رشيد لزرق حسم دستور 2011 في مسألة الهوية الإسلامية عبر تعزيز مكانتها ابتداء من ديباجته التي نصت على أن "المملكة المغربية دولة إسلامية" وأن "الهوية المغربية تتميز بتبوُّؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها"، والفصل 3 الذي نص على أن "الإسلام دين الدولة"؛ وبذلك فإن تحقيق هذه المكاسب لصالح الهوية حتم على المشرع عدم الاستجابة لمطالب بعض القوى الحداثية على الطريقة الفرنسية التي طالبت باستبدال مصطلح "دولة إسلامية" ب"بلد مسلم"، ذلك أن مفهوم الدولة في القانون الدستوري يعني الشعب والحكومة والحكم؛ وتم التنصيص في الفصل 19 على أن "الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية ينبغي أن يكون في نطاق ثوابت المملكة"، وفسره الخطاب الملكي: "بما لا يتنافى مع أحكام الدين الإسلامي"؛ وفي الفصل 175: "لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي". كما أنه بالتأمل في النصين 41 و42 من الدستور، نجد أن المشرع الدستوري حسم مسألة الخلاف باعتبار الدولة إسلامية والحكومة مدنية، وبذلك فالوثيقة الدستورية حسمت في خيارات الدولة المغربية، في اتجاه يحافظ على كل أعضاء المجتمع، عبر حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان، وضمان حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها روح مواطنة تقوم على قاعدة الديمقراطية التي تقتضي المساواة في الحقوق والواجبات. ومن أجل ضمان مواكبة الوثيقة الدستورية، ينبغي الانكباب الجماعي على الشأن الفقهي والاجتهاد في اتجاه الانفتاح ومعالجة صدمة التحديث، بالمساهمة الجماعية وإطلاق عملية النقد الداخلي أو البناء الجديد؛ غير أن قوى التدين السياسي تعتبر ذلك حرجا في هذه المرحلة، لأن هناك علاقة جدليّة بين ظهورها وسعيها إلى الهيمنة على مفاصل الدولة عبر التأويل الأبوي للفقه الإسلامي، وبتصويب سلاحها القاتل إلى العقل وحريّته التي تراها معادية للنصّ الديني، كما تصوّب سلاحها إلى النقد والتجديد لأنهما يمثلان، وفقها، ابتداعا في الدين لا إبداعا فيه. من هنا فإن الحاجة ماسة إلى الانكباب على التأويل الحداثي للفقه الإسلامي، فأغلب الدراسات تعاني من حالة تخبط في استخدام المنهج التاريخي في فهم نصوص الفقه الإسلامي، بحيث يحتكرون تبرير الوضع الحالي عوض الارتقاء به نحو الأفضل، مما يجعل قراءتهم للفقه الإسلامي لا تخضع لمنهج واضح ومحايد يميز لنا بين تاريخية النص من عدم تاريخيّته، مما يسمح بحذف القشور الزمنية عن هذا النص والحفر على الوصول إلى لبّه الباقي والمستمرّ إلى يومنا هذا. وفي المقابل، فإن جل الناقدين للفقه الإسلامي لم يستطيعوا وضع منهج واضح، لهذا من الضروري التوصّل إلى صيغ ضابطة لكيفية التعامل مع النصّ الديني بعد تجاوز مرحلة إثبات مرجعيّته، تمهيدا لتحقيق التكييف المعقول. فالقراءة الحداثية الشعبية للفقه لا تعني الانقطاع التام المطلق عن النص، بل غايتها إبداع حاجيات حقيقية روحية يتعدى نفعها الذاتي إلى النفع العام، غايتها حفظ حرمة الدين الإسلامي بإثبات عقلاني وإثبات تفاوته في الآن ذاته، وترك حق نقد الفقه للمواطنين تأسيسا على أنها مراتب في سياق عقلانية الآيات ويقوم التعميم على كونية سياقه الديني. إن الفقه الإسلامي لا يتعارض مع الحرية بل هو دعامة لها، والمجتمع المغربي لا يمكنه تحقيق الثورة الثقافية المنشودة بمعزل عن ثورة مؤسساتية تصاحبها ثورة روحية. هذا النوع من الإصلاح يكون تدريجيا وليس مفاجئا، لكون الدين الإسلامي ليس كما تحاول قوى التدين السياسي تصويره بجعله مفروضا من الحكومة، بل هو المؤسسة الأولى من المؤسسات الاجتماعية، فهو الشرط الضروري للحرية والأخلاق، وهو الذي يحمي الوسطية المغربية التي ضمنت للمملكة دوامها. ونجاح المشروع الحداثي لن يكون بدون رؤية استراتيجية محورية دائمة تؤمن، قولا وفعلا، بأهمية الاجتهاد الفقهي ودوره في الإصلاح، وهنا يجب الانتباه إلى كون تجربة الحداثيين عموما في الجانب الديني شابها التذبذب، مما أسقط البعض من متطرفي الحداثة في دائرة التعالي عن مشاعر الجماهير ومعتقداتهم وثقافاتهم التعبدية، متناسين أن الحداثة لا يمكن أن تكرس كبنية في المجتمع المغربي بدون استلهامها من رحم المجتمع وليس إسقاطها وفق نموذج بعينه، فالانتماء إلى الحداثة لا يتعارض والاعتزاز بالقيم والهوية الدينية والقومية للأمة المغربية. هذه المنطلقات تحتم على الحداثيين بلورة رؤية - خطاب - فقهي يتلاءم مع الواقع السياسي والاقتصادي، يتماهى مع روح الدين الإسلامي، وليس اختيار الحل السهل عبر ترك الدين للآخرين، وهو الأمر الذي جعل قوى التدين السياسي تحتكر المساحات الرمزية للمقدس الديني وتكفير الآخر من خلاله. إن إنتاج خطاب "ثقافي- فكري" يعطي للمسألة الدينية إطارها الرمزي المقدس بأبعاده الحقيقية، ومن شأنه جعل الدين محركا في عملية التغيير داخل المجتمع، لكون التغيير المنشود لا يكون بمعزل عن المحفزات السيكولوجية والرمزية، والدين أبرزها، وبالتالي نستطيع من خلالها ضمان المحفزات الثقافية والمعرفية ربط القوى الشعبية بمفهوم المواطن في المجتمع، عبر وعينا بضرورة عدم ترك المستقبل للفراغ؛ فدورنا كحداثيين يلزمنا بضرورة التأسيس لفعل سياسي وثقافي ظل مهمشا وغائبا، عبر بلورة رؤية محددة للشأن الفقهي، والقيام بنقد ذاتي على ضوء قراءة تجارب السنوات السابقة، والتي تمكننا من وضع نقاط أساسية لمعالجة الحاضر والتأسيس للانطلاق نحو فعل حداثي متجدد يبني للمستقبل؛ فالحداثيون اليوم مطالبون بتأسيس علاقات بين كل أطيافهم، بيمينهم ويسارهم، لإنتاج فعل حداثي شعبي. إن الدعوة إلى فيدرالية اليسار فعل إيجابي لا يمكنه وحده خلق الحراك الثقافي، لكونه يتعارض مع طبيعة المرحلة التي تقتضي بث الحداثة أولا قبل أن نترك للأجيال القادمة إمكانية الفرز، فتحالف كل القوى الحداثية سيضمن نوعا من التحول من الشوفينية الإيديولوجية إلى المشترك الثقافي، ولعل تحالف التقدم والاشتراكية مع العدالة والتنمية في حكومة بنكيران يؤكد فشل التكتيكات السياسية التي لا تخدم غايتنا في تجاوز صدمة التحديث، بل هو تقارب ظرفي يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية للتأسيس لحكومة مدنية مسؤولة باختيارات واضحة، من شأنها تكريس الالتباس القيمي، ولا تسير في منحى المرحلة التي تستدعي خلق حراك ثقافي بإعادة قراءة الفقه الإسلامي وإنتاج فقه قابل للتبني والتطبيق، وإلا فإن النتيجة سوف تكون في غير صالح الفرز القيمي كضرورة ملحة للوضع السياسي والتحرر من الاستلاب الاقتصادي وثقافته الأبوية، وتحصين الخيار الديمقراطي، وتحقيق التقدم والتنمية، وإنتاج ثقافة ذات معنى. والمطلوب من الحركة الحداثية وضع أجندة سياسية للحوار تبدأ بعنوان "مغرب حداثي"، يؤسس لقطب حداثي شعبي كشرط وجوب لعملية التجديد الذاتي، بشكل يضمن الالتقاء مع الحركات الاحتجاجية، عبر صيانة الثوابت والتسلح بالأمل في التأسيس لمجتمع متنور، يحصن الخيار الديمقراطي كوسيلة لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية لجميع المغاربة وتحرير المبادرة وخلق جو الإبداع والمواطنة. بهذا المشروع، يمكن ترسيخ الاستقرار للجميع وتمكين الجيل الجديد من الأخذ بأحدث النظم الفكرية والاقتصادية في المجال السياسي والاجتماعي والحقوقي، فالتأويل الحداثي للدستور يظل طريقا للاستكمال والتقدم والحداثة في إطار الاعتزاز بالهوية المغربية المتنورة، بما يمكن المجتمع، من جهة، من حداثة مغربية ملتزمة تضمن الانفتاح على الذات ومواجهة كل النزعات الثقافية والإثنية الانفصالية؛ ويمكنه، من جهة أخرى، من إنتاج ثقافة ذات معنى كوني، مع افتخارنا بالعراقة المغربية.