يرى الأستاذ محمد السروتي وهو باحث مختص في قضايا التنصير ومسؤول الأنشطة العلمية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة أننا نعيش هجمة تنصيرية شرسة تعمل على استغلال كل المنافذ المتاحة لها من أجل التغلغل في المجتمع المغربي، وأكد في حواره مع التجديد على أن اختيار بعض المغاربة التنصر ليس اختيار حرا بل متأثر بالضغوط المادية وبالإكراهات المعيشية والجهل بالدين. وفيما يلي نص الحوار: هل التنصير حالة جديدة ظهرت بالمغرب أم أن لها جذور تاريخية؟ في الحقيقة لا يمكن الحديث عن التنصير كظاهرة جديدة بالمغرب، بل يمكن القول بتحفظ أن لها امتداد في تاريخ المغرب، وهذا مرتبط أساسا بالموقع الجغرافي الذي يحتله المغرب إذ يعد من أقرب البلدان الإسلامية من العالم المسيحي. وفي الوقت ذاته، فإن القول بأنها ظاهرة قديمة ذات جذور تاريخية، قول لا تدعمه الوثائق الكافية، بحيث لا نستطيع في الوقت الحالي تحديد متى بدأ التنصير وكم تنصر من المغاربة، ولا معرفة الطبقات والجماعات العرقية التي تنصرت في التاريخ القديم للمغرب، بيدَ أن غياب هذه المعطيات وشُحَّ الوثائق لا يدفعنا إلى القول بأنها مجرد عمليات سطحية... لكن ما لا يختلف فيه المهتمون بالظاهرة هو ازدياد وتيرتها في الفترات الأخيرة، بسبب سياسة الانفتاح الثقافي غير المضبوط على الآخر. إضافة إلى ما يمكن أن نعتبره التقديس الاقتصادي للسياحة واعتمادها كنشاط اقتصادي أساسي، بشكل يجعل إمكانية الحد من نشاطات المنصرين أمرا بالغ الصعوبة، خصوصا مع الحركة المتنامية للسياح الأجانب نحو المغرب، فمرحبا بكل زوار المغرب وضيوفه لكن ليس على حساب قيمنا وهويتنا... إضافة إلى غياب زجر قانوني وصمت رسمي للسلطات المغربية إزاء هذه الظاهرة، كلها أمور يمكن اعتبارها بمثابة ضوء أخضر لهؤلاء المبشرين للتوسع في أنشطتهم، وتجعلنا نعيش هجمة تنصيرية شرسة تستغل كل المنافذ للتغلغل في المجتمع المغربي، يصل خبثها أحيانا في استغلال مضامين ورموز إسلامية، ونماذج ذلك متعددة تبدأ بمحاكاة القرآن الكريم رسما وتلاوة تقدم به الأناجيل إيهاما وتضليلا، ويمكن التمثيل في حالة المغرب بنسخ متعددة من طبعات أناجيل تفد على البلاد وطبعت بخط مغربي وبالعامية المغربية، وأخرى بالأمازيغية، ووسائل أخرى تكشف عن معرفتهم العميقة بتفاصيل تقاليدنا وعاداتنا الاجتماعية والدينية، فيقولون إن التنصير يجب أن يتم من خلال القرآن الكريم، وليس بالتهجم عليه؟ ومن خلال الثقافة والعادات والتقاليد الإسلامية، وليس من خلال تجاوزها، فضلا عن احتقارها؟ هل يمكننا القول بأن التنصير في المغرب حاليا أصبح ظاهرة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حالات فردية متفرقة؟ في ظل الغياب التام للمعطيات الرسمية المتعلقة بالتنصير في المغرب، يصعب التحديد الدقيق لحركة التنصير ووصفها بالظاهرة بمفهومها العام، لكن في الوقت ذاته أرى أن الأمر يتجاوز بكثير كونها مجرد حالات فردية متفرقة أو معزولة تظهر بين الفينة والأخرى في مختلف المدن المغربية، بل إن القول بذلك (أي فردية الحالات) أمر يجانب الصحة والواقع في الكثير من الحالات، ومرد ذلك أن مختلف المنابر الإعلامية التي خصصت ملفات عن حركة التنصير بالمغرب لم تتحدث عن حالة فردية واحدة، ولم يكن منطلقها حالة هامشية معزولة، بل أشارت جلها إلى مجموعة أفراد كانوا منضوين في عدة خلايا، كما أن المصالح الأمنية بمراكش في إحدى السنوات لم تستدع فردا واحدا بل مجموعة من الشباب، وللإشارة فإن هذه الالتفاتة الأمنية حسب بعض المتتبعين لم تكن تسعى لمعرفة حقيقة الجماعة وطبيعة أنشطتها، بقدر ما كان الهدف خلق نوع من الارتباك وإيصال رسالة بأن تحركاتهم مراقبة من طرف أجهزة الأمن، لذا سرعان ما عادت المجموعة إلى ممارسة نشاطها بشكل عاد... كما اعترف المنصرون الأربعة الذين ألقي عليهم القبض بقرية أقا يكرن بطاطا أنـهم جزء من شبكة تضم اثنا وعشرين فرداً دخلوا المغرب عبر مطار محمد الخامس وانقسموا إلى مجموعات في مدن: مراكش، تارودانت، أمزميز، طاطا... والأكثر من ذلك أن بعض المصادر تتحدث عن العشرات من الإرساليات التنصيرية التي حطت رحالها في السنوات الأخيرة بالمغرب تحت مسميات وأهداف متعددة. ثم إن شبه الإجماع من مختلف المنابر الإعلامية على تعدد أطيافها حول رصد الظاهرة: التجديد، المساء، الأخبار المغربية، الاتحاد الاشتراكي، الصحيفة، النهار المغربية، المحجة، العلم، السبيل، المشعل... تجعل من فرضية الحديث عن الموضوع بأنه مجرد تحركات معزولة فرضية واهية، وحديثا لا يستقيم مع واقع هذه الظاهرة. الشيء الذي يدعو إلى عدم الاستهانة بما يحصل اليوم، بل التيقظ والعمل الجاد خصوصا وأن موجة التنصير التي يعرفها المغرب في السنوات الأخيرة تزداد شراسة وحدة، وتتجاوز ما كان معروفا في الأمس القريب من البث الإذاعي واستعمال البريد من خارج التراب الوطني للوصول للفئات المراد تنصيرها، إلى الانطلاق في ذلك من الداخل بالاتصال المباشر بهذه الفئات ماهي الآليات والوسائل المعتمدة لتنصير الشباب المغربي؟ إن الحديث عن الأساليب والوسائل التنصيرية المعتمدة في المغرب، حديث يضيق المقام عن حصرها وعدها، ويمكن لتقريب الموضوع اعتماد التصنيف الذي سطره المنصرون أنفسهم في المؤتمر التنصيري الذي عقد في الولاياتالمتحدةالأمريكية بولاية كلورادو سنة 1978 تحت عنوان التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي الذي حدد الأساليب التنصيرية في ثلاثة: الأول هو الأسلوب المباشر، والثاني هو الأسلوب الشامل، والثالث هو الأسلوب غير المباشر... وجل الحركات التنصيرية في كافة البلدان، تندرج أساليبها ضمن هذا الإطار العام المرسوم، ويتم تنويع الوسائل وتجديدها، وتطويعها للبيئة التي تعمل بها المنظمات التنصيرية، وسنكتفي في المقام بالإشارة إلى أن استهداف الشباب نابع بالأساس من أهمية ودور هذه الفئة الاجتماعية في تحديد مجموعة من الخيارات، تجعل منه مدخلا أساسيا من مداخل التنصير، لذا يمكن ربط هذا الاهتمام بالهدف المنشود في أفق سنة ,2020 للوصول إلى نسبة 10% من المتنصرين. وإن اعتبر الرقم في ظل الواقع المعاش ونتائج المنصرين ضربا من الخيال، لكن رغم ذلك فالمتتبع لمنشوراتهم وأنشطتهم يدرك جيدا أنهم جادون في العمل وساعون لذلك بشتى السبل و بمختلف الإغراءات التي تتضمن الدعم المادي وتوفير فرص للسفر والزواج، وكذا تقديم مختلف الخدمات الاجتماعية والصحية والرياضية والترفيهية ... بل إن هذا الاهتمام بالفئة ساهم في تطوير الوسائل التنصيرية التي كانت بالأمس القريب تعتمد فقط على مخاطبة عواطف الشباب، فكان من نتائجها ظهور كتابات تخاطب عقولهم مستغلة فراغها من المعطيات الصحيحة عن الدين الإسلامي وضعف التكوين الديني الجيد، وهذا ليس بغريب على هذه المنظمات مادام شعار عملهم: إذا لم تستطع تنصير مسلم فلا تمكنه من أن يكون مسلماً حقيقياً، وأيضا انبثاق مواقع ومدونات ومنتديات اليكترونية متعددة موجهة إلى الشباب المغربي خصوصا. لهذه الأسباب وغيرها تضع الحركات التنصيرية نصب أعينها فئة الشباب ضمن الأولويات. فهل يكتفي المعنيون بالأمر بانتظار سنة 2020م، لتبيُّنِ الأمر؟ على الأقل نرى أن المطلوب تنوير الرأي العام حول الظاهرة، وأجوبة صريحة على حقيقة الأرقام التي تنشر بين الفينة والأخرى، وعن التدابير التي اتخذتها الحكومة أو التي بصدد اتخاذها لتحصين الذات من هذه الظاهرة ومن على شاكلتها... وذلك من خلال دراسات جادة تساهم فيها مختلف المؤسسات والأطراف، لأن الأمر يتجاوز بكثير مسألة أن تكون قضية شخصية أو حرية فردية، لأنها مرتبطة بالدين والدين في حياة الأمة قضية وجودية. كيف تقيم جهود الدولة وعلماء الدين في مناهضة هذه الظاهرة؟ إن الحديث عن مناهضة الظاهرة في المغرب، أمر في غاية الأهمية. لأن الأمر لا يقتصر فقط على ما يمكن أن تقدمه الدولة في المجال وإن كانت مساهمتها في المجال أساسية وعليها يتوقف الأمر للحد من تأثير هذه الظاهرة وتغلغلها، أما القضاء عليها فيستدعي تضافر جهود الجميع، وتكفي الإشارة في هذا الصدد أن الظاهرة لم تحظ قط باهتمام علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي (خصوصا وأن البعض يرى ضرورة محاربة الظاهرة اجتماعياً)، رغم الأهمية والخطورة التي يكتسيها الموضوع، ليس باعتبارها ظاهرة تمس مستوى جد حساس من مستويات الثقافة التي يتحدد انطلاقا منها جزء هام من النسيج الذي يعتقد المغاربة أنه يكون هويتهم الاجتماعية، ولكن كذلك بفعل ما يمكن أن تطرحه الظاهرة من أسئلة حرجة تتعلق بمدى قابلية المجتمع المغربي في ظل شروطه الدينية والاجتماعية والاقتصادية، لتشكل طوائف مدعومة خارجيا، وهو أمر سيدخل المغرب في احتكاكات هو في غنى عنها. إن الرهان الأكبر والأكثر جدية في سياق تمتين مناعة الذات المغربية إزاء هذه الظواهر، ينطلق أساسا في نظري من تحصين الفرد ضد كل أنواع التجييش التي تحوله إلى جزء من قطيع، وحمايته من كل الأنماط التي تعمل على تهييئه ليصبح موضوعا طيعا للتحكم الذهني والنفسي، وهنا يأتي دور كل الفعاليات المسهمة في إعداد ثقافة الإنسان بدءا من الأسرة مرورا عبر منظومتنا التربوية... وصولا للمراكز العلمية. وفي الوقت ذاته لا نبخس في هذا الصدد مجهودات بعض المؤسسات الرسمية التي أخذت على عاتقها توعية الأفراد بخطورة الظاهرة وتجلياتها التي تنعكس سلبا على مختلف أفراد المجتمع، وكذا مختلف المنابر الإعلامية التي خصصت ملفات لرصد الظاهرة، لكن تبقى السمة المشتركة بين جل المجهودات رسمية كانت أو غير رسمية، تشترك في كونها لا تتجاوز الطابع الموسمي في أغلب الحالات، وبالتالي لا تعدو أن تكون سوى ردة فعل. في حين نرى أن مأسسة متابعة ورصد الظاهرة، أمر بالغ الأهمية في الوقوف على طبيعتها وتجلياتها في مختلف مناطق المغرب ... خصوصا وأن الظاهرة تتغلغل بشكل منظم، وليست جهودا ذات طابع فردي، وتشهد لذلك مختلف آلياتهم ووسائل التنصيرية، إذن فكيف يعقل أن نتحدث عن علاج للمرض في غياب شبه تام للتشخيص؟ وكيف يمكننا أن نتحدث عن مناهضة الدولة للظاهرة في ظل تقاعس رسمي عن الاهتمام بالأمر؟ بينما يبقى جل المشتغلين في تتبع ورصد الظاهرة يعتمدون على إمكانيات ذاتية تصطدم بعقبات وعراقيل لا حصر لهابتجعلهم أحيانا بين مطرقة السلطة (بصمتها) وسندان الظاهرة (بسريتها) هل تعتقد بأن المغاربة الذين يغيرون دينهم أو يتنصرون يكون الدافع لديهم دينيا محضا واقتناعا عقليا أم أنه قد تكون هناك أسباب أخرى وراء ذلك من قبيل الهجرة وتحسين ظروف العيش؟ هذه الأسئلة وغيرها مطروحة على كل المعنيين بالأمر، وفي مقدمتهم الساسة والعلماء، ليحددوا صيغة تعاملهم مع هذه الجراح التي يرفضون عادة النظر إليها، وإن كنا نرى أن المغرب لا يمكن أن يعيش تجربة الطوائف، لأن مقاومة الهوية الدينية منيعة جدا لا تتيح إمكانية انبثاق أنساق دينية غريبة، ولأن المغاربة متمسكون أكثر بهويتهم الدينية، فيستحيل في المدى المنظور استنبات أقلية مسيحية بالمغرب. لذا أرى أن القول بالاقتناع العقلي الذي يتبجح به جل المُـنَصَّرين أمر مستبعد، وتكشف عنه طبيعة الأساليب التنصيرية التي تبتعد عن الجدال والإقناع في الغالب الأعم، وتعتمد الكذب والافتراء والتشويه أي ما معناه أنه لا نقاش في العقيدة، التي هي الخلاف الأساس بين المسيحية والإسلام في أغلب المنشورات. وهو نفس الموقف الذي اتبعته من قبل لجنة الحوار الفاتيكانية وفرضت على أعضاء اللجنة في الأزهر أن يوقعوا على أنه لا نقاش في العقيدة، بل إن حركة التنصير بشكل عام تجد مجالها الخصب، حيث يوجد الفقر والتهميش، وهو ما يفسر امتدادها في كثير من جيوب الفقر والجهل، بينما توقف ذلك التمدد في بيئات مثقفة مكتفية اقتصاديا، وهذا يعني أن اختيار الفئات المتنصرة ليس اختيار حرا بل متأثر بالضغوط المادية وبالإكراهات المعيشية، والجهل بالدين... ألا ترى أن مثل هذه المحاولات المنظمة للتغلغل في المجتمع المغربي تتناقض مع دعوات الفاتيكان الذي يدعو إلى الحوار والسلام واحترام الأديان الأخرى؟ بالفعل قد يرى البعض أن في الأمر تناقضا، ولكن هذا الغموض أو التناقض ينزاح بالتأمل الدقيق في المخططات الكنسية وبالدراسة المتأنية لوثائق المؤتمرات التنصيرية التي تدعم نشاطها و تغطي عملياتها التنصيرية بأسماء ونعوت من قبيل: التعايش، والتسامح، والحوار، والمحبة... إن دعوات الفاتيكان للحوار تندرج ضمن ما سماه أحد الباحثين بخطاب التبشير القائم على محاولة إقناع الآخر بصحة عقيدة الذات وأفكارها وإدخاله في إطارها، ولا يرى مستقبلاً للعلاقة مع الآخر إلا باستقطابه. وهو ما يتناقض مع جوهر فكرة الحوار القائمة على إدراك الآخر،إذن نحن لسنا أمام حوار بقدر ما نحن أمام وسيلة تنصيرية ضمن أساليب متعددة. وبعبارة أخرى فإن مطلب البابا من الحوار الذي سيبدأ عما قريب، والمعبر عنه أيضا في رده على رسالة المائة وثمانية وثلاثين عالما مسلما الأخيرة والمعنونة بــكلمة سواء بيننا وبينكم، هو مطالبة الإسلام أن يتبع نفس الطريق الذي سلكته الكنيسة الكاثوليكية تحت ضغوط عصر التنوير. وأن حب الله وحب القريب (وهو محور الرسالة السالفة الذكر)، يجب أن يتحقق في القبول التام لحرية العقيدة، أي ما معناه فتح الأبواب على مصراعيها لعمليات التبشير، والإقرار بأن نص القرآن ليس منزّلا، وبإمكانيات التعديل والتغير في النصوص القرآنية.