تكاد عبارات مختلف الأحزاب السياسية تتفق في التنصيص على الإسلام باعتباره مكونا أساسيا من مكونات الهوية الحضارية المغربية، غير أن هذا الاتفاق يقابله سلسلة من التباينات تبدأ من نوع القراءة التي تعطى للدين، وتنتهي بحدود الديني ووظيفته وعلاقته بالشأن العام أو ما يصطلح عليه في أدبيات الأحزاب السياسية بإشكال العلاقة بين الديني والسياسي. الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: الإسلام وتأصيل الهوية الحداثية الديمقراطية لا يختلف الاتحاد الاشتراكي عن بقية الأحزاب السياسية في محاولة تأكيد نسبة هويته المرجعية إلى ثوابت الأمة التاريخية والحضارية، إذ يؤكد في برنامج الانتخابي لسنة ,2007 انبثاق منهجه الفكري والسياسي من عمق الأدبيات التي تعطي الأولوية للإنسان، منسجما مع ثوابت الأمة المغربية، وثوابتها التاريخية والحضارية والثقافية والدينية، وفي الوقت الذي يحرص فيه على إبراز تعدد مكونات هذه الهوية وانفتاحها، يؤكد على تمسكه بـهويته الاشتراكية الديمقراطية، ويعتبر الإسلام، أو القيم المشرقة للإسلام، القوة الأخلاقية المؤطرة لمفهوم المواطنة وبناء المجتمع الديمقراطي الحداثي المنفتح، وهكذا يتدرج تصور الحزب من الحديث عن انسجام منهجه الفكري والسياسي مع الثوابت الحضارية والثقافية والدينية للمغرب، إلى الحديث عن تنوع مكونات الهوية المغربية وانفتاحها، ليضمن بذلك اندراج هويته الاشتراكية الديمقراطية ضمن مكونات هذه الهوية المتعددة والمنفتحة، لينتقل بعد ذلك إلى تأصيل مشروعه الحداثي الديمقراطي؛ بالإحالة على القيم المشرقة للإسلام واعتبارها القوة الأخلاقية المؤطرة لهذا المشروع. بيد أن هذه الصياغة النظرية التي اعتمدها الحزب في برنامجه الانتخابي لسنة ,2007 ستكون أكثر تفصيلا في وثيقة الأرضية السياسية والمؤسسية للمؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي، والتي هي بدورها تدرجت ضمن مستويات ثلاثة: 1 المستوى الأول: وناقشت فيه طبيعة الهوية المغربية، وسمات الدين الإسلامي. 2 المستوى الثاني: وعرضت فيه لقضية احتكار الإسلام أو التوظيف السياسي للدين. 3 المستوى الثالث: وتناولت فيه قضية الاجتهاد السياسي والتنافس على البدائل المجتمعية. وهي مستويات متدرجة، تنطلق من العام إلى الخاص ثم المجال التدبيري. ففي المستوى العام، يؤكد الحزب إيمانه بوحدة الثقافية المغربية وتعددها، وعلى المستوى الخاص، يرى الحزب أن الإسلام باعتباره مكونا أساسيا للهوية الحضارية والثقافية يمتاز بخاصية التسامح والتفتح، وأنه ملك لجميع معتنقيه، لينتقل بعد ذلك إلى الإطار التدبيري، والذي يؤكد فيه على ثلاث منطلقات أساسية في التعاطي مع المسألة الدينية: أس- المنطلق الأول: رفض احتكار الدين أو توظيفه لأغرض سياسية لا يجوز لأي جهة أن تعتقد أن رأيها فيه هو رأي الدين. بس- المنطلق الثاني: ويتعلق بوسائل تدبير الاختلاف، إذ يوضح فيه الحزب أن المعتمد في إثبات قوة المشاريع المجتمعية ليس هو نسبتها إلى الدين، ولكن هو قدرتها على الإقناع ونيل أصوات الجماهير، على أن يدبر الخلاف بين المشاريع المجتمعية داخل فضاء تنافسي مبني على علاقات ديمقراطية يكون الحسم فيه لاقتراع الحر النزيه. تس- المنطلق الثالث: في الفصل بين السياسي والديني: وهو الأمر الذي فصلته بوضوح ورقة الهوية التي قدمت في المؤتمر الثامن للحزب، والتي طرحت ضرورة تحيين موقف الحزب ومرجعياته بما يتلاءم مع التحولات المجتمعية والكونية التي يواجهها المجتمع المغربي، وألحت على ضرورة الدعوة إلى الإصلاح الديني، أو ما أسمته التفكير الجدي والجريء في طرح مسألة فصل السياسة عن الدين، كي لا يبقى الدين وسيلة انتهازية لتحقيق مصالح سياسية، لكنها في الوقت ذاته أقرت بـأهمية الدين في حياة الأفراد، وضرورة حمايته، وذلك بـ جعله من اختصاص أمير المؤمنين. وأقرت كذلك بضرورة أن تبقى القيم الدينية إحدى الموجهات الأساسية في التعامل مع قضايا المجتمع، لكن من دون خلط بين ما هو دنيوي وما هو ديني وروحي. مؤكدة أن الأمن الروحي للمواطنين هو من المتطلبات الأساسية التي يجب أن توفرها الدولة. من خلال تتبع هذه المنطلقات الثلاثة، يبدو أن هناك تطورا كبيرا في موقف الحزب من المسألة الدينية، بحيث يمكن أن نقرأ هذه المنطلقات إما بالإحالة على تطور مقاربة الحزب للمسألة الدينية، وفي هذه الحالة، يكون المنطلق الأول خ أي رفض احتكار الدين ورفض توظيفه لأغراض سياسية، هو بداية التأسيس داخل الحزب لرؤية حول المسألة الدينية، والتي بدأت تتشكل عقب أحداث 16 ماي الإرهابية، والذي كان هاجس الحزب الأكبر فيه هو الصراع السياسي والإيديولوجي مع حزب العدالة والتنمية، وهي المرحلة التي رفع فيها الكاتب الأول محمد اليازغي عنوان التصدي للظلامية، لتأتي بعد ذلك مرحلة جديدة تمتد إلى ما قبل المؤتمر الثامن، وهي المرحلة التي يترجمها بوضوح المنطلق الثاني، على اعتبار أن التجربة النيابية لحزب العدالة والتنمية بعد التوجه نحو قضايا التدبير فرض على الاتحاد الاشتراكي إعادة تقييم الموقف لجهة البحث عن قنوات تدبير الخلاف السياسي عبر طرح قضية التنافسية في المشاريع المجتمعية، لتأتي مرحلة ثالثة، وهي مرحلة ما بعد المؤتمر الثامن، والتي تم فيها التداول بشأن اللقاء الموضوعي بين الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية، والذي طرحت فيه جملة من العوائق كان على رأسها قضية العلاقة بين الديني والسياسي (حوار محمد لحبيب الطالب للتجديد)، كما يمكن قراءة هذه المنطلقات بالإحالة إلى اختلاف المواقف والحساسيات التي تخترق الجسد الاتحادي بإزاء المسألة الدينية والموقف من حزب العدالة والتنمية. العدالة والتنمية: خيار التمايز بين الديني والسياسي تشكل قضية الهوية والمرجعية في أدبيات ووثائق العدالة والتنمية قضية محورية، لكن هذا الموقع الذي تحتله لا يعني أن الحزب لا زال يتعاطى مع هذه القضية بنفس المنظور، كما لا يعني أن البنية الحزبية الداخلية للحزب تتبنى نفس المقاربة بخصوص هذه القضية. فوثائق الحزب، خاصة منها برنامجه الانتخابي وأطروحة النضال الديمقراطي، تعكس الدينامية الفكرية التي يعرفها على مستوى مقاربته لهذه القضية، فضلا عن النقاشات الفكرية التي انخرط فيها بعض قادة الحزب في مرحلة ما قبل ترسيم الأطروحة. ويمكن أن نرصد في هذا الملاحظات الآتية: 1 حرص برنامج الحزب الانتخابي لسنة ,2002 على تصدير برنامجه الانتخابي لسنة 2002 بعرض المنطلقات الخمسة، بحيث يتناول قضية الهوية والمرجعية ضمن أول منطلق: الأصالة. التي تعني اصطباغ مشاريع الحزب الإصلاحية بالمرجعية الإسلامية وانسجامها مع القيم الثقافية والحضارية، مع استيعاب واحترام لجميع الخصوصيات الثقافية واللغوية والإثنية داخل فضاء الأخوة الإسلامية، وهكذا تحمل هذه الصياغة التي تعرض مفهوم الأصالة لمفهوم الهوية ومكوناتها وروافدها الثقافية واللغوية، وتحدد الإطار الذي يجمع هذه المكونات، وتميز بشكل ضمني بين الهوية والمرجعية، فالمرجعية هي المنطلق النظري والمنهجي الذي تقيم على أساسه المشاريع والقوانين للنظر في مدى تلاؤمها وانسجامها مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، بينما يتسع مفهوم الهوية لاستيعاب مكونات متعددة ثقافية ولغوية وإثنية، لكن شرط أن يكون الإطار الذي يصهرها الإسلام وقيمه، وفي مقدمتها قيمة الأخوة الإسلامية. 2 يرتكز حزب العدالة والتنمية في تأكيده على قضية المرجعية على التنصيص الدستوري على إسلامية الدولة، ويعتبر الحزب هذا التنصيص بمثابة حسم في قضية المرجعية في المغرب، واعتبارها قاسما مشتركا بين الجميع ومنطلقا لجميع البرامج والسياسات، بحيث تصبح الشريعة بمقتضى هذا التنصيص الدستوري هي المرجعية العليا التي لا تعلو عليها أي مرجعية أخرى(1) وأن تكون المصدر الأسمى لجميع التشريعات والقوانين، واعتبار ما يتعارض مع أحكامها لاغيا، وحتى لا تؤول هذه العبارات المدرجة في هذه الوثيقة على أن الحزب يرفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، حرصت نفس الوثيقة، بالإضافة إلى تركيزها على البعد النظري، على أن تركز على الجانب المنهجي في قضية المرجعية، وذلك من خلال الإحالة على مسألة مقاصد الشريعة والتركيز ضمن هذه المقاصد على أولوية الحريات في مشروع الحزب. ولا شك أن الحزب حين يدفع بمسألة مقاصد الشريعة في تفسيره لمقتضيات التنصيص الدستوري على إسلامية الدولة؛ فإنما يحرص على أن يبعد عنه صفة احتكار قضية المرجعية الإسلامية، وفي نفس الوقت يبحث عن توسيع دائرة المطالبين بإعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية. 3 وإذا كان الحزب قد جعل قضية المرجعية أو الأصالة المنطلق الأول في برنامجه الانتخابي لسنة ,2002 واقترح جملة من التدابير تغطي مجالات ستة وهي: تعزيز المرجعية الإسلامية - تقوية التدين والأخلاق في المجتمع - العناية بالمساجد وبالقيمين عليها - تركيز الهوية الإسلامية لنظام التعليم- تخليق الحياة العامة - تنمية ثقافة وطنية أصيلة، فإن مسألة تعزيز المرجعية الإسلامية ستنتقل في البربامج الانتخابي لسنة 2007 إلى الرتبة الخامسة، بعد أن احتلت قضية العدالة المحور الأول والجوهري في مشروع الحزب السياسي، وهو ما يعكس المخاض الذي الفكري كان يعيشه الحزب لحل معادلة الهوية والتدبير على امتداد في الفترة ما بين 2002 و,2007 والذي عبرت وثيقة البرنامج الانتخابي لسنة 2007 عن اتجاه الحزب للحسم في القضية لجهة اختصاص الحزب بقضايا التدبير والسياسات العمومية. بحيث كان مجمل ما اقترحه البرنامج ضمن التدبيرين المحوريين اللذين اقترحهما في هذه القضية يرتبط بشكل أساسي بالسياسة الدينية العمومية، وسواء تعلق الأمر بالنهوض بدور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وما يندرج تحتها من اقتراحات وتدابير، أو بتقوية المؤسسات الدينية والدعوية، فإن المتابعة الدقيقة للاقتراحات التي أدرجها الحزب ضمن هذين التدبيرين المحوريين يؤكدان حصول نقلة نوعية في تعاطي الحزب مع قضية الهوية والمرجعية لجهة الحسم في الاتجاه نحو السياسات العمومية، وتأكيد مقاربة التمييز الوظيفي بين السياسي والديني التي تبناها الحزب، كما تعكس من جهة أخرى خيار التمايز بين الدعوي والسياسي، والذي عبرت عنه بوضوح ورقة المشاركة السياسية والعلاقة بين الحركة والحزب فكريًّا ونظريًّا، وهي وثيقة ناقشها الجمع العام لحركة التوحيد والإصلاح الذي انعقد في نوفمبر ,2006 والتي انتهى في بيانه الختامي إلى تأكيد اللقاء بين الحزب والحركة على مستوى المرجعية الإسلامية، والتعاون في خدمة المشروع الإصلاحي، لكن في الوقت نفسه، ميز بين عمل الإطارين بشكل واضح، ذلك أن عمل الحركة عمل تربوي دعوي مدني، يسعى إلى الإسهام في بناء الإنسان الصالح المصلح، أما عمل الحزب فهو :عمل سياسي مرتبط بتدبير الشأن العام. حزب الاستقلال: تنوع مكونات الهوية والتباس في تدابير الحفاظ عليها تشكل وثيقة الثقافة والإنسية المغربية التي تمت المصادقة عليها في المؤتمر الخامس عشر الوثيقة الأكثر تدقيقا لموقف الحزب من مسألة الهوية، والأكثر غنى وثراء على مستوى تعداد مكوناتها، فحسب الوثيقة، تكونت الهوية المغربية عبر تاريخ من التفتح والتفاعل الإثني السياسي الديني العلمي اللغوي الاجتماعي، ولذلك، فمكوناتها المتعددة تتضمن الجانب الديني ممثلا في الإسلام وقيمه الإنسانية، والثابت السياسي ممثلا في الملكية الدستورية والوحدة السياسة والمجتمعية للمغاربة، والمعطى اللغوي والاثني الذي فرضته معطيات التاريخ، والمعطى الفكري الذي اقتضاه واقع الاتصال مع الثقافات الأخرى، والصيغة التعادلية التي اختارها المغرب للتعاطي مع القضايا الاقتصادية والمجتمعية، والمعطى العلمي الذي يفرض ضرورة الانفتاح العقلاني على حضارة الغرب، كما تضم الإنسية المغربية. غير أن هذا الثراء والتعدد الذي تقدمه هذه الوثيقة لمكونات الهوية، وتأكيدها في الوقت ذاته على خطورة تغيير الاختيارات التي ارتضاها الشعب المغربي، وخطورة التنكر لمكوناته المختلفة، لم يقابل على مستوى الاستراتيجية وبرنامج العمل الذي تقترحه الوثيقة، بتدابير كفيلة بتأمين استمرار اللحمة الجامعة لمكونات الهوية المغربية، وإن كان برنامج الحزب الانتخابي لسنة 2007 قد فصل في بعض هذه التدابير في المحور السابع الخاص بـ: إدماج المغرب في مجتمع المعرفة والإعلام، حيث ذكر جملة من التدابير ضمن المقترح الرابع المتعلق بـالتشبث بالهوية الوطنية، وبمبادئ الوسطية والاعتدال، منها: - السعي إلى تبوئ القيم الإسلامية مكانتها الطبيعية في المجتمع، وتوجيه القنوات والوسائط التربوية في اتجاه تبسيط المفاهيم الإسلامية وفق ما جاء في الكتاب والسنة، بعيدا عن كل غلو أو تشدد. - تشجيع الاجتهاد، حتى يكون تأويل النصوص القرآنية والسنية مسايرا للعقل وروح الشريعة وأصولها، متجاوبا مع قضايا العصر. - مراجعة مقررات التربية الإسلامية في المدارس بما يخدم الفكر الإسلامي، مع الحرص على قيم الوسطية والاعتدال. - إحداث معهد للفكر الإسلامي، يضمن تكوينا علميا رفيعا للدعاة، وتفتح أبوابه أمام الطلاب من جميع التخصصات. - إقرار برنامج إعلامي لنشر قواعد الإسلام وقيمه على لسان الضالعين في الدين واللغة والمنفتحين على التطور، وبصفة خاصة في المجتمعات الإسلامية. والملاحظ، أن الحزب في هذا السياق ينحو منحى الاتحاد الاشتراكي وأحزاب أخرى، في المزج بين ما يدخل ضمن تعزيز مواقع الهوية، وبين ما يندرج ضمن الإصلاح الديني.