على الرغم مما يخيل فإن مسألة الهوية بالمغرب قد حسمت تاريخيا ورسميا، بالتأكيد إن هوية المغرب حضارية إسلامية؛ فإن داخل الحسم وحالة الاطمئنان لهذه المسلمة يجعل الصراع الجدلي يكمن بين اختيارين: اختيار إسلامي، وثان يمتح أدبيات اشتغاله من توجهات المواثيق الدولية الوضعية. "" والحاجة لتناول الموضوع ليست من قبيل الترف الفكري، بل أملاها ما بدأ يظهر لدى بعض المثقفين الإسلاميين، خاصة بحزب العدالة والتنمية، الحليف الموضوعي لحركة التوحيد والإصلاح، بضرورة التفريق بين بعد التدبير في الاشتغال، وتوظيف مسألة الهوية في الحراك الثقافي والسياسي. رسميا.. الهوية إسلامية ولكن! بعيدا عن التأطير المفاهيمي للهوية ك"تيمة" متلونة بمرجعيات فكرية وسياسية (مرجعية إسلامية- اشتراكية- ليبرالية- لغوية- عرقية...)، تؤكد الأدبيات الرسمية بالمغرب، سواء نصوص الدستور، أو خطابات رئيس الدولة، وباقي المسئولين الحكوميين: أن الإسلام والمرجعية الحضارية تمثل رباط البيعة بين المواطنين والملكية، دون أن يمنع هذا الاختيار انفتاح المغرب على المواثيق الدولية، بما لا يخالف التشريع الإسلامي. وقد ظهرت هذه "الازدواجية" جلية أثناء الحسم في مدونة الأسرة؛ حيث تم إدخال تعديلات القوى النسائية المنحازة للمواثيق الدولية، مع احترام مبادئ الشرع في مسألة الإرث والولاية وتكوين الأسرة، بتأكيد ملك البلاد أنه "لن يحلل حراما ولن يحرم حلالا"، فجاءت المدونة وسطا بين نزعتين إسلامية ووضعية. وبهدف ترسيخ هذا التوجه الإسلامي كحد أدنى، باعتبار دينية النظام السياسي بالمغرب، أولت الدولة عناية خاصة للمجالس العلمية ورابطة علماء المغرب، ودعمت ماليا ومعنويًّا إصلاحات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للحقل الديني. ونص الدستور المغربي في الفصل السادس من بابه الأول أن: "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شئونه الدينية". في حين يؤكد الفصل 19 -الذي يراهن الاتجاه العلماني على تعديله في كل محطة سياسية، أو نشوب معركة اجتماعية- أن "الملك أمير المؤمنين، والممثل الأسمى للأمة، ورمز وحدتها، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي الدين، والساهر على احترام الدستور"، مشددا على عدم دستورية مراجعة كل من النظام الملكي والدين الإسلامي بالقول: إن "النظام الملكي للدولة، وكذا النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي، لا يمكن أن تتناولهما المراجعة". وتمثل هذه الازدواجية قيدا في جوانب ونافذة التحرر منها، باسم التشريع للمستجدات المعاصرة في إطار "المصلحة المرسلة في تدبير قضايا الشأن العام". وهو الأمر الذي يحرص الإصلاح الديني الجديد على ترسيخه بتقنين التصور الديني رسميا، والتأكيد على أن هوية المغرب الدينية تقوم على ثلاثية: العقيدة الأشعرية في الاعتقاد، والمذهب المالكي في الفقه، والتصوف الجنيدي في السلوك. غير أن ازدواجية التقنين بالمغرب تجعل هذه الهوية بالمغرب -من ناحية التصور الرسمي- مرتبطة بما يضمن "الموازنة السياسية" في كثير من القضايا التي حسمها الإسلام بنصوص قطعية: مثل الخمور والزنا والربا والشذوذ؛ حيث ظهر الموقف الرسمي باهتا في منعها أو الترخيص لها؛ بحجة أن متعاطيها من الأجانب، وليس من المسلمين المغاربة. التناقض التصوري باسم الهوية على المستوى الشعبي، يفصح اختلاف الأحزاب والهيئات والجمعيات غير الحكومية حول الهوية عن تناقض صارخ بين مكونات المجتمع المغربي. وفي الوقت الذي تسلم فيه مكونات الحركات الإسلامية بأن الهوية بالمغرب "إسلامية"، يجد المتتبع أنها لدى الأمازيغ: "لغوية وعرقية"، ولدى المكونات اليسارية: "هوية اشتراكية"، ولدى القريبة من التصور الرسمي: "إسلامية وليبرالية"، تحترم مقتضيات المواثيق الدولية. هذه الفسيفساء في النظر لمسألة الهوية، كثيرا ما كانت مصدر توتر اجتماعي بالمغرب في العديد من القضايا الحساسة (قضية المرأة- الأمازيغية- التعليم- مرجعية الأحزاب السياسية...)، وهو ما يجعل النظام الرسمي يتدخل بين الحين والآخر للتوفيق بما يضمن التعايش والسلم الاجتماعي. ويزداد الشرخ اتساعا داخل التصور الواحد؛ فداخل التصور الإسلامي يمكن الوقوف على تصورات تقترب وتبتعد من تبني التصور اللائكي للهوية، مما جعل الحركات الإسلامية تعاني إشكاليات الحسم بين الديني والسياسي، وبين خطاب التدبير وعلاقته بخطاب الهوية في العمل السياسي. وإذا كانت مكونات هذا الجانب ترى في الإسلام مرجعا أساسيا لهويتها، وملهما لفعلها الاجتماعي، فهي لم تقم بأي خطوات لتمحيص هذا الاختيار فكريا، إلا ما كان من مبادرات يقوم بها الآن مثقفو العدالة والتنمية، والتي يمكن تفسيرها: أنها جاءت تحت ضغط الزمن السياسي، وإيجاد توليفة تضمن الخط السياسي (مقالة العثماني في الركن الدعوي للموقع). وفي جانب قريب من هذا التصور، يمكن تلمس مقاربة العدل والإحسان من خلال كتابات مرشد الجماعة عبد السلام ياسين، خاصة عند مناقشته للهوية بين بعدها العرقي واللغوي والديني في كتابه "حوار مع صديق أمازيغي". فبعد تعريفه للهوية أنها: سؤال "من هو؟" وضرورة التفريق بين الانتماء إلى "لا إله إلا الله"، وبين التعصب للغة الأمازيغية، يخلص إلى التأكيد أن "الانتساب الطيني السُّلالي لا يتعاظم في أعيننا فيَعترِضَ أفقَ انتمائنا الإسلامي". وفي الفصل المتعلق بالاقتصاد في كتابه "الإحسان" -وهي كتب منشورة في صفحته الخاصة على الإنترنت- يقر عبد السلام ياسين بوجود هويتين متناقضتين في بلاد المسلمين: هوية إسلامية شعبية؛ فيها من الغموض والجهل والخرافة. وهوية وطنية قومية عصرية، ولا بأس من تزويقها بالأصالة، وتمويهها بالتُّراث لصيانة ماء الوجه بين شعوب الأرض وأمجادها. والهويتان متناقضتان، وإن كان القوميون العصريون يزعمون أنهما متكاملتان، متعارضتان مَبْنًى ومَعْنًى، وواقعا ومصلحة، ولابد من كشف هذا التعارض وإزالته. ولذلك يرى ياسين أن "اكتساب الهوية الإحسانية الإيمانية الربانية هو الضمان الوحيد ليكون الله عز وجل معنا، ولتكون الدنيا وبروزُنا فيها وقوتنا وانتصارنا مدرجة لسعادة كل فرد منا في الآخرة". وفي المقابل فإن جمعية "نادي الفكر الإسلامي" -واستنادا إلى طبيعة عملها الفكري - ترى نفسها الأقرب لتمحيص الرؤية الإسلامية لمسألة الهوية على المستوى الفكري، وإن كان يعوزها آليات الجرأة الميدانية؛ حيث يؤكد الدكتور إدريس الكتاني أن انتصار الإسلام حقيقة تاريخية، وحتمية قرآنية، والتراجع عن الدفاع عنها يرتبط بتراجع المسلمين عنها، وإلا لحقهم العقاب الإلهي بتسليط بني إسرائيل عليهم. وعلى الجانب الأيسر كانت محاولة التوجهات اليسارية في الدفع بالعلمانية بديلا عن الدين، فكانت كل القضايا الاجتماعية الكبرى المكونة لفسيفساء الهوية بمثابة حرب استنزاف هوياتي، أفقدها الكثير من جماهيريتها، يقول محمد الكلاوي، أستاذ العلوم السياسية بالدار البيضاء: "الخطأ الذي وقع للأحزاب اليسارية ليس مرده إلى العلمانية، ولكن إلى فهمها للعلمانية؛ فالعلمانية من أصلها الأول لم تكن ضد الدين، بل هي تريد تحييد الدين عن السياسة، بخلاف الشيوعية التي تقصي الدين، والعلمانية تريد جعل الدين في موقع منفصل عن الدولة، وأظن أن الوعي بدأ يتطور بأن العلمانية هي أسلوب للتسيير وليست نقيضة للدين". وفعلا، فقد انطلقت الأحزاب اليسارية الاشتراكية في سيرورة مراجعتها للنظرة نحو الدين، وتقويم التعامل معه، إلى سلوك اتجاهين: نزوع براجماتي يخفف الخسائر الاجتماعية، والثاني محاولة لقطع الطريق عن مكونات التيار الإسلامي؛ لتوظيف مسألة الهوية ودفعه إلى السير قدما نحو نوع من "العلمانية الإسلامية". الهوية وإشكالية التنوع وعيا بالإشكاليات السالفة الذكر، يأتي رأي الأستاذ عبد الحي المؤدن، مدير مركز "تواصل الثقافات" أقرب إلى توضيح عمق إشكالية الهوية بالمغرب، بتأكيده أن الحديث عن هوية واحدة بالمغرب أصبح مسألة متجاوزة الآن؛ لأن الهوية هي في نهاية الأمر تصور أفراد عما هي الأسس الرئيسية التي يرتكز عليها الفرد في تحديد المجتمع، والنظرة للعالم، ولا يمكن أن نقول إن هناك إجماعا حول هذه المسألة من جهة. ولذلك يقول المؤدن: "فالتيارات الرئيسية الموجودة حاليا في المغرب، بين تيارات تعتبر الدين هو العنصر الرئيسي للهوية، أو اللغة هي الركيزة الأساسية للهوية، أو اعتبار الفرد أو منطقة جغرافية معينة، هذه كلها تفسيرات ونظرة إلى العالم يحملها مجموعة من الناس، وما دام لها أفراد يعتنقونها، فلا يمكن إنكارهم". (حوار سبق أن نشرته أسبوعية مدارك في فبراير الماضي، العدد14(. ويرى المؤدن أن الهوية أصبحت لها "ألسن مختلفة": فهناك لسان السياسي، ولسان المثقف، والممارسة اليومية، وهناك حسابات سياسية لهؤلاء الفرقاء، فهناك ما يسمون ب "المقاولين الهوياتيين"، الذين لديهم مهارات في توظيف الهوية، والرموز الهوياتية من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف سياسية خاصة بهم، أو بالمجموعات التي يعبرون عنها، وهذه قضايا عادية في هذا الجانب، ولا يمكن إلغاؤها؛ لأنها جزء من ممارسة السياسة والخطاب العمومي، لكن ما هو أساسي هو: كيف يمكن بحث النقاط التي يمكن أن يحل فيها اتفاق؟ وكيف يمكن الوصول إلى نتائج عملية؟ وكيف تتدرب هذه الهويات في القدرة على التفاوض والتنازل، وأن تحافظ على قدرتها في تعبئة قواعدها بأشكال مختلفة في إطار سليم اجتماعي وحرية؟ ومن أجل إيجاد هوية موحدة في إطار التعددية الهوياتية، يشير المؤدن إلى أن الخطاب الوطني يسعى لأن يعطي الأولوية لما يوحد المجتمع وليس ما يفرقه، وهو يعتبر تعدد الهوية خطرا على وحدة البلاد والسلم الاجتماعي؛ ولكنه ما دام أنه لم يتمكن من أن يقنع المجتمع بجميع شرائحه، فمعنى ذلك أن هناك مشكلة يواجهها هذا الخطاب الوطني. وتأسيسا على ما تمت الإشارة إليه، والذي اعتمد منحى تركيبيا لرؤى متداخلة ومتناقضة، تبقى محاولة إثارة "مسألة الهوية" نافذة على ورش فكري مفتوح، اطمأن البعض إلى كونه "مسلمة"، ويرى فيه الطرف أو الأطراف الأخرى محور وجود، وفعلا اجتماعيا وسياسيا. عن موقع إسلام أونلاين.نت