وثانيهما: ممن ينبغي أن تقترن الصفة الثانية في بلادنا بعد صفة جلالة الملك إلى تلبس الحركات المتأسلمة ذات الأحزاب المستعجلة في حركاتها وانتخاباتها وإعلامها وغيرها؟ ولعل الملاحظة الظاهرة هي اختراق لساحة إمارة المؤمنين والتحرك باسم إمارة المؤمنين وفق آليتهم للأصوليين تختلف عن منظور إمارة المؤمنين، هذا المنظور الذي يؤمن بالمنظور الحداثي لمؤسسات الدولة بحيث تنفتح بكل أبوابها الحداثية في التدبير الاقتصادي والاجتماعي والسينمائي والفني والتعليمي والسياسي والدبلوماسي، مما يبين أن إمارة المؤمنين لا تقوم في رعايتها لمؤسسات الدولة على نظرة أصولية متأسلمة، بل تقوم على نظرة مدنية وديمقراطية وحداثية تستجيب لحاجيات الوطن والمواطنين والعصر، وهو ما يمكن التأكد منه إذا ما أطللنا على الذين تصدوا للمتأسلمين وكانوا أشد إحراجا وإيلاما للمهربين الدينيين فهم الحداثيون من ذوي التكوين الديني والإيمان بالهوية المغربية والتاريخ الحضاري المغربي، والذي لا يمكن استبداله بنسخ كربونية من الشرق أو من الغرب: ونذكر من هؤلاء: سيدي عباس الجراري، سيدي أحمد الخمليشي، سيدي عبد الهادي التازي، والدكتور عبد السلام الغرميني، والدكتور حسن العزوزي، والفقيه الحسين وكاك، والأستاذ أحمد المرابط، والأستاذ يوسف حنانة، والدكتور إدريس حمادي.... لقد استطاعت هذه الأسماء وغيرها بحق على تعرية الأطروحة الأصولية وكشف خدعها السياسوية، أما نقاد الحركة الأصولية والمهربين الدينيين من دعاة العلمانية الجاهلين بالمعرفة الدينية، فإن نقدهم ذلك لا يضر الأصوليين المتأسلمين بل يخدمهم من جهات متعددة ذلك بأن جهلهم بالثقافة الدينية الإسلامية كذا وجهلهم بالبصمات المغربية التاريخية التي بلورت الموروث العقائدي والفقهي واللغوي والأدبي والصوفي والأخلاقي والسياسي والعمراني ضمن الهوية المغربية، فجهل المثقفين المغاربة الداعين للعلمانية بالموروث الثقافي الإسلامي المغربي، وأثرها الاجتماعي الخاضع للهوية المغربية ولخصوصياتها جعلهم يهاجمون هذا الموروث باعتباره في نظرهم تقليدا مضادا للحداثة وللمعاصرة على اعتبار أنه يتصادم مع التقدمية والديمقراطية، ولا شك أن هذه القراءة العرجاء تقدم هدايا ثمينة للأصولية التي تهاجم بدورها الموروث الديني المغربي لكن بعيار ناري آخر، فحسب فهمهم –المهربون- المستورد والمهرب فإن هذا الموروث المغربي يحمل موروثا شركيا ومليئا بالبدع والضلالات، ولأنه يتصادم مع الهوية الإخوانية الوهابية المشرقية لأنه -الموروث المغربي- يقف حاجزا أمام تهريب المهربات المتأسلمة المشرقية ولأنها –المغربة- تنسف المشروع المتأسلم بعنوان إسلامي مغربي أصيل، وفي هذا النسف لا يجد المتأسلمون ما يقولونه للشعب المغربي في قنواتهم المأجورة من جمعيات مصطنعة لا تؤمن بالممارسة الديمقراطية المؤسسة لمفهوم المجتمع المدني، فقط تمارسه لتستفيد منه انتهازيا، ومن قنواتهم المأجورة نذكر جرائدهم ذات المضمون الخطابي الإلزامي والقسري الزجري مثل السياط التي تجلد القراء، فهي جرائد لا تؤمن بقانون الصحافة ومبادئها ولكنها تشتغل باسمها لتستفيد من ساحتها وباسمها وأجوائها، وتطل قنواتهم المأجورة أيضا من أحزابهم السياسية التي هي عبارة عن علب حديدية ملحمة لا تؤمن بروح الإطار المنظم للأحزاب السياسية ولا تعترف بثقافة العمل الحزبي السياسي بتعدديته وحريته وديمقراطية وشراكة واختلاف...، وبناء عليه فإن حركة المهربين تستفيد من مناخ العمل الحزبي بدون أن تؤمن به أو تعمل بروحه، ففي الوقت الذي تتمدد هذه القنوات المأجورة لتستأسد على دعاة العلمانية الجاهلين للخصوصية الثقافية المغربية بهويتها المتميزة، نجدها في الآن ذاته تصاب بالاختناق حينما تواجهها الأصوات الفكرية العلمائية المغربية ذات الثقافة الإسلامية من جهة، وذات الثقافة الحقوقية والحداثية من جهة أخرى، وبما أن المهربين الدينيين يشكون من الخواء المعرفي الإسلامي العلمي الأصيل فهم عاجزون حتى على مناقشة العلماء المغاربة الجامعين بين المعرفتين الدينية والحداثية، فبالأحرى أن يتهجموا عليهم أو يتهمونهم في دينهم من أمثال العلامة الجراري والعلامة الخمليشي، وأمام عجز المهربين الدينيين عن مناقشة هؤلاء العلماء المتوازنين فإنهم يثيرون الغبار عبر فرارهم إلى مناوشة ومناقشة نقادهم الداعين إلى العلمانية رغم ضعف هؤلاء ونخبويتهم وقلة تأثيرهم على جماهير الشعب المغربي صاحب الفطرة النقية والمضادة للتهريب الديني وفروعه وأسلاكه، ولذلك رأينا أن أشد الضربات إيلاما وتسديدا لحركة التهريب الديني لم تأت من دعاة العلمانية الناقدين للأصولية، بل أتت من العلماء المغاربة المؤمنين بإمارة المؤمنين ومن ذوي التكوين المعرفي والمنهجي الإسلامي وفق الرؤية المغربية، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها على سبيل المثال والاستدلال ما يلي: - من الذي استشعر خطورة تصريح القرضاوي من فتواه التي طعن بها إسلام الدولة المغربية؟ لقد كان سيدي أحمد الخمليشي في رده المطول الذي نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي مما دفع المجلس العلمي الأعلى إلى الاجتماع وإدانة الفتوى القرضاوية التكفيرية لإسلام الدولة المغربية إلى درجة أن بعض ممثلي المهربين الحاضرين في هذا الاجتماع، قد تبكموا بالصمت على اعتبار أن إدانة كاهنهم القرضاوي الأعظم قد أخرس ألسنتهم؟ ويتكرر السؤال: من أحرج المهربين الدينيين في لجنة تعديل المدونة؟ أليس العلماء المغاربة الجامعين بين أصول الدين والفقه وهوية المغاربة والحداثة العالمية؟ فكانوا بذلك طارحين لفتوى الفقيه المغربي ابن عرضون فيما يخص اجتهاده في إرث المرأة، كما كان هؤلاء العلماء هم أنفسهم من أشهروا عرف «حق الكد والسعاية» المتعلق بالمرأة بعد أن قاموا بإخراجه من الموروث الثقافي العرفي المغربي ضدا على المهربين الذين ذهبوا إلى أن الإرث فيه نص قرآني وعليه يستحيل الاجتهاد فيه، لكنهم حينما ووجهوا بفتوى المغاربة بلعوا ألسنتهم وعضوا عليكم الأنامل من الغيظ. ويتجدد السؤال: من فضح وعرى وتصدى لكلام الريسوني الذي اعتبرته حركة التهريب الديني فلتة لسان فضحت المكنون والمسكوت الإخواني المنتشر في حركتها؟ وذلك حينما أعلن الريسوني أن الملك غير مؤهل للفتوى وعليه فينبغي تسليم إمارة المؤمنين للمؤهلين علميا؟ ومن هؤلاء في الاصطلاح الريسوني؟ إنهم زملاؤه من المهربين الدينيين، وهو ما يصل بهذا القول إلى «انتفاء رئاسة أمير المؤمنين للمجلس العلمي الأعلى»، وبناء عليه أيضا يدعو إلى سلخ وزارة الأوقاف عن حقل إمارة المؤمنين وتسليمها للمهربين، ويتم بعدها الاستيلاء على مساجد المغاربة وأوقافهم وحبوسهم وفتواهم في انتظار استيلاء زملائهم على البرلمان وباقي المؤسسات، ليتم حسب المهربين تطهير الدولة المغربية من تراث الشركيات المغربية ووثنياتها، وإعادة إدخاله إلى عقيدة التوحيد الإسلامي وطهارته لولوج الجنة على أيدي هؤلاء، فهل جهل الريسوني وغيره مسألة الفتوى في علاقتها بإمارة المؤمنين والسلطان في التاريخ العلمائي (التازي ضمن كتابه تاريخ القرويين وابن خلدون في مقدمة وتاريخه) ؟ أم أنه يعلمها لكنه يكفر بها ويعتبرها مخالفة لمذاهب الخلافة الإسلامية والدولة الدينية الإخوانية التي يروج لها القرضاوي وتنظيم الإخوان المسملمين العالمي؟ ويتكرر السؤال: من فضح السلوكات التعددية المستوردة من مذاهب خارجية والمضادة للخصوصية المغربية تلك التي يتم تسويقها وترويجها داخل المؤسسات التابعة لوزارة الأوقاف وهي كثيرة ومتعددة نذكر منها قضية السدل في الصلاة؟ تلك التي أثارها الأستاذ أحمد المرابط ونشر حولها مقالات في جرائد «الاتحاد الاشتراكي» و«الأحداث المغربية» منبها إلى رمزية السدل في علاقتها بإمارة المؤمنين عند المغاربة مادام أمير المؤمنين ووالده وجده كلهم يصلون سدلا، ومادام فقهاء المالكية المغاربة من علماء القرويين من جبالة والريف وسوس والصحراء والأطلس وبني يزناسن قد حرروا رسائل فقهية في أحقية السدل وسنيته ومالكيته عند المغاربة. إن الإشكال الرئيس عند الداعين إلى العلمانية يتجلى في أن طرحهم هذا يتم عبر التصريحات الإعلامية والخطابات العابرة والمقالات الصحفية، وكما أنه يتم وفق خطاب سياسي غير واعي، في الوقت الذي كان فيه من المفروض من طرق العلمانية ومناقشتها من الزوايا التالية: - أسسها النظرية والفلسفية وامتداداتها التطبيقية في وجوهها المتعددة في الغرب، لأن تطبيقاتها راعت بحذر شديد الخصوصيات الدينية والتاريخية والسياسية للجغرافيات والدول التي أرادت إنزالها فيها، وهو ما أفرز لنا علمانيات متعددة ومختلفة فيما بينها، وليس هناك علمانية واحدة صالحة لكل زمان ومكان ولكل جغرافية وبلد وشعب، وإلا فسيصبح هذا منطق للعلمانيين الجاهليين بأصوليتهم. - من الزوايا المغيبة في طرح بعض الأقلام العلمانية الأصولية هي جهلها أو تجاهلها للجغرافيا الثقافية التي تريد أن تنزل فيها بديلها العلماني، ويتمدد جهلها للجغرافية الثقافية المغربية على مستويين: - المستوى الأول: يتعلق بالجغرافية الثقافية الشعبية، والتي تعيش في تفاصيلها الاجتماعية والنفسية حالة من التدين الشديد، لكن ميزة هذه التدين الذي نسميه بالإسلام المغربي هي أنه تدين مدني وحضاري أو أنه تدين علماني في تجلياته السلوكية وتمثلاته الاجتماعية والثقافية والتطبيقية، وهو ما يجعل هذا التدين الشعبي المغربي العلماني والمدني يسير بشكل مضاد جذريا للإسلام السياسي السلفي المشرقي والأصولي بشقيه الوهابي والحداثوي المتظاهر بالحداثة في هندامه وفي اصطلاحاته وواجهاته (ثقافة الواجهة: «الفاصاد»). - أما المستوى الثاني المغيب من ذهن الأقلام العلمانية الجاهلة بأصوليتها والداعمة للأصولية السلفية بدون وعي منها على مستوى النتائج، ولو أنها تعاديها على مستوى الخطاب، هو تجاهلها وعدم دراستها لخصوصية «إمارة المؤمنين المغربية» والتي تختلف بدورها جذريا عن كل المفاهيم المشرقية القديمة والحديثة («الخلافة الإسلامية» «الدولة الإسلامية» «أمير الجماعة الإسلامية» «رئيس الدولة الإسلامية» «الخليفة») وغيرها. وتكمن خصوصية إمارة المؤمنين المغربية في أنها تسير على إيقاع واحد مع الإسلام المغربي في تدينه الشعبي، بحيث أنها ترعى التدين الشعبي المغربي في أبعاده الروحانية والسلوكية وتحفظه من الهتك، وهي في الآن ذاته ترعى الجوانب الحقوقية وباقي الاحتياجات الشعبية في مستوياتها المتعددة وفق الدستور والمؤسسات والآليات الديمقراطية الحداثية، وهو ما يجعل إمارة المؤمنين المغربية حافظة للدين، وعلمانية في الشؤون المدنية والسياسية والمؤسساتية، أي أنها علمانية في تدينها، ومتدينة في علمانيتها، أي أنها ترعى الحس الديني الشعبي المغربي وتقيه من كل تهتك، لكنها لا تتحول إلى «لاهوت سلفي كنسي» يدعي امتلاك «الحقيقة الدينية» والعمل على تفعيلها زجريا عبر الشرطة الدينية والرقابة الأخلاقية، ولعل الناظر إلى إسلام المغاربة في واقعهم وفي تاريخهم وفي اجتماعهم، سيلاحظ في أن هذا الانسجام الذي لم يخلق إشكالا في علاقة الديني بالمدني عند المغاربة وفي علاقتهم فيما بينهم وفي علاقتهم بتدينهم ومؤسساتهم الدينية، وفي علاقتهم بإمارة المؤمنين وهو الإشكال الذي يحاول أن يخلقه المهربون الدينيون بألوانهم المتعددة يدعمهم في ذلك عن غير قصد وعن غير وعي وعن غير فهم ولا دراسة إخواننا من «العلمانيين الجاهليين بأصوليتهم»، ومما يبرهن أيضا على أن العلمانية كمطلب مرحلي تخدم إستراتيجية المهربين الدينيين هو أن مطلب العلمانيين من ذوي النية الحسنة على الرغم من أن ظاهره التقدمية والديمقراطية إلا أن باطنه عذاب وظلامه خادم للأصوليين وقبر للديمقراطية والتقدمية، فأين يلتقي العلمانيون والأصوليون؟ إنهم يلتقون في مطلب اقتلاع الشأن الديني وإمارة المؤمنين من يد جلالة الملك الممثل الأسمى للدولة، وحينما يقتلع تدبير الشأن الديني من يد أمير المؤمنين من سيتسلمه؟ إنهم الأصوليون طبعا، والذين يعدون العدة لذلك بالسيطرة على المنابر والمجالس العلمية وقنوات التدبير الديني، وبسيطرتهم على قنوات التدبير الديني أمام جهل العلمانيين بالأمور الدينية، وأمام نزع الشأن الديني من يد ملك البلاد يقومون بتجييش الناس، وتنفيذ الانقلاب الذي يعدون له بالسيطرة على الدولة، ولو عبر آليات ديمقراطية انتخابية بحيث يستغلون المكسب الديمقراطي الانتخابي ليسوقوا الناس الذين عملوا على تجييشهم بالدين إلى صناديق الاقتراع، وليوحوا للناس زورا وبهتانا وتدليسا بأنهم وصلوا إلى الحكم عبر الانتخابات التي لا يؤمنون بها أصلا. وهو ما وقع حرفيا في تركيا بحيث أن أكبر خطأ ارتكبه أتاتورك هو إلغاؤه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وبهذا استغل المتأسلمون هذا الفراغ الديني في تدبير الدولة، كما استفادوا من العلمانية التي أوصلتهم إلى الحكومة عبر الانتخابات. وحينها لم تجد الدولة ما يحمي العلمانية من الأصوليين بعد أن سرقوا من الدولة تدبير الشأن الديني وجيشوا به الجماهير التي أوصلتهم إلى الحكومة، ذلك أنهم بعد أن قرصنوا الدين وقضوا منه وطرا، يتربصون الآن بالعلمانية لاقتلاعها من الدولة والتي لا حامي لها إلا الجيش، إن مصيبة إخواننا العلمانيين الجاهلين بأصوليتهم أنهم يخوضون حربا على الرب في السياسة باسم الإنسانية وباسم البشر، ويتركون صراعات الأرض ليخوضوا حربا في السماء، وما هو الربح الذي يجنونه؟ إن ربحهم هو أنهم يمدون المتأسلمين الواعين بتخطيط لأصوليتهم بالوقود كلما سكتت محركاتهم، لتنطلق من جديد المحركات الأصولية ليخوضوا بها حربا باسم الرب وضد الانسانية والبشرية، وبناء عليه فإنهم يكسبون مكاسب مادية على الأرض باسم السماء، ويحصدون غنائم في الدنيا بعنوان الآخرة بوعي تام وبخريطة طريق مدروسة، ويا للمفارقة فإخواننا العلمانيون يضيعون مكاسب الأرض بمعارك في السماء ليسقطوا بذلك في المقالب الأصولية العظيمة، وبناء عليه نقول لإخواننا العلمانيين الجاهليين بأصوليتهم من ذوي النيات الحسنة: إن إمارة المؤمنين في المغرب هي الحامية للدين والديمقراطية من مخالب المهربين الدينيين، وهو ما سنوضحه بتفصيل في مقالاتنا اللاحقة.