إن انطلاقة نشأة البرجوازية المغربية تبين جوانب هامة من سيرورة الثراء بالمغرب و التي ظل عمادها القرب من الحاكمين و أولي الأمر و الاستفادة من الامتيازات. و بالرجوع ألى الوراء يتبين أن النواة الأولى للبرجوازية التجارية بالمغرب بدأت تتأسس منذ نهاية القرن الخامس والعاشر الميلادي لا سيما بعد خروج المسلمين من الأندلس. إذ لجأت رؤوس أموال عربية ويهودية إلى المغرب هاربة من الصليبيين وحملتهم الهوجاء. واستقر الهاربون من الأندلس في المدن المغربية ( سلا، فاس، تطوان، الرباط...) وهؤلاء هم الذين نعتهم "جيروم" و"جون طارو" ببرجوازي الإسلام في مؤلفهما " فاس وبرجوازيو الإسلام" الصادر سنة1930، وقد عمل عبد الله الجراري على إحصاء جملة من العائلات الفارة من الأندلس وذلك في مؤلفه "أعلام الفكر المعاصر" ، كما أكد مصطفى بوشعراء في مؤلفه "الاستيطان والحماية بالمغرب" الصادر سنة 1984 أن جل العائلات النازحة شكلت مجموعة متميزة عن باقي الفئات علما أن أغلبها استقر بمدينة فاس آنذاك ،و مع مرور الوقت أضحت صفة الفاسي تكاد تكون مرادفا مباشرا للمخدر من أصل أندلسي، وبذلك نمت وتقوت الروح العصبية الفاسية التي ظلت قمينة ودفينة في النفوس على امتداد عقود من الزمن. وأغلب هؤلاء كانوا يقومون بالوساطة في تصدير المنتوجات المغربية، وبذلك استطاعوا التمكن من مراقبة النشاط التجاري والحرفي. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ربطوا علاقات تجارية مهمة مع أوربا وذلك بالتحكم في دواليب التصدير والاستيراد، واستقر بعضهم بالخارج، لا سيما في إنجلترا آنذاك حيث كان هناك مغاربة يديرون شركات، مغربية استقرت بمانشيستر منذ سنة 1892. "" كما أن جملة من الدراسات التاريخية أكدت أن مجموعة من التجار الفاسيين كانوا محميين سواء من طرف الفرنسيين أو الإنجليز أو الألمان. وقد ساعدتهم هذه الوضعية في المزيد من الثراء. وقد وردت جملة من أسماء هؤلاء في كتاب إدريس بنعلي الصادر تحت عنوان: "نموذج للتحول، فاس في القرن التاسع عشر" الصادر سنة1980 في المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد. كما كشف مؤرخ المملكة بن منصور في مؤلفيه " أعلام المغرب العربي"، أن معظم الأسر التي ظهر عليه الثراء قي مطلع القرن العشرين مثل التازي، الجاي، المنبهي إنما أثرت واستغنت مما سرقته من مال الشعب. ولما ضمن التجار الكبار حماية مصالحهم بواسطة الشراكة مع الأوربيين، لاسيما بخصومهم على الجنسية الأجنبية، ساعدوا المستعمر على تهييء احتلال البلاد. وفي ثلاثينات القرن الماضي ظهرت فئة برجوازية وطنية مكونة بالأساس من التجار الصغار والحرفيين قادها المتعلمون سياسيا وكان القادة السياسيين آنذاك اغلبهم من أصل أندلسي. ومن ضمن هؤلاء علال الفاسي وعبد السلام بنونة ومحمد اليزيدي وبلحسن الوزاني وأحمد بلفريج وعمر بن عبد الجليل وعبد الخالق الطريس والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وكل هؤلاء درسوا بالخارج. وقد خاضت البرجوازية الوطنية المكونة من صغار التجار والحرفيين نضالا ضد السيطرة الرأسمالية الاستعمارية وحلفائها المحليين. آنذاك كان الفرنسيون مسيطرون على جل المرافق الصناعية ففي سنة 1938 بلغ عدد التجار الفرنسيين المسجلين في السجل التجاري أكثر من 14740 في حين لم يكن عدد التجار المغاربة يتعدى3285 تاجرا وفي سنة كان عدد الشركات الفرنسية تقدر ب 12645 في حين لم تتعدى الشركات المغربية 1373 ومعظمها كان في ملكية اليهود. و بعد الاستقلال، و لاسيما تحولت ملكية الشركات و الأراضي إلى المقربين من البلاط عبر المغربة. و من الأمور التي عقدت ميلاد بورجوازية مستقلة استمرار تحكم المخزن في دواليب الاقتصاد. إذ مع حلول الاستقلال احتكر المخزن مختلف المبادرات السياسية و الاقتصادية و وزع حسب احتياجاته مجالات الأنشطة الاقتصادية بالبلاد و وهب أصول الثروات إلى فئات قليلة جدا و انفرد ببلورة و طرح الأهداف و تحديد وسائل و آليات تحقيقها. لقد كان هاجسه هو الضبط و استبعاد أي وضع يتعذر عليه ضبطه. و ذلك سعيا إلى التحكم في أي تغيير لاستبعاد – و لو بالقوة و القمع – كل ما من شأنه تهديد قوامه السياسي. إلا أنه مع فعل جملة من الظروف الضاغطة طرحت بعض الإصلاحات على الصعيد الاقتصادي و كانت رغم محدوديتها تنم عن بروز بوادر عقلية ليبرالية لا سيما في التسيير الحكومي المخزني, إلا أن بروز هذه البوادر الأولى سرعان ما فقدت مدلولها بفعل اقتصاد الريع و الاكراميات التي يمنحها المخزن عبر شبكة من الزبونية تخلق علاقات ولاء إلزامية أثثت لفرض الهيمنة. و قد تمكن المخزن من تقوية هذا النمط في التدبير لأنه عمل على المراقبة و التحكم عن قرب في العالم القروي بالمغرب كوسيلة ناجعة لضمان الاستمرارية السياسية للمجتمع المغربي. و من الأساليب المتبعة لتحقيق هذا المبتغى، اعتماد سياسة دعم و تدعيم فئة من الملاكين العقاريين الكبار لجعلهم كحصن حصين و عتيد لسياسة المخزن بالبادية. و قد استفاد هؤلاء من جملة من سياسات الدولة نذكر منها المغربة و السياسة السقوية و سياسة القروض و سياسة تقليص دورصندوق المقاصة سنة 1980 و سياسة إلغاء الضرائب أو الاعفاء منها. و كانت نتيجة هذا التوجه هو تمركز "الرأسمال الفلاحي" و توسيع نشاطاته الشيء الذي أدى إلى عدم بروز برجوازية رأسمالية مقاولتية مستقلة بالمغرب و هذا بدوره يفسر إلى حد كبير الضعف الذي ظل يعيشه القطاع الخاص المغربي. كما أن سياسة منح الامتيازات في عهد الراحل الحسن للغرباء عن مجال رجال الأعمال و المقاولة جعل فئة من العسكريين و الموظفين السامين و المحظوظين من المقربين للبلاط جعلهم يستحوذون على فضاءات واسعة من النسيج الاقتصادي دون توفرهم على العقلية المقاولاتية التي تطبع كل بورجوازيات العالم الشيء الذي شجع الأنشطة الطفلية و أضعف الأنشطة الإنتاجية التي تشكل القاعدة الصلبة لخلق و تراكم الثروات. و اعتبارا لطبيعة النظام الاقتصادي الذي ساد ببلادنا على امتداد عقود و طبيعة العلاقات السياسية و الاجتماعية التي طبعت المجتمع المغربي, فان النشاط الريوعي عرف انتشارا ساهم بشكل كبير في إثراء المقربين من البلاط و في خنق الاقتصاد الوطني ، كما ساهم في إهدار قدرات المجتمع على تجميع الشروط لتحقيق تراكم لتأسيس انطلاقة تنموية فعلية. و قد سادت هذه الوضعية أكثر من أربعة عقود. و ها نحن الآن نجني النتائج الوخيمة لهذا المسار, و رغم ذلك مازال النشاط الريوعي المغلف ضاربا أطنابه في المنظومة الاقتصادية و الاجتماعية و مازال يخنقها خنقا لدرجة الاغتيال أحيانا و لعل أكبر مثال قطاع الإشهار و مختلف المحمية باحتكارات الأمر الواقع. و النشاط الريوعي ببلادنا يشمل, إضافة إلى التصريف الاقتصادي لحق الملكية(وهو الريع بالمفهوم الاقتصادي) أشكال المداخيل الطفيلية المستحدثة غير الناجمة عن استثمار رأسمالي منتج أو عن عمل منتج, أو غير الربح الناجم عن استثمار حقيقي منتج أو عن أجر العمل المنتج كتلك الامتيازات المولدة لمداغيل مالية دون مجهود أو اسثتمار أو مخاطرة مقاولتية. علما أن القدرة على تحصيل المداخيل الطفيلية مرتبطة بالأساس ببلادنا بطبيعة النظام الاقتصادي و الاجتماعي و طبيعة العلاقات بين البلاط و الدولة و الأحزاب و الفعاليات السياسية و بطبيعة العلاقات بين الدولة كمؤسسة و القائمين على الأمور ببلادنا. و من بين أشكال مداخيل النشاط الريوعي التي خنقت و لازالت تخنق الاقتصاد الوطني عوائد الاحتكارات المفتعلة و عوائد القرار السياسي- المفضوحة منها و الملتوية- و عوائد القرار التنفيذي –رشوة و مصاريف تحفيزية و إعفاءات غير مبررة و غيرها-. و كل هذا أصبح له ببلادنا, ومنذ عقود, تصريف اقتصادي يقدر ماليا سواء في العلاقات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية، إذ أن المستفيدين من الامتيازات عليهم تمويل جملة من البرامج أو التظاهرات الرامية لاستمرار الحال على ما هو عليه أو لتقوية شرعية المنظومة الاجتماعية القائمة. إن انتشار الطابع الريوعي للدولة وللاقتصاد و المجتمع في جملة من القطاعات ساهم في ارتفاع نسبة هذا الشكل من المداخيل ضمن الدخل الإجمالي. و هذا ما انعكس سلبا و بشكل مباشر و سريع على قدرة المجتمع المغربي على النمو و التقدم. إضافة إلى أنه أضفى صفات سلبية على الحياة العامة و قوى بدرجة كبيرة عوامل الانحلال و التفسخ, كما ساهم في اغتيال الصفات الايجابية و قبر روح الخلق و المبادرة. ذلك بعد أن راكم العديد من المسؤولين، مدنيين وعسكريين، ثروات هائلة بفعل استشراء الفساد وتوزيع الامتيازات برا وبحرا واصبح بالمغرب سياسيون رجال اعمال يشكلون لوبيات اصبحت خطرا على صناعة القرار السياسي والاقتصادي و هكذا فان آليات التراكم الرأسمالي و معدله تلقى ضربات على امتداد عقود، الشيء الذي لم يمكن البلاد و العباد حتى من الاستفادة النسبية من ثمرات فترات الازدهار الاقتصادي التي عرفها المغرب. و هذا ما رفع أسوارا عالية بين أغلب المواطنين و بين المشاركة في الثروات الوطنية التي أصبحت حكرا على أقلية تعيش في جزر فردوسية في قاع محيط من الفقر و الحرمان. ولقد تصاعدت حصيلة النشاط الريوعي و حصيلة الفساد بشكل مخيف بفعل اتساع دوائره و إحكام قبضتها على البلاد و الاقتصاد و العباد, و هذا ما حرم و عرقل آليات التراكم الإنتاجي سواء على صعيد تراكم الرأسمال المنتج أو على صعيد التنمية البشرية, و ذلك لفائدة فئات طفيلية متسلطة على ميزانية الدولة و القطاع العام و القطاع الخاص و على المواطنين سواء كمنتجين أو كمستهلكين أو كمستثمرين أو كأصحاب قوة عمل. و هكذا تعاظمت التكاليف المباشرة و غير المباشرة للفساد و النشاط الريوعي. و يمكن تثمين هذه التكاليف الفادحة عبر الاهتمام بالفرص الضائعة و الانحلال و التفسخ و تهميش القانون و الدوس عليه و اغتيال الأخلاق المهنية, و تقييم انعكاساتها على الأجيال على امتداد أكثر من 4 عقود. و زاد من تعميق الأزمة ما قام به الإعلام المضلل و الأرقام و الإحصائيات المخدومة المعلن عنه لطمس الواقع الحقيقي, لاسيما الواقع الاجتماعي الذي سار نحو التقهقر عاما بعد عام إلى أن وصلت الحالة إلى ما هي عليه الآن من ازدراء. و في هذا الصدد لازال سؤال مركزي ينتظر الجواب الفصيح, رغم كل ما قيل, و هو التالي : ما هي طبيعة العلاقة بين تدني الأوضاع و الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية من جهة و بين السياسات المعتمدة من جهة أخرى؟ فمتى تحضر الجرأة و الشجاعة "التاريخية" للإجابة عليه بدون لف و لا دوران؟ و هذا سؤال مركزي آخر لعله يعتبر كمدخل لسلسلة من التساؤلات المركزية الأخرى المفروضة حاليا بإلحاح أكثر من أي وقت مضى. و الآن و بعد مرور أكثر من خمسة عقود على استقلال المغرب نجد أنفسنا في حيص بيص عندما نريد تحديد طبيعة الاقتصاد المغربي، فهو ليس يإقتصاد الدولة و لا بإقتصاد ليبرالي محض و لا بإقتصاد إجتماعي تتحكم الدولة في دواليبه الأساسية و لا باقتصاد السوق بالمفهوم الليبرالي ، و كذلك الأمر بخصوص طبيعة البورجوازية المغربية. و منذ سنوات كان المغاربة ينتظرون حدوث انفتاح على السوق و اعتماد الليبرالية كما تم الترويج لذلك كثيرا و بكثرة، إلا أن حكومة التناوب جاءت و روجت لفكرة إعادة النظر في تدخل الدولة و خلق اقتصاد اجتماعي. أما اليوم أضحينا نعاين و بقوة تواجد سلطة المخزن و بروزه كفاعل اقتصادي قوي عبر دور العائلة الملكية في التحكم في النسيج الاقتصادي الوطني ، لاسيما قطاعاته الأساسية . فالمخزن الجديد لم يعد إطار أمني و تسييري فقط، و لكن كإطار اقتصادي و هذا وضع قل نظيره في العالم و في الاقتصاديات المعاصرة. بالإطلاع على ما نشر بخصوص إشكالية "المخزن الاقتصادي"، تبرزفكرتان أساسيتان ظلتا حاضرتين بشكل بارز في مختلف تلك الكتابات. الفكرة الأولى مرتبطة بصلاحيات أعطيت لمؤسسات خارج الحكومة ومهام واسعة ووظائف اقتصادية (الصناديق الخاصة) وكذلك منح وزارة الداخلية وظائف اقتصادية، أي تمكين دوائر خاضعة للقصر من لعب أكبر الأدوار في صناعة القرار الاقتصادي بالبلاد. وتكمن قوة هذه الجهات في تحكمها في منح جملة من الامتيازات وتكريس تسهيلات مكتسبة بشكل غير شرعي في مختلف القطاعات والمجالات: رخص الصيد بأعالي البحار، استغلال المناجم، مقالع الرمال، النقل، منح الأراضي، الصفقات العمومية الكبرى، التعيينات السامية ولوائح الإعلان التجاري.... وكلها أمور ترسخ الزبونية والمحسوبية. أما الفكرة الثانية المعتمدة من طرف أغلب الدراسات لتفسير مفهوم المخزن الاقتصادي، هي تنامي مجموعة "أونا" واقترابها الشديد من القصر وعلاقتها الوطيدة بالملك وبالعائلة الملكية، الشيء الذي منحها شبه احتكار في جملة من المجالات. وبذلك يبدو أن مجمل الدراسات التي تطرقت لإشكالية المخزن الاقتصادي، تكاد تجمع على أن المقصود به هو الدور الاقتصادي للملكية وعدم خضوعها للقانون ولقواعد لعبة المنافسة وقواعد السوق، علما أن الخطاب الرسمي يدعي أن اقتصاد المغرب ليبرالي، في حين أن الواقع يفيد بوجود هيمنة شبه مطلقة على أغلب الأنشطة الاقتصادية بطريقة تضمن الأرباح وتسهل الاستحواذ على قيمة مضافة بدون أدنى مخاطر اعتبارا للطقوس المخزنية السائدة في هذا المجال. وفي هذا الصدد، يعتبر البعض مجموعة "أونا" آلية من آليات ترسيخ أسس الاقتصاد المخزني رغم تمظهراتها الحداثية والمتطورة وقد سبق لخالد الجامعي أن صرح قائلا: "الكل يجتهد اجتهادا للتقرب من الملك ومن القصر الملكي للتهرب من القانون وأداء الواجبات ومن المساءلة". وبذلك يعتبر أغلب المحللين الاقتصاديين بأن هذا الوضع يلجم تطور البلاد ويعيق سيرورة تنميتها بالشكل الذي يخدم الصالح العام وليس المصالح الضيقة.