(4) سبب التخلف هو الاستعمار الذي يجعل البلد المتخلف يستقر في تخلفه. فالاستقرار إذا عدو التقدم. رحم الله الرجل رحمة واسعة. نعم، الأمن و الأمان ضروريان في البلد المتخلف و في البلد المتقدم على حد سواء. ولكن إذا كان الاستقرار في البلد المتقدم شيء مطلوب لأنه استقرار في التقدم، فالاستقرار في البلد المتخلف ما هو سوى استقرار في التخلف و بالتالي فهو شيء غير إيجابي، إلى آخره... المهم أن الاستعمار هو سبب استقرار البلد المتخلف في تخلفه. حسنا. الاستعمار يعني أن بلدا متقدما يأتي بأطره لإدارة البلد المتخلف من أجل الرقي به إلى عالم "التحضر"، و بالمقابل يقوم المستعمر بسرقة الثروات الطبيعية التي يتوفر عليها البلد المتخلف. و أما فكرة الاستعمار فلقد تبلورت لما لاحظ البلد المتقدم أن البلد المتخلف يتوفر على ثروات طبيعية هائلة لا يعرف كيف يستغلها و لا يعرف لما تصلح أصلا، فاستعمر البلد المتقدم البلد المتخلف من أجل إدارته و الاستحواذ على خيراته، و علل المستعمر فعلته بفكرة أن سكان البلد المتخلف متخلفون و بالتالي فهم في حاجة لمن يحجر عليهم لأنهم لا يحسنون تسيير شؤون بلدهم. الحقيقة أن البلد المتخلف لم يكن ليكون متخلفا لولا تخلف نخبته النافذة. و لم يكن للبلد المتقدم أن يكون متقدما لولا أن نخبته المتقدمة هي التي سيطرت على مقود التسيير و التدبير في وقت محوري من أوقات التاريخ. هذا لا يعني أن في البلد المتقدم لم تكن هناك نخبة متخلفة، فلقد كان هناك صراع بين نخبة متقدمة و نخبة متخلفة أفضى إلى انتصار النخبة المتقدمة التي استحوذت على الحكم فتقدم البلد المتقدم بعد انهزام النخبة المتخلفة. حسنا. انتهى عهد الاستعمار المباشر و جاء عهد الاستعمار غير المباشر. و الاستعمار غير المباشر هو ذلك الاستعمار الذي يعمل على الحفاظ على مصالحه في البلد المتخلف عبر الأطر الأكثر تخلفا و الأقل وطنية في البلد المتخلف. و ما التخلف سوى تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة. و لهذا فالاستعمار غير المباشر يعمل على انتقاء الأشخاص التافهين الأنانيين الجبناء و يجعلهم يتبوءون المناصب الحساسة في إدارة البلد المتخلف. و من أجل حمايتهم، تمنح لهم جنسية البلد المتقدم الذي يستعمر البلد المتخلف بطريقة غير مباشرة، -أو ناعمة-، تجعل الأعمال القذرة -إن صح التعبير- التي يأمر المستعمر بتنفيذها ترتكب من طرف النخبة المتخلفة في البلد المتخلف، و هي نخبة يختار الاستعمار أعضاءها بعناية فائقة. فالقضية إذا قضية اختراق. المهم بالنسبة للمستعمر أن لا يتقدم البلد المتخلف، و أن يستقر في تخلفه، حتى يستمر في استغلال خيراته، و التخلف لا يمكن ضمانه سوى بحماية و مساندة النخبة المتخلفة في البلد المتخلف. ففي البلد المتخلف انهزمت الشعوب كما النخبة المتقدمة، و انتصرت النخبة المتخلفة كما انتصر الاستعمار. فهل يمكن، مثلا، لمتخلف يحمل جنسية المستعمر أن يدافع عن مصالح بلده المتخلف إذا كان يتقلد منصب رئيس دبلوماسية أو منصب سفير أو وزير...؟ لا بطبيعة الحال، لأن هذا هو هدف الاستعمار غير المباشر الذي لا يسمح بأن تصل النخبة المتقدمة النزيهة و المتوفرة على الكفاءة و الموهبة إلى مناصب المسؤولية في البلد المتخلف. فالمستعمر يمنح جنسيته للبشر المتخلف إما في إطار توفير الحماية للمسيرين الأكثر فسادا و إفسادا من ضمن النخبة المتخلفة في البلد المتخلف، أو لنزع طابع المصداقية عن كل نزيه يفضح الفساد، و في كلتا الحالتين ينتصر الفساد و الإفساد في البلد المتخلف و تلك مهمة الاستعمار غير المباشر. فلا عجب أن يحن البعض إلى عهد الاستعمار المباشر لأنه عهد يقال أن النزاهة كانت فيه ممكنة في الإدارات العمومية إلى حد ما، عكس عهد الاستعمار غير المباشر الذي لا يسمح أبدا بالنزاهة في كل الإدارات العمومية. أعداء الاستعمار هم الشرفاء النزهاء بطبيعة الحال، و لهذا يعمل الاستعمار على القضاء عليهم بشتى الوسائل. هناك فئة من الشرفاء النزهاء لا تغادر بلدها المتخلف فيأمر الاستعمار عملاءه بعزلها أو بتطويقها حتى لا يكون لصوتها أي صدى، و حتى لا تنتشر عدوى النزاهة في البلد المتخلف. و هناك فئة من النزهاء تغادر بلدها المتخلف فيعمل الاستعمار على احتوائها و تلطيخها بجنسيته، فينتهي أمرها بفقدانها لمصداقيتها، و بعد ذلك لا يجد النزهاء هؤلاء الملطخون بجنسية الاستعمار بديلا عن العمل تحت لواء الاستعمار بدورهم برتبة عملاء من نوع خاص. و بذلك يكون الاستعمار يسيّر كل شيء في البلد المتخلف من وراء ستار: الفساد المباشر عبر النخبة المتخلفة التي يجعلها تتقلد مناصب المسؤولية في البلد المتخلف، و الفساد غير المباشر عبر المعارضين الجدد الذين يطلبون اللجوء السياسي عند المستعمر ثم جنسية المستعمر بشروطه المعروفة، و بذلك تكون كل خيوط اللعبة بين أيادي المستعمر يستعملها حسب حاجته، فيسلط هذا على ذاك و العكس بالعكس، مما يمكنه من تطويع الجميع، معارضة و حكومة، انتصارا لمصالحه الاستعمارية الناعمة في البلد المتخلف. النخبة المتخلفة المتوفرة على جنسية المستعمر و التي تتقلد مناصب التسيير في البلد المتخلف تعمل لصالح الاستعمار و هذا شيء بديهي يعلمه الجميع، أما النزهاء الذين يتحولون إلى معارضين في المهجر و الذين يستجدون جنسية المستعمر، فهؤلاء لا مصداقية لهم و لا يمكنهم إلا أن يكونوا عملاء للاستعمار من أجل العيش. أما النزهاء الشرفاء المتواجدون في البلد المتخلف، الذين لا يلجؤون إلى المستعمر من أجل الحماية، فيعتبرون من أشرس المعارضين لأنهم يعارضون الرشوة و نهب و تبذير مال الشعب و لو احترموا قانون بلدهم المتخلف بمجمله، ولكن لا يمكنهم أن يغيروا أي شيء من واقع تخلف البلد المتخلف على المدى القريب جدا، لأن الإعلام الذي هو إعلام الاستعمار يعزلهم و يحول بينهم و بين الناس. أما المعارضين الذين فضلوا اللجوء السياسي عند المستعمر و الركوع له للحصول على جنسيته، فلا يمكنهم الانتصار سوى على ظهر دبابات المستعمر الذي يمكنه أن يقبل بأن يغير بعض عملائه بآخرين في البلد المتخلف لو فرضت الظروف ذلك. فالمعارضون في المهجر هم جيش العملاء الاحتياطيين الذين يحتفظ بهم المستعمر لضمان استمرار استعمار البلد المتخلف و استقرار التخلف فيه، في كل الأحوال و في كل الظروف. فهل هذا يعني أن لا غالب للاستعمار و لعملائه في البلد المتخلف؟ لا بتاتا. فهناك فاعل آخر لا يخطر على بال المستعمر المتعجرف و النخبة المتخلفة المنتصرة إلى حين... يتبع إذا ظهرت الفائدة إن شاء الله.