يدور الحديث عن الطائفية والطوائف في أوساط الناس من ذوي الثقافة وغيرهم، وغالباً ما يتم التركيز على توصيف الظاهرة وعدم التعريف بها، وهذا نهج متأت عن جهل لجوهر ومضمون الظاهرة وجذورها التاريخية. هذا ما يحدث فعلاً وخصوصا في ظل هيمنة ثقافة التغالب والادعاء وحب التظاهر والارتقاء التي غالبا ما تكون سائدة خلال فترات التحولات الهامة إن لم نقل الكبرى والتي يصاحبها حالة فك عقدة اللسان للإنسان المقهور والمهمش من قبل الأنظمة السلطوية والأعراف الاجتماعية الاستبدادية، وإن كان هذا نابع عن جهل أو قلة معرفة فإن هناك من يسعى ويبذل جهداً فكرياً كبيراً من أجل أن يظل سر نشوء وترعرع الظاهرة الطائفية مستورا موارى خلف ستائر القدسية والأغطية الأيديولوجية التي تسعى لتأبيد حالة الجهل والعمى الفكري لجمهور مضلل معطل مكبل بقيود ايدولوجيا قوى ترى في الظاهرة الطائفية وتأييدها خدمة كبرى لدوام سيطرتها، سواء في سدة السلطة الحاكمة أو على وسادة ومنبر المجتمع عبر جمهور مقهور ومبهور ومضلل يقاد بسلاسل وهمية ترسم عليها رموز مقدسة، يوحى للمقاد من خلال استحضار أشباحها أنها تعطي دعمها وتدعم هؤلاء باعتبارهم وكلاء وأمناء ومستودع سر هذا المقدس. وهنا لابد من سؤال: هل الظاهرة الطائفية هي ظاهرة تخص الدين الإسلامي دون غيره؟ طبعاً إن الجواب سيكون بالنفي حتما حيث إن هذه الظاهرة موجودة في كافة الأديان سواء السماوية منها أو (الوضعية) كما هو حال التشظي والانشقاق في كافة الحركات والأحزاب السياسية العقائدية، وهذا هو حال المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها، وهذا مما يجب أن يوفر للعقل دليلاً قوياً كون هذه الظاهرة ليست وليدة عقل خارق مفارق أو نتاج مفكر متأمل، إنما هي حالة نابعة ومولدة من رحم حراك اجتماعي دائم التغير والتبدل والتجدد باعتباره صراع مصالح قوى وطبقات وفئات اجتماعية مختلفة ذات بنية تحتية معينة، وفي مستوى من التطور أو مستوى معين من الصيرورة تستدعي أن يكون لها غطاءا ايدولوجيا في البنية الفوقية يدعم وجودها ويؤمن لها الركائز الفكرية للديمومة والبقاء في حلبة الصراع الدائر بينها وبين نقيضها الطبقي. لكن الذي يهمنا هنا ضمن هذه الدراسة هي الظاهرة الطائفية كما تمظهرت في الطوائف الإسلامية وبالخصوص ما أطلق عليه (الطائفة السنية) و(الطائفة الشيعية) باعتبارهما محور الصراع الطائفي على امتداد التاريخ العربي الإسلامي ودوله المختلفة منذ عصر صدر الإسلام ولحين التاريخ. إن من يتفكر جذر نشوء الظاهرة الطائفية يستطيع أن يستنتج أنها ليست مشكلة إيديولوجية وإنما هي مشكلة سياسية في الأصل، أو تمظهرت وترعرعت في رحم الصراع بين طبقة التجار ومواليهم وبين جمهرة فقراء المسلمين، عرب وغير عرب، لتسلم منصب وصولجان السلطة والحكم، وقد تم تغطية وجه الصراع الحقيقي بين المصالح بغطاء من النصوص والطقوس وانتعش سوق رواة الآيات والحديث والذي يبدو انه واقع حال خالي الغرض لو تم تفكره أفقيا كصراع بين صحابة رسول الله(ص) بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية، ولكن لو يتم تفكره عمودياً لتوضحت معالمه الطبقية في ذلك العصر، فبعد أن تمكن- تجار قريش من إقصاء كل ما عداهم من المهاجرين والأنصار ممن بذلوا المال والدماء والتضحيات الجسام في نصرة وثبات الإسلام، استبعدوا من الخلافة نظراً لعدم وجود صلة قرابة دم تربطهم برسول الله(ص) كون الرسول من قريش، بمعنى إن حق القبيلة أولى بالخلافة حسب ما زعموا وكأنهم نسوا أو تناسوا حديث النبي (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى) فاختزلوا التقوى في صلة الرحم والدم، ولعل قصة مقتل سعد بن عبادة الأنصاري الذي دخل المنافسة مع أبي بكر لخلافة الرسول كممثل للأنصار من قبل الجن معروفة في هذا المجال فتم اغتياله والتخلص منه، انتقل الصراع بعد ذلك من قريش وغيرها من قبائل العرب إلى مَن مِن قريش هو الأحق بالخلافة؟؟ نرى أن قريشاً وتجارها تنكرت لمبادئها التي أقصت بموجبها بقية المسلمين من حق الخلافة ألا وهي علاقة قرابة الدم والذي يستوجب أن يكون الإمام علي(ع) أو فلنقل بني هاشم هم الأولى في الخلافة وفق مبدأ القرب من رسول الله(ص). وقد كان هذا الإقصاء مبنياً على أساس المصالح الطبقية، وقد أتى متخفياً ومستتراً خلف حزمة كبيرة من النصوص والروايات المتصارعة، واستطاع أن يكسب المعركة السياسية متخلياً عن قاعدة المبادئ التي تمسك بها الإمام علي وأنصاره ومشايعوه. فارتأت ارستقراطية قريش أن تختار أبو بكر الصديق(رض)، الصديق والنسيب للرسول ليكون مقبولا من قبلها لتسنم الخلافة، والغير مرفوض بقوة من قبل عامة المسلمين وفقرائهم رغم ميلهم للإمام علي وأنصاره كمالك الأشتر وأبي ذر الغفاري وسواهما، أي حصل ما يشبه الهدنة والتوافق الطبقي آنذاك وإن كان قلقا، وقد انعكس على خيار أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب الذي لقب بالفاروق حيث كان أكثر ميلاً للمبادئ الإسلامية وللفقراء والتمسك بالقيم التي جاء بها الإسلام وعدم المجاملة في قول الحق وتحققه، كما كان مجلسه مفتوحا أمام الإمام علي(ع)، أي إن صوت المبادئ وصوت فقراء المسلمين كان مسموعاً بشكل واضح في ديوان خلافة عمر وقد جسدتها المقولة المشهورة (لولا علي لهلك عمر) والتاريخ يتحدث بالكثير من الشواهد المؤكدة حول هذا الأمر وقد ذهب عمر ضحية توجهه هذا، فإن كانت يد الاغتيال فارسية الانتماء فإن العقل المدبر عربي أموي قرشي النسب ارستقراطي الانتماء الطبقي، أراد بهذه الفعلة أن يتدارك هيمنة أنصار كفة فقراء المسلمين بقيادة الإمام علي والغفاري وأنصارهما فالتقى بقتل عمر دافع الثأر القومي الفارسي والحقد الطبقي الارستقراطي العربي الأموي خصوصاً الذي عبر عن حقيقة خيانة أهل الثروة والمال لمبادئهم مهما كانت تدعي الرفعة والسمو حينما تتهدد مصالحهم الطبقية الممثلة في انحياز عمر لصالح الفقراء والحد من ثراء الأغنياء، فقد روي عن عمر في آخر أيامه قوله: (لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لألحقن أخرى الناس بأولاهم حتى يكونوا في العطاء سواء). كما ذكر عنه (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء)[1] فباغتيال عمر عجلوا وصول الخليفة الثالث عثمان بن عفان(رض) لتولي الخلافة باعتباره الأنموذج الأمثل لتحقيق طموحات تجار وارستقراطية قريش بقيادة معاوية بن أبي سفيان لتحقيق مقاصدهم لحيازة الثروة من الغنائم التي بدأت تتدفق بكميات هائلة على بيت مال المسلمين نتيجة التوسع في الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الثاني (رض). وقد كان ما كان في عهد الخليفة عثمان بن عثمان(رض) حيث أصبح بيت مال المسلمين حكرا على بني أمية وأشراف قريش فتملكوا أطيانا وضياعا وكنزوا سبائك الذهب والفضة وملك أيمانهم الجواري والعبيد وقطعان من الإبل والمواشي تبهر الأبصار، في الوقت الذي كان يعاني فيه عامة المسلمين من الفقر والفاقة والعوز. (لقد بالغ عثمان في إسناد هذه الطبقة فوضع بيت المال تحت تصرفها وأطلق للصحابة وغيرهم اقتناء الأموال وتملك العقارات والتنقل بين الأمصار دون أي قيد)[2] وأدناه نموذج لمدى كنز المال والغلال لعثمان وبعض مناصريه في ذلك العهد: (عثمان بن عفان/ من النقد: 150 ألف دينار ومليون درهم، قيمة الأراضي والعقارات 100 ألف دينار. الزبير بن العوام: من النقد 50 ألف دينار/ أموال مختلفة: 1000 فرس و 1000 عبد)[3] وللتاريخ قول كثير في هذا الوقت من وصف حركات المعارضة والرفض والتمرد على ما آلت إليه الحال وطريقة صرف وتوزيع الأموال، وقد كان أبو ذر الغفاري صوتاً هادراً لا يهادن في كشف هذا الظلم والحيف دائم التحريض على الرفض والثورة من اجل العدل والمساواة بين المسلمين، فنبذ منفياً ومات وحيدا في الربذة بأمر من عثمان وبتحريض من معاوية، وقد كان نفيه وموته أحد أقوى أسباب تراكم الغضب لعامة المسلمين ضد عثمان، وكان ما كان من أمره تحت فورة وغضب مناصري العدل والمبادئ الذي تتوج بقتل عثمان ومبايعة الإمام علي من قبل جمع فقراء المسلمين الثائرين باعتباره إمام الفقراء والمقهورين وميزان الحق والعدل. وطبعا لم تستكن ارستقراطية قريش وعقلها المدبر معاوية بن أبي سفيان حيث البس النزاع قميص عثمان والمطالبة بثأره، فكان مظهراً واضحاً من مظاهر قوى الاستئثار الطبقي لينتقل الصراع من ساحة الأفكار والروايات إلى ساحة السيوف والرماح والصراع الدامي الطاحن بين مختلف الأطراف الذي حاولت العديد من الأقلام والدراسات ذات النظر الأفقي أن تصوره عداءا شخصيا بين أفراد وروايات ووصايا، وليس صراعا بين مصالح فئات وطبقات مستأثرة وطبقات محرومة ومهمشة. انه صراع بقيادة أهل الإيثار بزعامة الإمام على وأهل الاستئثار بقيادة معاوية ورهطه. فهل كان خلاف طلحة و الزبير وأعوانهما مع الإمام علي(ع) وصحبه خلافاً شخصياً أم خلافاً على كمية ونوع العطاء من الغنائم وإعطائهم المناصب، فكان باعثا لمعركة (الجمل) بزعامة عائشة أم المؤمنين رمزاً شخصياً ومشخصنا للصراع للتجتمع حول ناقتها الجموع المؤملة والمضللة، ومن المعلوم إن استمرار الصراع والمعارك الدامية بين معاوية ابن أبي سفيان نقيب بني أمية وأهل الثروة والجاه ضد الإمام علي نقيب بني هاشم ورمز المستضعفين والفقراء، وخصوصا معركة صفين وما نجم عنها وما تلاها من أحداث وانقسام صفوف المسلمين، حتى انتهت باغتيال الإمام علي(ع) في محراب صلاته في الجامع من قبل ابن ملجم، فلم يستطع إمام الفقراء أن يتفرغ ولم تثنَ له الوسادة خلال خلافته لتركيز مبادئه وخططه ومساعيه لنشر قيم الإسلام الجوهرية في العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربة الاستكبار، وقد وصف هادي العلوي فترة حكم الإمام علي بالحدث العابر نتيجة لقصر المدة والانشغال في المعارك والحروب ف(...حكم علي بن أبي طالب كان أشبه بحدث عابر في خضم الأحداث، وانقضت سنواته الأربع في مكافحة التمردات التي أثارها عليه أشراف العرب وأدت في النهاية إلى انهيار الخلافة واستيلاء الأمويين كممثلين للطبقة العليا على السلطة، ليفتحوا صفحة جديدة في حكم الاستغلال)[4]. وبغض النظر عن ظاهر من يقف وراء جريمة مقتل الإمام علي(ع) إنما كانت بتدبير ارستقراطية قريش وبزعامة معاوية وأنصاره، مما قلب موازين كفة الصراع لصالح قوى الثراء والمال والسلطة، كل هذه المعارك الطبقية الدموية الطاحنة بين الأثرياء ورموزهم، وبين الفقراء ورموزهم من المسلمين دارت تحت يافطة من هو الأحق بالخلافة؟؟؟ متخفية تحت حجج ونصوص وروايات منقولة ومنحولة ومفبركة مخفية حقيقة هذا الصراع والذي امتد كما هو معروف قروناً من الزمان طوال الحكم الأموي والعباسي والعثماني وما بعدهما ولحين التاريخ، تحت ما يسمى الصراع الطائفي بين السنة بمختلف أطيافهم وأوصافهم وبين الشيعة بمختلف أطيافهم وفرقهم (بدأ الشيعة حزباً سياسياً تحول بالتدريج إلى حركة معارضة سرية، وفي النهاية تطور إلى طائفة دينية بارزة ... ولكن زعماء الشيعة فشلوا في انتزاع الخلافة من السنة فإنهم عانوا من بطش السلطة الحاكمة، هذا البطش الذي بات دوماً مصير هذه الحركات، لقد اكتسب الشيعة الكثير من مميزات أقلية مضطهدة)[5]. وهنا يتبادر للذهن سؤال يقول: ما هو سبب الإخفاقات المزمنة لحركات الفقراء ومن ينذرون أنفسهم للدفاع عن جوهر الرسالات الإنسانية على امتداد التاريخ العربي الإسلامي؟؟؟ نرى إن السبب الرئيسي لذلك كامن في بنية هذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية وطبيعة الدولة الريعية الخراجية مما حال دون بلورة طبقة برجوازية ناهضة منتجة، بل كتلة هلامية من التجار المرابين والعبيد والأقتان والحرفيين والصناع الصغار جندت ووضبت بمجموعها لخدمة متطلبات قصر السلاطين من وسائل الراحة والترف والكماليات لهم ولحاشيتهم ونسائهم وجواريهم وغلمانهم، وكانت تعتمد على توفير مستلزمات جندها وعساكرها عن طريق الاستيراد والمتاجرة المبنية على مبدأ وأسلوب المقايضة، أو طبقة التجار المستوردين وليس المنتجين وبالاعتماد على جلب أعداد كبيرة من العبيد والجواري للعمل في قصور وضياع الأمراء والسلاطين وأمراء الجيش. كانت هناك إرهاصات لنواة طبقة برجوازية منتجة في بدايات العصر العباسي، رافقتها حركة فكرية فلسفية صاعدة عرفت باسم المعتزلة أو الفكر ألمعتزلي وخصوصاً في البصرة والكوفة وبغداد باعتبار هذه المدن من اكبر حواضر المدن العباسية، وقد تبنى بعض خلفاء بني العباس وخصوصا المأمون هذه الحركة، فقطعت السلطة طريق تطورها الطبيعي وهي لم تزل تحبو كحال مولدتها البرجوازية الناشئة، فقد كانت هذه الحركة تدعو إلى عقلنة أساليب وآليات الحكم وبناء الدولة، واعتمدت التفكر والتدبر العقلي المتسائل بعيدا عن التقليد والجمود النصي المتبع في إصدار الأحكام والقرارات والافتراءات، متأثرة في كثير من أطروحتها بالفلسفة اليونانية والفارسية التي برع العديد من (أهل الذمة) في ترجمتها إلى اللغة العربية، ومن بين هذه الحركات والدعوات حركة أخوان الصفا وغيرها من حركات المتصوفة ومن تم اتهامهم بالزندقة والارتداد، حيث كانت حركة فكرية تمور بالحياة والتساؤل والحركة بين معتزل متفلسف ورافع سيف محارب أو مرتدي خرقة متصوف أو لا مبال ماجن أو موال للحكم والسلطان، إنها إرهاصات عصر تنوير لم يكتب لها الحياة والتطور بسبب انسدادها الموضوعي الكامن في البنية الاجتماعية الاقتصادية القاصرة. لم تطل فترة ازدهار هذه الفلسفة ونفوذ هذه الطليعة الطبقية الداعية للتثوير والتنوير التي لم تكن متوائمة مع طبيعة الدولة الخراجية ونظام توريث السلطة والخلافة غير المنسجمة مع الفكر المتسائل المتجاوز، ولا تتفق مع الآلية الثيوقراطية التوريثية في الحكم، فأدار لها خلفاء بني العباس بعد المأمون ظهر المجن وحورب أنصارها ومتبعوها والداعون إليها كما حورب رافضوها في بداية الأمر، بالعكس مما حدث في الغرب حيث كان للبروتستانتية دور كبير في دعم نضال البرجوازية الصاعدة وتقدمها في هدم سلطة الاستبداد الإقطاعي وتطور الصناعة والتجارة حيث يذكر ماكس فيبر (من المعروف جيدا إن البروتستانتية كانت احد أهم العوامل في تطور الرأسمالية والصناعة في فرنسا)[6]. لاشك إن التاريخ يحدثنا عن انتفاضات وحركات وثورات دامت سنينا طوال تقارع السلطات الثيوقراطية الوراثية، ومن هذه الثورات والانتفاضات ثورة الزنج (كانت ثورة الزنج حركة ضيقة لا تنطوي على برنامج دقيق ونظرية تضمن لها البقاء والانتشار الواسع)[7] وعموم جمهرة الفلاحين والداعين للعدل والمساواة وحركة البابكية وثورة القرامطة والإسماعيلية، بالإضافة للمعارضة العلوية المستمرة طوال الحكم الأموي والعباسي وما بعده تحت حجة أحقيتهم بالخلافة والحكم باعتبارهم أهل بيت الرسول، هذا الحق المهدور الذي غالباً ما يكون سترا للكثير من الطامحين للسلطة والثورة أن يتستر به وباباً عن طريقه يدخل قلوب المتذمرين والناقمين على السلطان في مختلف العصور، ولكن سرعان ما يعادون وينكلون برموز العلويين (أهل الحق) عند وصولهم سدة الحكم كما فعل العباسيون عندما استتب لهم الأمر بعد إسقاطهم للخلافة الأموية. لم تستطع هذه الزعامات لهذه الانتفاضات والثورات أن تتجاوز عجزها الموضوعي بإنتاج أيدلوجيتها الخاصة بها المعبرة عن مصالح القوى المنضوية تحت لوائها من الفلاحين الفقراء أو العبيد أو من أبناء القوميات المضطهدة والمحرومة، بل ظلت متلفعة برداء الأيديولوجية الدينية السائدة لتنتج ركائز نقيض طبقي واضح المعالم والأهداف، بل غالبا ما تستند إلى خطاب أخلاقي والعودة إلى المثل والمبادئ التي تدعيها الطبقة الثيوقراطية النقيض، مما جعلها تدور في نفس الفضاء الفكري والثقافي لنقيضها دون أن تستند إلى نظرية أو منهج فكري يفكر وينظر لأسباب استغلالها وينير لها طريق ووسيلة وأداة الخلاص والانعتاق من نفس التشكيلة والبنية المحددة والكابحة والمعيقة لتطورها وهيمنتها، فالتاريخ يتحدث عن الكثير من انتفاضات العبيد (سبارتاكوس) وما قبله وما بعده وكذلك انتفاضات الفلاحين وعموم المقهورين، ولكنها كانت تحصد الفشل والانكسار ومنها ثورة (1920) ضد الاحتلال البريطاني للعراق، بسبب عدم وجود قيادة فلاحيه للانتفاضة، وإنما كان قادتها من قوى إقطاعية وعشائرية حيث يذكر ل.ن.كوتلوف (كان للمواقف السياسية لقيادة الثورة أثر كبير في تقرير مصيرها. وكان تكوين القيادة بالأساس من رجال الدين وشيوخ القبائل، وكان للفئات الانهزامية نفوذ كبير في قيادة الثورة)[8]. وكأن مفاتيح النصر والتحول الجذري في تاريخ الشعوب وضعت في يد وعقل الطبقة البرجوازية التي استطاعت أن تعي ذاتها وتعمل لذاتها وتنتج فكرها ونظريتها في المكان والزمان المناسبين لتحرز الانتصارات الكبرى في التاريخ على نقيضها الطبقي الإقطاع والحكم الاستبدادي الثيوقراطي والملوكي المطلق بمختلف أطيافه وتمثلاته بما فيه عزل الدين السياسي وعزل الكنيسة وممثليها عن السلطة والدولة، وبذلك تمكنت من عزل سلطة وتحكم رجال الدين على رجال السياسة والحكم بعد أن كان لا دين بلا سياسة ولا سياسة بلا دين كما هو الحال ما قبل فترة النهضة والتنوير وما قبل الثورة الصناعية، فعمدت البرجوازية الغربية إلى وضع أناجيلها وقوانينها وثقافاتها العملية الإنسانية الأرضية على شكل دساتير خاصة بها تسند بناء دولة ديمقراطية حديثة في العديد من البلدان المتطورة كبريطانيا وفرنسا وغيره من البلدان الأوربية وكما ورد في البيان الشيوعي: (تجر البرجوازية إلى تيار المدنية كل الأمم، حتى أشدها همجية، تبعا لسرعة تحسين جميع أدوات الإنتاج وتسهيل وسائل المواصلات إلى ما لا حد له.... وتجبر البرجوازية كل الأمم، تحت طائلة الموت، أن تقبل الأسلوب البرجوازي في الإنتاج وأن تدخل إليها المدنية المزعومة... فهي باختصار تخلق علما على صورتها ومثالها)[9]، ولكن هذا الحراك لم يحصل في البلدان الخراجية المتخلفة نظرا لبقاء رحمها قاصرا عن حمل وولادة طبقة برجوازية منتجة لتكون النقيض الفاعل للطبقة الثيوقراطية الإقطاعية في الماضي وشللها كطبقة قطوازية - اشتقاق من قبل الكاتب مركب من الإقطاع والبرجوازية باعتبار الأخيرة مرتبطة برحم الأولى ولم تزل في البلدان التابعة - في العصر الراهن وتبنيها وتسترها بالأيديولوجية الطائفية وليس بأيديولوجية الطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة بانية دولة الحداثة في العالم المتحضر كما يذكر ذلك مهدي عامل (إن ما يميز الأيديولوجية "الطائفية" من حيث أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية هو بالتحديد، علاقة الضرورة التي تربطها، في تكونها التاريخي، وفي حركة تجددها أو إعادة إنتاجها، بالنظام السياسي للسيطرة الطبقية، وبالدولة، أداة هذه البرجوازية الكولونيالية، هو بالضبط كونها أيديولوجية سياسية لا أيديولوجية دينية، وفي هذا يكمن طابعها الطبقي البرجوازي الذي تتميز الأيديولوجية الدينية)[10]. ومن ميزات البرجوازية أنها تحقق ذاتها وكذلك تمهد الطريق وتقدم الأدوات والوسائل لحفار قبرها ونقيضها الطبقي لطمرها، الطبقة العاملة وأنصارها بعد أن تعي ذاتها وتعمل لذاتها، وهذا ما لم يحصل ولم يتوج بالانتصار لحين التاريخ!!! إن الذي يهمنا من العرض الموجز أعلاه بيان حقيقة ما يسمى بالصراع الطائفي والجذر التاريخي للطوائف، هذا الستار الأيديولوجي الذي تتخفى خلفه القوى الطامحة للسلطة السياسية بعد أن موهت وغطت وطمست جوهره كصراع بين فئاته وطبقاته الاجتماعية. (إن العنف الطائفي في كل مكان من العالم لا يقل اليوم فجاجة، ولا يقل اختزالية، عما كان قبل ستين عاما. فوراء دعم الوحشية الفظة، يوجد أيضا اضطراب مفاهيمي حول هويات الناس، يحول البشر متعددي الأبعاد إلى مخلوقات ذات بعد أحادي)[11].