لقد أكدت جل الدراسات والتحليلات هيمنة البعد الاقتصادي في إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي في شموليته. وشكل السوق النواة الصلبة في هذه الإيديولوجية واعتبرته مفهوما طبيعيا قادرا من تلقاء نفسه «ضبط الحياة الاجتماعية المعاصرة وإعادة إنتاجها». وعلى مستوى الفكر الاجتماعي، دعمت الرأسمالية فكرة الحداثة كتصور فلسفي يهدف إلى التخلي عن فلسفات العوالم القديمة ذات الطابع الميتافيزيقي. وموازاة مع التطور الرأسمالي، عرف الفكر الاشتراكي بدوره تطورا استمد مقوماته من الفكر الماركسي حيث عرف هذا الأخير قراءات متعددة توجت بتأسيس تنظيمات اشتراكية عبر العالم منها الاشتراكية الديمقراطية (في الأقطار الأوربية)، والاشتراكية الماوية (في الصين) والاشتراكية اللينينية السوفيتية،... وتقييما لتعدد التجارب في إطار تطور الفكر الاشتراكي، ميز د. محمد عابد الجابري (جريدة الإتحاد الاشتراكي ليوم 26 مارس 2009) نمطين مختلفين. ويتعلق النمط الأول بالتنظيمات الاشتراكية الأوربية والتي وصفها بالانسجام مع مقدمات الماركسية الأصلية حيث اعتمدت على مراقبة اتجاه التطور بالنضال من أجل اشتراكية ديمقراطية ضاغطة. إنها اشتراكية تعترف بالاختلاف والحرية السياسية ولا تلغي الآخر وتطرح مسألة الحداثة من منظور مختلف. وبفضل هذه الخاصيات تمكنت من تحقيق مكاسب كبيرة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما النمط الثاني، فجاء نتيجة لقراءة خاصة لهذا الفكر من طرف لينين (الشيوعية السوفيتية). ونظرا للاختلاف الكبير بين النمطين، عاش العالم ما يسمى بالحرب الباردة والتي عرفت صراعا إيديولوجيا بين النمط الأوربي بتنظيماته الرأسمالية والاشتراكية الديمقراطية، واللذان يتنافسان على الحكم من خلال آلية التناوب، والنمط السوفيتي اللينيني. ونتيجة لتطور الأحداث السياسية، حسم هذا الصراع لصالح النمط الأوروبي الذي فرض الديمقراطية وحقوق الإنسان ومسألة الحداثة كقاسم مشترك بين الرأسمالية والاشتراكية الديمقراطية لكن بمنظورين مختلفين. فمفهوم الحداثة في المنظور النيوليبرالي، والذي ركز على محو الثقافات والخاصيات المجتمعية للأمم عبر العالم وتذويبها في ثقافة شمولية لا تعترف إلا بخاصيات الإنسان العالمي الليبرالي، خلق توترات خطيرة في مختلف بقاع العالم، وتمخض عنه أزمات اقتصادية ومالية خانقة وصراعات سياسية دائمة برهنت عن عجز رواد هذا الفكر على تحقيق الأهداف المرجوة بالرغم من استعمال كل الوسائل المؤسساتية والإعلامية، وأكدت بالتالي كون مسألة تعدد الثقافات واقع راسخ في حياة الأمم والمجتمعات ولا يمكن تطوير الحداثة في القرن الواحد والعشرين إلا من خلال استحضار هذا المعطى. وعليه، تحتاج الإنسانية إلى فلسفة جديدة توازي وتوازن بين الحرية الفردية والجماعية بشكل تمكن الروح الجماعية من الإسهام بنجاعة في الفعل التنموي بصفة مستديمة. إنها الحاجة إلى تثبيت ممارسات الفكر العقلاني من أجل الإنعتاق من الحدود الوهمية المفروضة على الإنسان والتي تحد من إمكانياته الفكرية وقدراته الذاتية والمجتمعية. إنها فلسفة الاشتراكية الديمقراطية التي تربط تطوير الحداثة بتمكين الإنسان من إدراك أنه هو صانع تاريخه، وأن العمل في هذا السياق واجب من أجل تعميم الوعي بالتقدم والرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر. إن تحدي تطوير الحداثة يبقى مرهونا بمدى توثيق الصلة بين مفهوم التقدم والمشروع التحرري من المكبلات الميتافيزيقية غير المبررة في إطار منظور إنساني متضامن عالميا يكون فيه العقل مرادفا للتحرر والتقدم. وأعتقد عندما نتكلم على تجاوز الاستلاب الميتافيزيقي لا نعني به إلغاءه. وهنا نساند الدكتور سمير أمين في اعتباره للاعتقاد الميتافيزيقي والعقائدي مسألة شخصية تستمد شرعيتها من كون البعد الانتروبولوجي للإنسان يتعدى التاريخي ويجعله «حيوانا ميتافيزيقا». ويضيف الكاتب كون مقولة تجاوز هيمنة الميتافيزيقيا تعني تأكيد الفصل بين الطبيعة والمجتمع، وبالتالي رفض إدماج المجالات المحكومة من خلال قوانين الطبيعة (والتي على العلوم الطبيعية أن تكتشفها) والمجال الذي تحكمه «قوانين المجتمع». إن العزم لخلق هذه القطيعة يعتبر تعبيرا سياسيا واضح المعالم للإرادة الحقيقية لتثبيت الحداثة وتطويرها عالميا من خلال التفاعلات الاجتماعية الرامية إلى الإجابة على التحديات التي تواجهها المجتمعات. وعليه، واعتبارا لما أصاب المنظومة الرأسمالية من أزمات متتالية، أصبح مبدأ «الاستقلالية الذاتية» للمجال الاقتصادي في هذه المنظومة مشكوك في أمره. لقد تأكد أن فرض قوانين المنطق الاقتصادي النيوليبرالي كما تفرض القوانين في مجال الطبيعة لم يحقق الأهداف المرسومة سلفا لهذا التطابق. إن التمادي في الدعوة إلى الإدغان لهذه «القوانين» والتي تدعي أن «قوانين السوق» لا مفر منها أفرزت اختلالات زعزعت وضع المنظومة بكاملها. إن ما أصاب العالم اليوم من خلال المبالغة في تكريس منطق هذه المنظومة، دفع بالعديد من المفكرين في مختلف المجالات إلى الاعتراف بكون تطوير الحداثة يبقى رهينا بتطوير الفكر الاجتماعي من خلال التحرر من إحكام هذه القوانين وإحلال سلطة المواطن محلها بصفته المشرع وصانع القرار ومن تم اعتبار الحداثة حركة دائمة وليست منظومة مغلقة ومحددة. كما أكدوا على ضرورة إعادة تركيب فكر عام متجانس ومتجدد يستفيد من دروس التاريخ ويعمل حسابا صحيحا لتقدم المعارف الفرعية فيدمجها في بنائه العام. وموازاة مع ضرورة إعادة التفكير في مستقبل الإنسانية، فتكرار حدوث الأزمات الكبرى لا يجب أن يكون ذريعة للميل إلى الردة نحو الماضي من باب تكريس خطاب كون التاريخ مفروض على الإنسان في واقع الأمر وأنه ناتج عن «قوى» خارجة عن إرادته أو كون توالي الأزمات ما هو إلا عقابا الاهيا لتصرفات العباد في الأرض. وأعتقد، أن كل من يتمادى ويحرص على تكريس هذه الخطابات يتناسى أو يتجاهل الرهانات المستقبلية والتي تستدعي التفكير العميق في اكتشاف وتحليل كل القوانين التي تفرض نفسها على التاريخ ومن تم بلورة أهداف طويلة الأمد تمكن البشرية بكليتها من ممارسة عقلانية كاملة في كل المراحل التاريخية المستقبلية تتفق مع مقتضيات منطق مشروع مجتمعي تتجلى من خلالها «ضروريات التاريخ». إن تحقيق سيادة ما بعد الحداثة يستدعي تجاوز مرحلة الإصلاحات الجزئية ومواجهة حركات الردة التي تدعو إلى العودة إلى ما قبل الحداثة وتعمل في مجال الواقع الاجتماعي لتكريس السلفيات الإثنية والدينية وغيرها بدون مبررات موضوعية وعقلانية. إن الإيمان بالتطور يعني الإسهام في صنع التاريخ وليس الخروج منه وعدم العدول عن تشخيص أسباب الهزيمة والهروب أمام التحديات الحقيقية التي تواجهها المجتمعات، وفي مواجهة كل ما شأنه أن يعرقل واجب الإبداع والابتكار. إن تطوير الحداثة تستدعي بالضرورة الاعتراف بمزايا العصور الحديثة بالرغم من نواقصها والانتكاسات التي أصابتها من حين لآخر. إنها عصور أعظم انجازات الإنسانية، إنجازات تم تحقيقها بمعدلات نمو غير مسبوقة في التاريخ السابق في كل المجالات (الإنتاج المادي، وتراكم المعرفة العلمية، وتقدم الديمقراطية وحقوق الإنسان). وبالموازاة، عبرت صفحات التاريخ عن أخطار الرجوع إلى الوراء من باب الانتهازية حيث لازمت كل ردة تاريخية جرائم اجتماعية فاجعة. وفي نفس الوقت، تعاني التطورات الراهنة للرأسمالية من الحدود الخاصة بهذه اللحظة والتي تمخض عنها العنف الذي يلازم انتكاساتها. وعليه، فقد بات من الضروري التفكير في المرحلة الراهنة في تجاوز حدود العلاقات الاجتماعية الخاصة بالرأسمالية، والتي كانت تعتقد إلى أمد قريب بتثبيت فكرها كفكر واحد (اعتقاد البعض بنهاية التاريخ) من خلال طرح خيار بناء واقع جديد تلعب فيه الاشتراكية الديمقراطية دورا تصحيحيا لأوهام الرأسماليين. إنها دعوة للتفكير في العقلانية وعلاقتها بالتحرر، وبالديمقراطية، وبدولة الحق والقانون، وبرفع مستوى التعليم، وبتحليل جوهر ركائز الرأسمالية مثل الملكية الخاصة، واستقلال المؤسسة الاقتصادية، ونظام العمل الأجير، وقوانين السوق، والمضاربات المالية، ودور الدولة،.... لقد آن الأوان لإعادة طرح التساؤل حول من هو فاعل التاريخ، ولإعادة قراءة التجارب الاشتراكية بمختلف مشاربها. ففشل التجربة السوفيتية لا تعني فشل المشروع الاشتراكي بشكل عام خصوصا أن هناك من اعتبرها مشروع رأسمالي ذا طابع من نوع خاص والذي أسماه الدكتور سمير أمين «رأسمالية دون رأسماليين». لا نحتاج في القرن الواحد والعشرين لاستغلال «سلطة الأخلاق» لإخفاء عيوب المجتمعات بل نحتاج إلى شفافيتها والحديث عن عيوبها ومن تم خلق التوازن بداخلها من خلال الاعتماد على منهج يرمي إلى كشف العلاقة القائمة بين تجليات الحداثة من جانب وطابع تحديات العالم الواقعي وانعكاساتها في الوعي الاجتماعي من جانب آخر بشكل نحد من التلاعب بمفهومي «الجمهرة» والديمقراطية. يحتاج العالم إلى مناخ انفتاح على الأفكار الجديدة والتسامح مع التعددية الفكرية والمذهبية والخوض في مجالات بحث جديدة بشكل يمكن من ابتكار نظريات متماسكة تربط الجزئيات مع بعضها والحيلولة دون تشتت الأطروحات وغياب الاهتمام بالتماسك العام، وخجل الفكر في مواجهة المؤسسات التي تحكم المجتمعات، واحتمال حدوث انزلا قات رجعية خطيرة. كما تعد الفرصة جد مناسبة لفتح النقاش بشأن تجاوز اقتصاد «التضبيط» والاعتماد على المناهج الحديثة الخاصة ب «تفكيك الخطاب» من أجل الحد من «تسلط المفاهيم» وتثبيت الثقة في الفكر النقدي وتشجيع اقتصاد الاختراع و»اقتصاد المنظمات» و»اقتصاد التعاقدات» كمجالات تكميلية للاقتصاد السياسي العام وعلم النفس الجماعي من أجل فهم المجتمعات الحديثة المبني على الجمهرة وسيادة الإعلام. كما بات من الضروري تجاوز النظرة الاقتصادية الخالصة لأن التاريخ أثبت أن الأسباب العديدة التي تعمل في المجالات المختلفة للحياة الاجتماعية تكمل بعضها البعض بحيث إن ما هو ضروري اقتصاديا هو أيضا ضروري سياسيا وثقافيا. وأمام هذه الإختلالات الخطيرة في المنظومة الليبرالية الجديدة، يبقى من واجب رواد الفكر الاشتراكي الديمقراطي العمل على طرح بدائل متماسكة وفعالة تضمن المصداقية الاجتماعية المطلوبة وتمكن من تطوير الحداثة على أسس جديدة تضمن الدعم الاجتماعي للتحديات المستقبلية الحقيقية. إن عدم التوافق بشأن التدابير الكفيلة لمواجهة الأزمة المالية العالمية الخانقة بين أمريكا (مقترحات اوباما) وأوربا يعبر عن تباين واضح في المنطق السياسي في القارتين. فالنموذج الأوربي، بتياراته السياسية المتوازنة والمتجسدة بالخصوص في الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، وصف اليوم، على لسان رئيس الإتحاد الأوروبي التشيكي «ميريك توبولانيك» في دورته الحالية، مقترحات أوباما للنهوض بالاقتصاد بأنها بمثابة «الطريق إلى الجحيم».