واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخطاب الثقافي العربي ومشروع المجتمع الديمقراطي

إن موضوع الخطاب الثقافي ومشروع المجتمع الديمقراطي يلج بنا إلى صلب أسئلة الراهن الثقافي ، باعتبار هذا الراهن محكوم بالانشغال بقضايا الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن تم فالاهتمام بهذا الموضوع يدل على أن المجتمع الديمقراطي كمشروع ما يزال يفرض أسئلته المتعلقة بعوائقه ومتبطاته. وبالنسبة إلينا سنبدأ مقاربتنا لهذا الموضوع انطلاقا من العنوان:
2- إن الانخراط في إنتاج مثل هذا الخطاب يجعل المثقف الذي ينتجه ينخرط في أسئلة السياسة، ولكن من موقعه كمثقف،و بالتالي فوجود مثل هذا الخطاب يضعنا أمام إشكال العلاقة بين الثقافة والسياسة من حيث أنها علاقة بين نمطين من ممارسة الوجود الاجتماعي يتقاطعان بقدر ما يتمايزان عن بعضهما من حيث أشكال التجلي و البروز.
3- إن افتراض علاقة ايجابية بين الخطاب الثقافي و مشروع المجتمع الديمقراطي يستضمر وظيفة معينة للثقافة تتأسس على مناهضة أنماط معينة من الوجود السياسي الذي تنتفي فيه مقومات المجتمع
الديمقراطي .هذه الوظيفة إذن هي بالضرورة وظيفة صراعية،لأنها تجعل ذلك الخطاب في صراع
مع أنماط من الخطابات الأخرى التي تختلف عنه من حيث الأهداف و الغايات .
4- ارتباطا مع الوظيفة السابقة و امتدادا لها ،يتميز ذلك الخطاب بخاصية النقد و الانتقاد لأن وطيفة الصراع التي يؤديها لا بد أن تتضمن نقدا وانتقادا للوضع السائد، ولأن ذلك النقد والانتقاد ،هو من تجليات وظيفة الصراع التي ينخرط فيها ضد ما هو سائد ومهيمن .
5- إن ميزات ذلك الخطاب تؤدي به أحيانا وفي سياقات معينة إلى التصادم مع نقائضه من أنماط
ثقافية وفكرية و اجتماعية ،مما ينتج عنه انه يؤدي بتلك الأنماط إلى أن تعيش حالة الصدمة من جراء
وقعه عليها،فتكون ردود فعلها عنيفة ومتشنجة ضده ،فهو إذن خطاب الصدمة والتصادم مع السائد.
6- إن التواصل مع ذلك الخطاب يتطلب حدا من الثقافة والوعي لايتوفران عند السواد الأعظم من
الناس ،خاصة في المجتمعات التي ما تزال تشق طريقها إلى التقدم و التطور ،لذلك يكون هذا الخطاب
في هذه المجتمعات خطابا نخبويا قد ينحصر إذا لم تتوفر له شروط الانتشار .
7- على إن هذا الخطاب الذي ساهم تاريخيا في بلورة مشروع المجتمع الديمقراطي ينتمي في الغالب
إلى مجال الفكر و الفلسفة .هذا لا يعني أن الخطابات الأخرى لم تكن لها إسهامات في بلورة ذلك
المشروع ،غير آن إسهاماتها لم تكن مباشرة نظرا لخصائصها كخطابات تنتمي إلى جنس الشعر أو الرواية، لكن هذا لاينفي مع ذلك أهمية مساهمتها في ذلك المشروع خاصة من زاوية ملامستها لمواضيع القهر الاجتماعي والسياسي، والتنديد بها بلغتها الخاصة،هذا فضلا عن أن جنس الرواية ارتبط ظهوره بالطبقة البورجوازية التي شكلت الدعامة الاجتماعية لمشروع المجتمع الديمقراطي.
إن العلاقة الايجابية بين الخطاب الثقافي ومشروع المجتمع الديمقراطي، تجعل ذلك الخطاب يقوم بوظائف محددة يمكن إجمالها في ما يلي:
1- إنه خطاب يدعو إلى المجمتمع الديمقراطي ويبشر به
2- إنه خطاب ينظر لذلك المجتمع.
غير أن مستويات الدعوة والتبشير والتنظير، تتخد أشكالا وتجليات مختلفة باختلاف تصورات المنظرين لذلك المجتمع، وباختلاف المداخل التي يعتمدونها كمنطلق للوصول إليه، ولذلك فالخطاب الثقافي الذي يؤسس علاقة إيجابية بذلك المجتمع لابد أن يكون منطلقه إحدى المداخل المؤدية إلى تبلوره، وهي مداخل مستنبطة من صفات وخصائص المجتمع الديمقراطي الذي غدا تحققه التاريخي والواقعي هو المنطلق لتحديد تلك الصفات والخصائص. ولعل كل ذلك يقتضي منا أن نحدد هذه الخصائص والصفات، لأن تحديدها يساعد على تبين تجليات الخطاب الثقافي الذي يؤسس تلك العلاقة الايجابية مع المجتمع الديمقراطي. والخصائص التي تهمنا لا تتجه إلى الجانب المؤسساتي وإنما تهم ما هو فكري وثقافي، وهكذا يمكن الحديث عن ذلك المجتمع كما يلي:
· إن المجتمع الديمقراطي مجتمع حداثي : بمعنى أنه مجتمع حصل فيه التراكم الضروري من التطور الذي أدى إلى القطيعة النهائية مع أنماط المجتمعات ما قبل الحداثية، القبلية منها والطائفية والعشائرية وكل أنماط المجتمعات القروسطوية. إنه مجتمع يتأسس على الاعتبار الذي يعطيه للفرد باعتباره قيمة في حد ذاته، ومن ثم فالعلاقة السياسية فيه بين الحاكم والمحكوم لا تتأسس سوى على مشروعية واحدة، هي المشروعية الديمقراطية التي من خلالها يعبر الفرد عن كينونته.
· المجتمع الديمقراطي مجتمع عقلاني : بمعنى أن المنظور السائد فيه للعالم هو منظور عقلاني يتأسس على الثقة في قدرات الإنسان على إحراز مزيد من التقدم والتطور اعتمادا على تلك القدرات دون غيرها من قوى غيبية أو مفارقة. وتلك القدرات هي التي بواسطتها يتم اكتشاف قوانين الظواهر الطبيعية التي تصبح مفهومة وتتجرد من ألغازها. ولأن العقلانية هي ميزته، فإنه يتميز كمجتمع بالسعي إلى عقلنة جميع مرافق الحياة بما فيها علاقاته السياسية.
· المجتمع الديمقراطي مجتمع علماني : يقوم على الفصل بين مجال الدين ومجال السياسة، فتستقل السياسة بنفسها كآاليات ومؤسسات وطريقة تدبير، وينزوي الدين من المجال العام إلى المجال الخاص، فيصبح شأنا شخصيا لا شأن للدولة به، لأنها كدولة علمانية تلتزم موقف الحياد بين الأديان، فينتج عن ذلك تمتع جميع أفراد المجتمع بحق أساسي هو الحق في حرية المعتقد. فعلمانية المجتمع إذن هي إحدى الشروط المؤسسة له كمجتمع ديمقراطي.
· المجتمع الديمقراطي مجتمع يقوم على نقد المقدس : لقد تأسس المجتمع الديمقراطي كمجتمع حداثي وعقلاني وعلماني، على نقد المقدس الديني بتسليط أضواء المعرفة عليه وتشريحه من خلال مناهج العلوم الإنسانية التي بواسطتها تمت دراسة هذا المقدس ومعرفة شروط تشكله وآليات اشتغاله، فتمت تعريته من قدسيته بالكشف عن حقيقته وحقيقة رموزه. وإن ما راكمه علم الأديان في هذا المجال لجدير بالاعتبار. وهكذا ارتبطت صيرورة الحداثة كنمط اجتماعي وسياسي بصيرورة نقد المقدس كمجال معرفي ونشاط فكري استهدف استئصال جذور الميتافزيقا الدينية من المجتمع.
· المجتمع الديمقراطي مجتمع يقوم على مركزية دور المثقف: أدت صيرورة تطور المجتمع الديمقراطي إلى بروز دور مميز للمثقف بظهور المجتمع الحديث. وما يتميز به هذا المثقف هو انخراطه في الشأن العام ودفاعه عن الديمقراطية والحريات العامة.
تلك إذن بعض خصائص ومواصفات المجتمع الديمقراطي، وهي خصائص ستمكننا من تبين مميزات الخطاب الثقافي الذي يؤسس علاقة ايجابية، وهكذا يمكن القول إن ذلك الخطاب، واعتبارا لما ذكرناه أعلاه، يتميز بانخراطه في الدعوة والتبشير والتنظير لكل أو لأحدى المواصفات التي يتميز بها المجتمع الديمقراطي، أي أنه خطاب يقوم بما يلي:
1 يدعو إلى الحداثة
2 يدعو إلى العقلانية
3 يدعو إلى العلمانية
4 يقوم بنقد المقدس
5 يحث على دور مركزي للمثقف في المجتمع.
على أنه ليس من الضروري أن ينخرط الخطاب الثقافي في التبشير بهذه القضايا كلها حتى يؤسس علاقة ايجابية بمشروع المجتمع الديمقراطي، فهذه العلاقة الايجابية تتأسس تلقائيا بمجرد الانخراط في الدعوة إلى إحدى القضايا السابقة، لأن كل قضية على حدة تشكل مدخلا لبلورة وتأسيس المجتمع الديمقراطي، وأهميتها تختلف باختلاف تقدير الأولويات من مفكر إلى آخر، إذ قد نجد مفكرا يعطي الأولوية للعقلانية، وآخر للعلمانية. المهم بالنسبة إلينا هو حضور هذه القضايا في الخطاب الثقافي، و لا يهم إن حضرت مجتمعة أو متفرقة.
الآن بعد تحليل العلاقة بين الخطاب الثقافي ومشروع المجتمع الديمقراطي بشكل عام ومجرد، ننتقل من العام إلى الخاص، أي من الخطاب الثقافي بشكل عام، إلى خطاب ثقافي محدد ومعين هو الخطاب الثقافي العربي، لنرى كيف أسس علاقته بمشروع المجتمع الديمقراطي، وكيف انشغل بقضايا هذا المجتمع، وكيف انخرط في الدفاع عن قيمه ومرتكزاته، وهل طرح الأسئلة الحقيقية التي تخص هذا المجتمع؟
لاشك أن هذه أسئلة كبرى لا ندعي أننا قادرون على تقديم أجوبة شافية بصددها، لأنها أسئلة من النوع الذي لا يمكن تقديم أجوبة نهائية عنها، بل إنها لا تحتمل تلك الأجوبة لأنها أسئلة ستظل تطرح مادام المجتمع الديمقراطي على المستوى العربي هو مجرد مشروع وليس واقعا منجزا. وإذن ماسنقوم به هو الوقوف عند بعض لحظات الخطاب الثقافي العربي لنرى كيف حضرت بعض قضايا المجتمع الديمقراطي فيه هذا الخطاب من خلال أطلالة سريعة على بعض الإنتاجات الفكرية في هذا المضمار.
· الخطاب الثقافي العربي وإشكالية الحداثة
انقسم الخطاب الثقافي العربي إزاء هذه الإشكالية إلى موقفين بارزين :
- موقف التواصل مع التراث : ويعد محمد عابد الجابري أحد أبرز المنظرين لهذا الموقف من خلال سلسلة كتبه بدءا من " نحن والتراث " و رباعية "نقد العقل العربي" و" التراث والحداثة" وغيرها من الكتب. إن الجابري يعتبر أن تحقيق الحداثة يقتضي إجراء تواصل نقدي مع التراث، لأن ذلك التواصل معه يمكننا من فهم ذواتنا ومن ثم تجاوز عوائقنا، إنه تواصل يهدف في النهاية إلى التجاوز، أي تحقيق الفصل مع ذلك التراث بعد تحقيق الوصل معه واستيعابه.
- موقف القطيعة مع التراث : ويعتبر عبد الله العروي هو الممثل الأبرز لهذا الموقف، فهو يعتبر أن تحقيق الحداثة في الوطن العربي، يعني الاندراج فيما هو كوني دون التقيد بخصوصية الهوية، وهو يرى أن الماركسية التاريخانية هي الأداة الاستراتجية التي تتيح استيعاب الحداثة، فالأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية حسب اعتقاده، إلى تلك الماركسية بالذات لتكون نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية، يتقوى الفكر العصري ويغدي نفسه بنفسه،. إن تلك الماركسية في نظره تعلمنا نسبية التأخر وتدفعنا إلى التطلع المتفائل نحو التقدم، وهي في الآن نفسه تتيح لنا ممارسة التأثير الايجابي في حاضرنا، وذلك عندما نقتنع بأن الماركسية هي العقلانية التامة، والدنيوية التامة، والتاريخانية كما يقول غرامشي. وإذا كانت الحداثة تقتضي مناهضة التراث والتقاليد، فإن الماركسية باعتبارها الحاضنة المركزية لمكاسب الحداثة، هي بالنسبة للمثقف غير الأوربي أدلوجة يرفض بها التقاليد دون أن يخضع لأروبا، ويرفض بها كذلك شكلا من أشكال المجتمع الأروبي المرتبط بالاستغلال والاستعمار دون الرجوع إلى التقاليد.
والعروي في هذا الموقف يتقاطع مع المفكر السوري عزيز العظمة الذي ينبه إلى أن الحداثي لايعادي الغرب بما هو غرب، ولكن يعادي قوى سياسية معينة بهذا الغرب تتحمل مسؤولية النهج الاستعماري والإمبريالي، أما الغرب كقيم ومبادئ وتنوير ورؤية للعالم، فلا مناص منه لتقدمنا وتطورنا الحضاري، وعليه فإنه يؤكد على " حتمية التغرب إن شئنا التقدم" . وعلى أي فالعروي وعزيز العظمة يشكلان نوعا من الامتداد المتميز لموقف طه حسين الذي عبر عنه في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر" بقوله " علينا اقتباس الحضارة الأروبية الحديثة خيرها وشرها...حلوها ومرها"
* الخطاب الثقافي العربي وإشكالية العقلانية
كامتداد للانقسام السابق إزاء إشكالية الحداثة، ينقسم الخطاب الثقافي العربي مرة أخرى إزاء إشكالية العقلانية من خلال المفكرين السابقين محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، فكل واحد منهما اهتم بهذه الإشكالية وخصها بتأليفه، الأول من خلال كتابه " العقل والعقلانية المعاصرة" ورباعية العقل العربي والثاني من خلال كتاب " مفهوم العقل " . وإذا كان الجابري وفيا لمنطلقه التوفيقي الذي يعتبر الوصل مع التراث في هذه القضية كفيل بأن يجيب عن الأسئلة المتعلقة بالعقلانية في واقعنا العربي المعاصر، وذلك من خلال النظر إلى عقلانية ابن رشد كنموذج للاستيعاب والاستلهام، فإن العروي في كتابه " مفهوم العقل " يؤكد على أن جميع النماذج التراثية متجاوزة لأن العقل في نظره هو ملخص منظومة نظرية مكتملة تحققت تاريخيا في المجتمع الحديث وليس في غيره أو ما قبله من المجتمعات. إن أي استنباط له من خارج هذا المجتمع سيجعله ناقصا بالضرروة، وعليه فلا جدوى من البحث عن مفهوم العقل عند المعتزلة أو الفلاسفة المسلمين أو عند ابن خلدون ومحمد عبده، لأن ذلك المفهوم ينبني على منطق القطيعة مع التراث الذي هو منطق الحداثة.
· الخطاب الثقافي العربي وإشكالية العلمانية :
لعل اللحظة البارزة لظهور العلمانية كآلية للفصل بين الدين والدولة هي كتاب علي عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم". صحيح أن العلمانية لم تحضر في هذا الكتاب كمصطلح، ولكنها حضرت كرؤية تاوية بين فصوله وفقراته. وتعود أهمية " الإسلام وأصول الحكم " إلى كونه أول كتاب يفصل بين الإسلام كدين وبين الخلافة كنظام حكم، لقد اعتبر علي عبد الرازق أن الرسول لم يكن رجل دولة، بل رجل دعوة ، ولم يكن قائدا سياسيا بل قائدا دينيا، لذلك لم يسع إلى تأسيس دولة ولا إلى ترسيخ نمط معين من الحكم، وعليه فنظام الخلافة الاستبدادي لا يمت بصلة إلى الإسلام، إنه نظام نشأ وترسخ بفعل عوامل تاريخية محددة. ومعلوم أن هذا الكتاب أثار في حينه ضجة كبرى في مصر أدت إلى منعه وطرد صاحبه من وظيفته وتجريده من لقبه العلمي. إن علي عبد الرازق يشكل اللحظة الأولى لاضطهاد العلمانية كخطاب ثقافي يرنو إلى مجتمع ينتفي فيه الاستبداد والقهر.
وكان طبيعيا أن يتطور البحث في قضية العلمانية مع الباحثين اللاحقين، فيحضر كمصطلح ورؤية في مشروع حسن حنفي وكتابات فؤاد زكريا الذي نشر دراسة في الموضوع تحت عنوان " العلمانية ضرورة حضارية" معتبرا أنه يستحيل على العرب إحراز التقدم دون العلمانية. وكذلك فعل المفكر السوري عزيز العظمة الذي ألف كتاب" العلمانية من منظور مختلف ". ولعل أهم كتاب ألف في الموضوع في التسعينيات من القرن الماضي هو " الأسس الفلسفية للعلمانية " للباحث السوري عادل ضاهر، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه سعى إلى مقاربة موضوع العلمانية من زاوية فلسفية، متجاوزا المقاربات السابقة التي كانت ترمي إلى تأصيل العلمانية من داخل النص الديني القرآني. لقد اعتبر عادل ضاهر العلمانية موقفا ابستمولجيا يقوم على اعتبار العقل هو مصدر المعرفة، وتبعا لذلك، فإن أي مصدر آخر مفارق للطبيعة وللعقل لا يعتد به بمقاييس العلم الحديث.
على أنه لايمكن أن ننسى لحظة مأساوية من لحظات العلمانية، إنها لحظة المفكر فرج فودة الذي سقط شهيدا من أجل هذه القضية، قضية العلمانية، ولا نحتاج إلى التذكير بمساهماته في هذا المجال، فهي معروفة ومتداولة.
وعلى سبيل الاستطراد، فإن الخطاب الثقافي العربي في بعده المغربي، ظل إلى حدود السنوات القريبة غير منخرط في الدعوة إلى العلمانية، بل أكثر من ذلك، نجد من يدعو إلى العقلانية والحداثة مع التحفظ إزاء العلمانية بحجة أن التجربة الإسلامية تختلف عن التجربة المسيحية، غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام بهذه القضية يعرف طريقه إلى الخطاب الثقافي، وهكذا وجدنا الباحث عبده الفيلالي الانصاري يترجم كتاب " الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق إلى الفرنسية من أجل إعطاء الآخر صورة مشرقة عن الفكر الإسلامي. كما ألف الباحث نفسه كتابا بالفرنسية في نفس الموضوع تحت عنوان " هل الإسلام مناهض للعلمانية؟ " وألف محمد المباركي كتاب " الإسلام والعلمانية وجهة نظر يسارية ".
ويشكل الباحث والكاتب كمال عبد اللطيف لحظة متميزة في هذا المجال، فهو من خلال جميع أبحاثه ينخرط في دعوة صريحة إلى الحداثة السياسية، دون أي تحفظ إزاء خلفياتها ومقدماتها الفكرية، وهو ما جعله يبدي دوما احتراسه من توفيقية محمد عابد الجابري، خاصة إزاء قضايا لا تحتمل هذه التوفيقية، مثل مسألة المرجعية في مفهوم وعبارة " حقوق الإنسان " التي إما أن نقبل مرجعيتها العلمانية الكونية، أو نجد أنفسنا نمارس في حقها تعسفا يؤدي إلى الارتداد عنها بدعوى أن الشريعة يمكن أن تسعفنا هي الأخرى كإحدى المرجعيات الممكنة لمفهوم حقوق الإنسان، ولقد توج الكاتب مساره في الدعوة إلى الحداثة السياسية والفكرية بإصدار كتابه الهام في هذا المجال تحت عنوان " التفكير في العلمانية" علما بأنه سبق وأن نشر مقالا متميزا بعنوان " العلمانية حتمية حضارية".
· الخطاب الثقافي العربي ونقد المقدس
إن لحظات تصادم الخطاب الثقافي مع المقدس قليلة بالنظر إلى الهيمنة القوية لهذا المقدس في المجتمع، وبالنظر إلى استناده إلى قوى سياسية مسيطرة لا تسمح بخرقه، لأنه يشكل مرتكزها الإديولوجي، ويكرس سيطرتها ويبررها. فوضعية المقدس في المجتمع العربي هي تعبير عن ميزان قوى يعرقل طموحات التغيير والتطور. ومع ذلك فتلك اللحظات شكلت في كل مرة رجة اهتز لها المحافظون والمستفيدون من الأوضاع القائمة. ويمكن باختصار الوقوف عند بعضها كما يلي :
- طه حسين و " الشعر الجاهلي" : اعتمادا على المنهج الديكارتي، راح طه حسين يبحث في العلاقة بين الشعر المسمى جاهليا والفترة " الجاهلية" ، وخلص إلى أن هذا الشعر لا ينتمي إلى هذه الفترة، وإنما إلى الفترة الإسلامية. وتكمن خطورة هذا الاستنتاج في أنه يضع موضع شك وتساؤل مرحلة ثقافية بكاملها، هي مرحلة التدوين التي تدخلت الصراعات السياسية للتأثير فيها وجعلها مرحلة صراع على قراءة الماضي وتأويله، بما في ذلك مرحلة الدعوة المحمدية، التي أصبحت كل فرقة سياسية تقرأها حسب توجهها، ومن ثم فالحقيقة التي نعرفها نحن اليوم عن تلك الفترة ليست إلا " الحقيقة " التي رسمتها لنا الفرقة المنتصرة. على أن جرأة طه حسين في نقد المقدس تجلت عندما اعتبر أن حديث القرآن عن إبراهيم وإسماعيل لايكفي كدليل لإثبات وجودهما، لأن إثبات هذا الوجود يحتاج إلى بحث علمي تاريخي معمق، وهذا يعني في نهاية المطاف أن الحقيقة " الدينية" ليست بالضرورة حقيقة علمية، فالثانية يمكن أن تحض الأولى وتبرز لا واقعيتها وأسطوريتها.
- علي عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " : يكمن نقد المقدس في هذا الكتاب في اعتباره الفتوحات الإسلامية مجرد توسع واستعمار عربي لشعوب وأقطار أخرى. لقد أزال طابع القدسية عن فعل تاريخي اعتبر جهادا وتفانيا في خدمة الدين بأن أبرز دوافعه الحقيقية، كما يتجلى هذا النقد واضحا عندما نظر إلى حروب الردة بقيادة أبي بكر على أنها حروب سياسية استهدفت إخضاع القبائل التي رفضت سلطته، فكانت بذلك تؤرخ لبداية استثمار الدين في السياسة. إن مثل هذه الرؤية لتلك الحرب، تجعل الخليفة الثاني يتجرد من قدسيته التي له في الأذهان، ليتجلى كرجل سياسة يسعى إلى الحفاظ على سلطته وتوسيعها.
- صادق جلال العظم و " نقد الفكر الديني" : لقد اختار الكاتب من الوهلة الأولى لغة المواجهة مع الفكر الديني من خلال العنوان السابق، والكتاب عبارة عن مجموعة من الدراسات التي تتناول بالنقد والتحليل مجموعة من القضايا والظواهر المرتبطة بالفكر الديني السائد، ولعل أهم دراسة فيه هي المتعلقة بشخصية إبليس، حيث يقدمها الكاتب بصورة مغايرة لما هو معروف عنها وتكرس بصددها في الثقافة السائدة. إنه يقدمها على أنها ضحية تشبتها بوحدانية الله، حيث رفضت السجود لغيره حتى ولو أمر هو بذلك ، كما وقع عندما أمره بالسجود لآدم. وهنا يصبح الله هو خارق وحدانيته وليس إبليس الذي حرم نفسه من الجنة في سبيل تلك الوحدانية، وتحمل الغضب لأبدي للإله عليه. لقد كان صادق جلال العظم بفضل هذا الكتاب ولا يزال ظاهرة تنويرية بامتياز.
- فرج فودة، " قبل السقوط " و " الحقيقة الغائبة" : اتجه المؤلف في بعض فصول هذين الكتابين إلى دراسة واقعة الفتنة الكبرى، ووقف عند شخصيات من الصحابة وأبرز تورطها في الصراع على السلطة، رغم معايشتها للرسول . وتناول بالخصوص شخصية عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، وأبرز تورطه هو الآخر في إغراءات السلطة وممارسة الفساد بالمعنى السياسي للكلمة، أي تكريس المحسوبية والزبونية في العلاقات السياسية، وهو الأمر الذي أدى إلى الثورة عليه وقتله بطريقة تراجيدية، ودفنه في مقبرة اليهود. إن فرج فودة ينبهنا إلى ضرورة الاستفادة من درس الفتنة الكبرى، الدرس الذي يقول إن تسييس الدين أو تديين السياسة لن يؤدي إلا إلى برك من الدماء.
- نصر أبو زيد و "مفهوم النص" : تكمن جرأة هذا الكتاب في تأكيده على ضرورة تحليل النص القرآني تحليلا لغويا كأي نص أدبي، واعتبار مبدأ الواقع عندما نريد فهم هذا النص. فالواقع هو الذي يفسر لنا آليات توالد النص، بل أكثر من ذلك، فالإسم الآخر للنص، أي الوحي، لا يمكن تفسير قبوله من طرف العرب كفكرة على الأقل، إلا بالرجوع إلى الواقع الذي يؤكد أن " الوحي " كان مفهوما ثقافيا سائدا قبل ظهور الإسلام، وإلا فإنه يستحيل علينا أن نفهم كيف تقبل العرب ذلك المفهوم،إنهم كانوا يعتقدون بوجود شيطان الشعرالذي يوحي للشعراء بقصائدهم، لذلك سهل عليهم تقبل فكرة الوحي. وأشار الكتاب إلى علاقة الرسول بالحنفيين، وإلى ممارسته التجارة واندماجه في العلاقات الاجتماعية وكسبه ثقة المجتمع، ومن ثم كان لقبه الأمين. وهذا عكس ما توحي به دراسات الاتجاه الديني المتطرف التي تصوره كمنعزل عن المجتمع. وقد خلص نصر أبو زيد إلى اعتبار النص القرآني منتوجا ثقافيا لمجتمع الجزيرة العربية في تلك الفترة.
وتبقى إسهامات كل من خليل عبد الكريم وسيد القمني جديرة بالاعتبار، فهي تشكل إلى جانب إسهامات نصر أبو زيد مدرسة عربية ذات ملامح مصرية في نقد المقدس وخلخلة أسسه الميتافزيقية والأنتروبولوجية.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع لحظات نقد المقدس التي أشرنا إلى بعضها تعرضت إلى الاضطهاد بل إلى التصفية الجسدية كما حدث للشهيد فرج فودة.
-الخطاب الثقافي العربي ومفهوم المثقف : هنا أيضا يمكم أن نتحدث عن موقفين بخصوص هذه القضية، موقف يرى أن مفهوم المثقف يمكن أن نجد له ما يقابله في تراثنا، وهذا ما بلوره الجابري أيضا في كتابه عن المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية، حيث اعتبر أن الفقهاء يمكن اعتبارهم مثقفين، فضلا عن شخصيات فكرية تجسد نموذج المثقف مثل ابن حنبل وابن رشد. وفي مقابل ذلك، هناك الموقف الذي بلوره علي أومليل في كتابه " السلطة الثقافية والسلطة السياسية". إن المثقف في الثقافة العربية الكلاسيكية، لم يكن في نظر علي أومليل إلا خادما للسلطان ومكرسا للاستبداد، لم تكن له أية استقلالية اتجاه السلطان، وهذا يشمل جميع أنواع المثقفين من فقهاء وكتاب وشعراء وفلاسفة بدون استثناء. هذا يعني أن ذلك المثقف لم يكن له أي دور نقدي في المجتمع . والخلاصة هي أن الثقافة العربية الكلاسيكية لا تسعفنا في بحثنا عن مفهوم المثقف كما تبلور حديثا في عصر الأنوار والثورة الفرنسية، إذ أصبح مفهومه منذ تلك الحقبة مقترنا بالاهتمام بالشأن العام وحمل لواء الدعوة إلى الحداثة، وهذه الأخيرة كمنظومة فكرية، لم تكن من المفكر فيه في تلك الحقبة العربية الكلاسيكية.
تلك إذن بعض قضايا مشروع المجتمع الديمقراطي، كما تبلورت في الخطاب الثقافي العربي على امتداد حقبة زمنية معينة. وإذ ندرك أن ما قمنا به لا يعدو أن يكون إلا مدخلا ممكنا من المداخل المتعددة لمقاربة العلاقة بين ذلك الخطاب ومشروع المجتمع الديمقراطي، فإننا على وعي بأن هناك لحظات متميزة في هذا الخطاب تمثلها كتابات العفيف الأخضر وعبد المجيد الشرفي ومحمد أركون وآخرين تحتاج إلى مجال أوسع من حيز هذا المقال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.