ ثمَّة منْ يرى أنَّ الديمقراطيَّة لا يمكن أنْ تعزل عنْ مبادئها المؤسسة الضامنة لحريَّة الفرد، في نطاق دولةٍ مدنيَّة تقوم على مفهوم "المواطنة"، عوض ما يروج له على أنَّه حقٌّ للجماعة"؟
لا إشكال في ذلك، إذ لا تعارض بين القيم الإسلامية والقيم الكونية، بين حرية الفرد وبين دين يعلن نفسه الدين الحق ثم يكفل للإنسان حرية الاختيار (لا إكراه في الدين)، كما أنه لا تعارض بين الإسلام و"المواطنة"، ذلك أن المتأمّل في التجربة النبوية يكتشف أن مفهوم الأمة في الإسلام مفهوم سياسي وليس مفهوما مِلِّياً، ولا أدل على ذلك من صحيفة المدينة التي اعتبرت يهود المدينة "أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، وفي ذلك إقرار متقدم للمواطنة مع ضمان اختلاف المعتقدات. أما "الدولة المدنية" فهي نموذج سياسي متوافق مع قيم الإسلام وتعاليمه، إذ لا وجود في الإسلام، ولا حتى في التجربة التاريخية الإسلامية، لدولة ثيوقراطية تحكم بالحق الإلهي، وهذا التعارض بين الدين والدولة المدنية مستورد من التجربة التاريخية الأوروبية، شأنه شأن كثير من السجالات التي أُقحِمت عنوة في المجال التداولي الإسلامي، وانشغلت النخبة بالإجابة عنها متغافلة عن أسئلت المجتمع وأولوياته الحقيقية، فانقسمت إلى فريقين كبيرين يزعم كل منهما امتلاك ناصية الحل، ولا أحد منهما انتبه إلى أنه يقدّم حلولا لمشاكل غير قائمة أصلا، ويحاول التوفيق بين ثنائيات غير متعارضة أصلا، حتى تحوّلت هذه الثنائيات المتصارعة إلى مشجب تعلق عليه الخيبات وتبرَّر به الهزائم والانتكاسات النفسية المستمرة منذ عصر النهضة العربي إلى اليوم، ويؤجَّل من خلال الصراع بها كل حسم في قضايا الحاضر والمستقبل، وفي مقدمتها مسألة الخيار الديمقراطي الذي ما عاد من الممكن تأجيلها تحت ذريعة التعارض بين الإسلام والديمقراطية، فإذا كانت الحرية ركيزة أساس للديمقراطية فالدين يكفلها ويضمنها، وإذا كان العدل ركنا ركيناً من أركان الديمقراطية، فما نزل الدين إلا ليرفع الظلم ويقيم العدل في الناس، وهذه مسألة صريحة في القرءان الكريم لا تحتمل تأويلا (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، سورة الحديد، الآية 25.
الإشكال إذن ليس في الديمقراطية، وإنما في الذين يعتبرون أن لا ديمقراطية بدون علمانية، ويطالبون بإقصاء الدين عن المجال العام، مع تمثّل متطرّف للعلمانية مصادم للدين ومتجاوز حتى للثوابت التي أقرّها فكر الاستنارة الأوروبي، في ظرف صار بعض الفلاسفة الغربيين يبحثون في سبل مصالحة الدين مع المجال العام، بل إن هابرماس نحت مفهوم "المجتمعات ما بعد العلمانية" في معالجته لهذه الإشكالية. والحقيقة أن لا فرق بين من يرفع شعار "الإسلام هو الحل" ومن يرفع شعار "العلمانية هي الحل"، فكلاهما يستنجد بأجوبة مسبقة تصادر على الأسئلة المعرفية، ويتمترس بوصفات جاهزة ناجزة دون أن يكلّف نفسه عناء طرح سؤال الإشكال حتى يبحث له عن حلّ بعيداً عن المزايدات بالشعارات.
تتولون الأمانة العامَّة لمركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنسانِي، وقمتم باستضافة المفكر المغربي طه عبد الرحمن في أكثر من مناسبة، هلْ من صلة يمكن قراءتها بينَ مشروعه الفكري وتصوركم لسؤال الأخلاق كما يجري طرحهُ في النقاش منذُ سنوات؟
طه عبد الرحمن علَم من أعلام الثقافة الإسلامية المعاصرة، ولذلك سعدنا باستضافته في مركز مغارب في أكثر من مناسبة، بل وحرصنا على أن ندشّن أنشطة المركز العلمية بمحاضرة افتتاحية لهذا الفيلسوف المجدّد، لأنه صاحب مشروع فلسفي يرنو إلى التحرّر من ربقة أنماط فكرية هيمنية، وصاحب موقف معرفي غير مهادن للتقليد والتبعية. وهنا تحديداً نقطة الالتقاء الرئيسة للمتن الطهائي مع كل مشروع فكري يطمح إلى شقّ طريق ثالث مثل ما هو شأن مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني، وطبيعي في هذا السياق الاستفادة من مشروعه في "فقه الفلسفة" بامتداداته النقدية والتأسيسية وقدرته المعرفية على الاستيعاب والدمج والتجاوز الضامن للحق الإسلامي في الاختلاف الفكري والحق العربي في الاختلاف الفلسفي. وإذا كان عمل المركز الثقافي لا ينكبّ على دائرة الفلسفة، فإن هذه الأخيرة قمينة بمدّ المشروعات الفكرية والثقافية بالرؤية المعرفية العالِمة المتحرِّرة من إسار الايديولوجيا، بخاصة إذا كانت من طينة فلسفة الأخلاق الطهائية أو فلسفة هابرماس التواصلية، لأنها تؤطّر شبكة العلاقات بفلسفة أخلاقية وتواصلية في زمن تشتدّ فيه الحاجة تواصل ثقافي خلاّق وإلى ثورة ثقافية غير منفصلة عن القيمة.
سبقَ لكمْ أنْ اشتغلتم خبيرا في الإيسيسكو، ونسقتم لعددٍ من الندوات والمؤتمرات واجتماعات الخبراء في أوروبا والعالم الإسلامي، كيفَ تجدُون إدارة المسألة الثقافيَّة في العالم العربِي؟
أزمة العالم العربي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى، وهذا يفرض على المؤسسات الثقافية بذل قصارى الجهود لتجاوز حالة الهزال الثقافي والضحالة الفكرية، غير أن معظم هذه المؤسسات، إلا ما رحم الله، لا تستشعر جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها، فتكتفي بالأنشطة الاستعراضية و"الفقاعات" الإعلامية لتبرير صرف الموازنات الضخمة بعدما حولها من يتلون أمورها إلى إقطاعيات خاصة بهم، فلا تجد لأنشطتها "الفارغة" أثراً إلا في التقارير المرفوعة إلى هيئاتها "التقريرية"، ما يجعلها غير ذات تأثير في رسم السياسات الثقافية ولا في نشر الوعي وتشكيل القناعات، لأنها أعفت نفسها من مسؤولية التجديد الثقافي وإنماء المعرفة، فلا هي قدّمت مشروعاً نهضوياً أو حضارياً، ولا جسّرت الفجوة المعرفية مع الأمم المتقدّمة، ولا قدّمت مقترحات لمعالجة أزمة التعليم في العالم العربي، ولا قرّبت بين الشعوب والثقافات، ولا نشرت قيم الاعتدال والوسطية، ولا حتى نقّحت تراثاً تتعالى الأصوات منذ عقود مطالبة بفرز غثه من سمينه، ولا هي عملت على استجلاء ما يسميه فرانز فانون ب" التواريخ المكبوتة"، ولا حرصت من خلال برامج علمية على حماية الشخصية الحضارية للأمة، باعتبار هذه الأخيرة من أهم الأدوار الوظيفية للثقافة والمؤسسات الثقافية... والحصيلة أصفار مكعّبة. مؤسسات من هذا القبيل تتحول إلى عالة على مجتمعاتها بدل أن تجرّ قاطرة الثقافة فيها، وتلك قمّة المأساة.
سؤال أخير..هناك من يرى أنَّ التحرر من ربقة الاستبداد لنْ يتحقق ما لمْ يتوافر شرط الوعي للشعوب العربيَّة، كيفَ يمكن في نظركم، تأمينه بما يخلقُ شروطًا أخرى للتغيير؟
الاستبداد ثقافة قبل أن يكون ممارسة، ولذلك وجب تجديد التأكيد على الحاجة إلى ثورة ثقافية ترتقي بالوعي العام، فالثورة الحقيقية من منظور علم الاجتماع الثقافي هي حراك يحرّر المجتمع من التبعية ويمكّنه من استعادة سيادته الثقافية، ولذا صار لزاماً العمل على إطلاق مفاعيل الوعي التاريخي المحرّك للتغيير الثقافي الحامل لطموحات الأمة في التقدم والرقي والحرية والعدالة والتنمية الشاملة واللحاق بالركب الحضاري. وهذا ما يلزم جميع القوى الفاعلة بالترفّع عن المماحكات السياسية والايديولوجية وتحمّل مسؤوليتها التاريخية في تيسير ولوج المجتمعات العربية مرحلة التفكير العلمي وإبداع مشروع نهضوي على أساس بناء العقول والاستثمار في التعليم والبحث العلمي المنتِج للإنسان الواعي بإنسانيته والقادر على إشادة العمران. فهل تتحقق هذه النقلة النوعية؟ هذا سؤال كبير تحدّد الإجابة الفعلية عليه مصائر المجتمعات العربية، والأمل أن تعي الشعوب العربية ونخبها السياسية والثقافية أن الإنسان هو الثروة الأثمَن وأن المعرفة هي الحل الحقّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.