من أخطر ما يمكن أن يصيب العقل الجماعي لأمة ناهضة وتتوق لتكون في مصاف الدول الصاعدة، عدم وعي طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة ولا عنوان المرحلة التي تمر منها، وعدم القدرة على توصيف الواقع بشكل صحيح، والخطأ في ترتيب الأولويات المستحقة، وتوهم تحديات غير مطروحة وتهميش رهانات حاضرة واجبة المواجهة، وإهدار طاقات هائلة في مواطن غير ذات جدوى، والشح بإمكانيات لا مناص من رص صفوفها في الاتجاه القويم وتوجيهها باقتدار نحو المواجهة المستحقة. ونحن اليوم، مقبلون على ارتكاب خطأ جديد وسوء تقدير فادح للصراع مع التأخر وبقايا الاستبداد واستكمال استقلال الارادة والوطن والاختيارات، مما سيفوت علينا مجددا فرصة السير في الطريق الصحيح والالتحاق بركب الأمم التي أفلحت في الانعتاق من ربقة التخلف والانحطاط والالحاق، فليس ثمة أفدح ولا أكثر ضررا من أن نتوهم أننا في مواجهة تحد خارجي شامل فقط، في حين أن التحدي الرئيسي داخلي بالدرجة الأولى، ومن أن نتصور أن معركتها الراهنة مع بقايا الاستعمار، في حين أن الاستبداد والتحكم والتخلف التاريخي وشبكاته هو أساس البلية والأصل في أي ارتهان لارادات الاجنبي. استعادة الذكرى والرموز والتعاقد.. في معركة الاستقلال متجددة تحل في هذه الأيام ذكرى استقلال المغرب من قبضة الاستعمار المباشر، وهي مناسبة لاستعادة اليسير مما مضى، لتحيين العبر الواجب استخلاصها، خصوصا أن فهم ما يجري اليوم تكمن أسبابه الأولى فيما حدث بالأمس فجر الاستقلال. لقد استعاد المغرب استقلاله سنة 1956، بعد بضعة عقود ونيف من الاحتلالين الفرنسي والإسباني. وبعد أن استقرت بنى الدولة فيه على امتداد عهود متطاولة من حكم الملك الراحل محمد الخامس، والحسن الثاني، وما طبع تلك المراحل المتعاقبة من تموجات وتعرجات مرت بسنوات جمر ورصاص وصراع حول المشروعيات، لتنتهي الى بداية تأسيس انتقال ديمقراطي محجوز وتناوبا توافقيا معطوبا، الى انتقال سياسي للحكم في العهد الجديد للملكية الثانية على عهد محمد السادس، وبداية تدشين انعطاف جديد في تدبير الحكم والسلطة تجاوبا مع الحراك السياسي والانتفاضي في مطلع العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين، وعلى امتداد هذه المراحل كلها ساد فيها تحكم كثير من القادة السياسيين الزبناء للاستبداد والانتهازيين. إن قراءة وإعادة قراءة التاريخ أضحت ضرورة ملحة منذ مدة بالمغرب لفهم ما جرى وكيف ولماذا؟ وذلك لتحديد مكمن الداء وأصل الانحراف للتمكن من وعي الحاضر و التوجه نحو المستقبل بوثوق واصرار ووضوح، إذ لازال هذا الأمر ملحا باعتبار أن أجزاء هامة من تاريخنا المعاصر تعرضت للتشويه وطالها التزييف ونالت منها الأغاليط والأكاذيب وتخللها التزوير. الشيء الذي أضاع منا الإرادة الحرة والتفكير السليم لتحقيق آمال الاستقلال والانعتاق من براتين الاستعمار والقابلية للاستعمار. ولازال المغاربة يعيشون حرقة تصرفات هؤلاء، وبذلك ضيعوا على المغرب مواعيده مع التاريخ. إن الذاكرة الحية للشعب المغربي لن تنمحي والمصالحة الحقيقية أول ما تقتضيه، الاعتراف بالأخطاء والسعي الحثيث إلى الحد أو التقليل من انعكاساتها. سيما وأنها لازالت فاعلة على امتداد أكثر من 5 عقود خلت. وقد تخللت تاريخ المغرب المعاصر جرائم سياسية واقتصادية عدة، منها ما تجمعت فيها كل الشروط اللازمة لترقى إلى جرائم ضد الإنسانية. ومنبع كل هذه الانحرافات واحد، إنه تمكين الانتهازيين من مقاليد تدبير السلطة وتهميش قوى المقاومين الفعليين المناهضين للاستعمار والاستعمار الجديد منذ فجر الاستقلال حتى التناوب التوافقي، هنا تكمن عقدة المغرب التاريخية. وبذلك ظلت لوبيات عائلية – تناسلت بفعل إحداث روابط قرابة وغيرها بين انتهازيي فجر الاستقلال- تتحكم في كل شاردة وواردة في جهاز الدولة. قبل خمسين عاماً من اليوم، عاد الملك الراحل محمد الخامس وأفراد أسرته من منفاهم الاستعماري في مدغشقر الى وطنهم: المغرب. لم يكن أمراً عادياً أن يتعرض ملكٌ للنفي، وليس ذلك من المألوف في تاريخ الملوك. كان لا بد أن يكون من طينة أخرى ومعدن آخر حتى يَلْقَى من السلطات الاستعمارية ما لقيه وأصاب في الصميم الكرامة الوطنية للمغاربة جميعاً. وقطعاً لم يكن عادياً أن يعود منتصراً فيما الذين آذَوْهُ بالنفي كانوا يحزمون حقائبهم للرحيل عن بلدٍ جثموا على صدره ثلاثة وأربعين عاماً. وقبل ما يزيد عن بضع وخمسين عاماً من اليوم، وفي أجواء العودة، أعلن الملك عن انتهاء عهد الحجْر والوصاية وبداية عهد الاستقلال. وما كان أمراً عادياً أن يطوي المغرب سريعاً ملف الاستعمار فيه في بحر سنوات معدودات فاصلة بين توقيع عريضة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944) وعودة الملك من منفاه القسري. كان لا بد أن تكون معركة التحرر الوطني قد خيضت بكفاءة واقتدار وتوزعت أدوارها على جبهاتها المختلفة بقدر من التنظيم والإدارة محكم حتى تظفر بالنجاح. لا تدرك فرادة الملك محمد الخامس إلا بإدراك المنعطفات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب الحديث. فما كان صدفة أن اسمه ارتبط بأظهر تلك المنعطفات لأنه كان واحداً من صُنَّاعها: مباشرة أو من طريق غير مباشر. أهم تلك المنعطفات ثلاثة: العريضة، واندلاع المقاومة وجيش التحرير، والاستقلال. وفي كل واحدة منها، كان محمد بن يوسف (الخامس) حاضراً. لم تكن أهمية عريضة المطالبة بالاستقلال في أن قادة العمل الوطني ورموزه مهروها بتوقيعاتهم وأسمائهم متحدين السلطات الاستعمارية تحدِّياً جهيراً، فذلك من تحصيل الحاصل، لأن الموقّعين في جملة من أطلقوا الحركة الوطنية المغربية في صيغتها السياسية والتنظيمية الحديثة في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وكان أكثرهم عرضة للعقاب المبرّح: اعتقالاً أو نفياً، منذ تأسيس كتلة العمل الوطني، وبالتالي ينتمي تحرير العريضة وتوقيعها الى جدول أعمالهم الوطني اليومي على ما في إعلانها من جرأة مشهودة. كانت أهميتها بالأحرى على صعيدين: المبادرة برفعها الى الملك ثم التوافق بين الملك والحركة الوطنية على اعتبارها مطلباً وطنياً عاماً لكل الشعب. وإذ كان قرار رفعها الى الملك مما يدل على ثقة الحركة الوطنية بدوره الوطني في مواجهة الاستعمار (وليس فقط لأنه عنوان السيادة ورموزها)، فإن استقبال الملك للوثيقة بالرضا والقبول، وإسباغه الشرعية الرسمية عليها، وتحالفه مع الحركة الوطنية من أجل تحقيق أهدافها، هو ما أدخل العريضة في باب التاريخ السياسي وقدّم لها إمكانية غنية للتحقق. إذ قطع الطريق بخطوته على استفراد الاستعمار بالحركة الوطنية وعزله إياها، ليجد نفسه فجأة أمام حلف متماسك بينها وبين الملك. وتلك كانت لبنة أولى في صرح معركة انتهت بانسحاب المحتل ونيْل الاستقلال الوطني. وما كان صدفة أن تقترن انطلاقة المقاومة الوطنية المسلحة وجيش التحرير بإقدام السلطات الاستعمارية على نفي محمد الخامس. ففعل النفي، كما اعتقال قيادة الحركة الوطنية، إنما آذَنَ بنهاية مرحلة النضال السياسي والدبلوماسي من أجل الاستقلال، وفرض الكفاح المسلح طريقاً وسبيلاً لتحصيل ما لم يُرِد الاستعمار التسليم به سياسياً. كما لم يكن صدفة أن يقترن الإعلان عن استقلال المغرب بعودة الملك من منفاه. فالذي عاد، ليس مجرد ملك من الملوك يمكن العثور على غيره إذا كان ذلك ثمناً للاستقلال، وإنما هو رمز الشرعية السياسية للدولة واستمرارية الامة والسيادة والرجل الذي ناضل من أجل استقلال وطنه، ولم يساوم على موقفه، ولا على علاقته بالحركة الوطنية، تحت أي ظرف، وآثَرَ أن يدفع غرامة ذلك من نفسه وسلطانه على أن يتنازل عن مبادئه. فاوض الوطنيون المغاربة الفرنسيين كما فاوضهم رجال المخزن وبعض الخونة في أمر استقلال البلاد. لكن أحداً لم يكن يملك أن يعلن ذلك الاستقلال غير محمد الخامس. وللحقيقة والتاريخ، حاول المفاوض الفرنسي في "إيكس ليبان" إغراء وفد الحركة الوطنية بالتحلُّل من العلاقة بالملك محمد الخامس وبحث مستقبل المغرب بمعزل عن مصير الملك، لكن قادة المرحلة وفي طليعتهم الراحلين المهدي بن بركة وعبدالرحيم بوعبيد وغيرهم تمسَّكوا بعودة الملك من المنفى شرطاً للتفاهم مع فرنسا حول مستقبل المغرب. وكان ذلك منهم وفاءً لمواقف محمد الخامس الوطنية. كسب المغرب معركة الاستقلال الوطني في فترة قياسية سريعة بين العام 1944 والعام 1955 (ولو أن الاحتلال يعود الى العام 1912)، حين اهتدى الى صيغة التحالف العضوي بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية بمضمونها التحرري. نجحت الحركة الوطنية في كسب ثقة محمد الخامس بها وعطفه عليها، وفشل الاستعمار الفرنسي في دق الأسافين أو الإيقاع بينهما، وقادهُ يأسه الى الإقدام على نفي الملك الى خارج الوطن والتنكيل بقادة الحركة الوطنية ومناضليها والزجّ بهم في السجون. ثم ما لبث الاحتلال الفرنسي أن أدرك مقدار ما يتمتع به محمد الخامس من شرعية شعبية رفعته في المخيال الجمعي الى مرتبة الأسطورة، والمكانة الاعتبارية الرفيعة التي كان يحظى بها عند الوطنيين: الذين حملوا منهم السلاح ثأراً له ودفاعاً عن الوطن، أو الذين فاوضوا الاحتلال ولم يساوموا على عودة الملك. وتلك كانت بداية النهاية لحقبة الاحتلال الأجنبي المباشر للمغرب. لكن القدر ما أمهل الملك محمد الخامس طويلاً، فقد رحل الى دار البقاء ولمَّا يتجاوز الواحدة والخمسين. ومن المؤسف أن المغرب أضاع أزيد من ثلث قرن بعد وفاة محمد الخامس ليكتشف أن لا بديل له من السير في الطريق نفسها الذي شقَّها هذا الرجل الكبير من خلال مفهومه للسلطة كإدارة رحيمة لمصالح الشعب، ومن خلال علاقة التوافق التي أقامها مع الحركة الوطنية في معركة التحرر الوطني وفي معركة بناء دولة ما بعد الاستقلال. وإذ احتفل المغرب بما يليق بذكرى عودة محمد الخامس وبذكرى استقلال البلاد، فإن الاحتفال الحقيقي الأكبر باللحظتين التاريخيتين هو استكمال المشروع السياسي الديمقراطي الوفاقي الذي ابتدأ مع محمد الخامس، ووافته المنية قبل إنجاز كثير من حلقاته، واستكمال أهداف الاستقلال الوطني والتحرر الوطني والبناء الوطني التي تعرضت لنكسة سياسية بعد إعفاء حكومة المرحوم عبدالله إبراهيم من مهامها وإخراج الحركة الوطنية من دفة السلطة. وفي قلب ما ينبغي استكمال إنجازه من مهمات كبرى في مشروع محمد الخامس وروافد الحركة الوطنية المتجددة، وفي فكرة الاستقلال، أهداف ثلاثة رئيسة: -استعادة ما تبقَّى مغتصباً من أراضي الوطن وتثبيت السيادة المغربية على مناطقنا الصحراوية المسترجعة في اطار اقرار الحكم الذاتي، – ثم استكمال عملية التنمية السياسية الديمقراطية من خلال إصلاحات سياسية ودستورية مؤسساتية عميقة وجوهرية تفضي الى بناء مؤسسات صلبة حقيقية ذات صدقية تمثيلية من خلال استكمال البناء المؤسساتي بحسم مسألة النزاهة الانتخابية، وتكريس دولة الحريات والقانون والديمقراطية، – وأخيراً استكمال عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية الشاملة لإخراج المجتمع من حال التأخر والتخلف وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً يضع حداً للهَدْر والفساد وللفوارق الفاحشة بين الطبقات والفئات والجهات، بوضع البلاد على سكة العدالة الاجتماعية. هي أهداف ثلاثة إذن : التحرير، الديمقراطية، التنمية والعدالة الاجتماعية، دشنتها دولة الاستقلال بقيادة محمد الخامس، ثم أصابها ما أصابها فتعثَّرت أو أخِذَت بالتقسيط والانتقاء والانهاك أو التأجيل أو محاولات الهيمنة الشاملة على المجتمع واجهاض آماله. أما الدرس البليغ الذي يمكن أن تقدّمه سيرة الاستقلال الوطني من خلال استرجاع سيرة الملك الراحل محمد الخامس في مضمار النضال، اليوم، من أجل استكمال إنجاز تلك الأهداف الكبرى، فهو أن الرافعة التاريخية والسياسية لذلك النضال، وأداته النافذة، اليوم وفي المستقبل، هي استدعاء واستكمال مسلسل التوافق السياسي بين ارادة الفريقين اللذين صنعا تجربة الاستقلال الوطني وبناء أسس الدولة المغربية الحديثة : المؤسسة الملكية والحركة الوطنية ومكونات عائلتها الوطنية والاسلامية و الديمقراطية. وما نراه اليوم من مسار متجدد للتوافق السياسي حول مهام الاصلاح الوطني، يتجسد ويتشخص في تجربة الانتقال الديمقراطي الجديدة بقيادة العدالة والتنمية، وإنه أعظم وفاء للملك الكبير محمد الخامس، وللعلم الكبير الذي بدأ بنيْل الاستقلال الوطني. في العبرة من الذكرى، للأجيال متسع لبناء المستقبل.. في تلك الأيام مثل هذه الايام، كانت بداية الإستقلال السياسي للوطن هي عينها بداية العهد الوطني في البناء والتنمية.. و تمت مغادرة أقدام الإستعمار القذرة لأرض المغرب الحبيب، وتم فك الارتهان، لكن تأخرت مسيرة البناء الديمقراطي وتشييد نمط للتنمية مستقل ومستجيب للعدالة والكرامة والحرية والعيش الرغيد، على الرغم من تغير أجساد المستعمرين وفيالقهم وجيوشهم و قواتهم وبزاتهم العسكرية، لكن بقيت أشكالهم وأخلاقهم وقيمهم وأتباعهم متوارثة جيلا بعد جيل، ولبسوا البدلات و ربطات العنق، و بقيت نفس الروح الاستعمارية تسكن كثيرا من هذه الأجساد البيرقراطية و النخبوية من الاسياد المتصدرين للشأن العام الا ما نذر، ولا زال الوطن يقاوم ثقافيا وسياسيا اختياراتهم. نعم نحن في المغرب، تخلصنا من الإستعمار المباشر قبل متم العام 1956، واحتفلنا و لا زلنا بزوال هؤلاء الغرباء عن جزء من قارة أفريقيا السمراء، بفضل النساء اللواتي قمن بإنجاب و تربية الرجال الذين قادوا مسيرة الإستقلال المظفرة، لكن بقيت المعاني والمباني. وبالرغم من ذلك شهد التاريخ، ولازالت كتب السير والحركة الوطنية المجيدة والوثائق و الرسومات والرجالات البطولات الشاخصة تذكرنا بتقليب صفحاتها لرجال المقاومة والفداء الأوائل. كان هذا هو الإستقلال الهيكلي و ربما النفسي، وضربة البداية لاستقلالات أخرى لم تسهم فيها كثير من الحكومات المتعاقبة بالشئ الذي يستحق الذكر و التمجيد و الرفعة للأسف، مثلما فعلت على عهدها حكومة عبد الله ابراهيم رحمة الله عليه. ورغم النهضة الواضحة في حال البلاد و العباد في مغرب ما بعد الاستقلال، فلا زلنا –حتى يومنا هذا- نبحث عن استكمال الإستقلال الإقتصادي في بلادنا واتمام الوحدة الترابية والوطنية وحمايتهما من التشظي وارادات التفكيك، وقامت بعض من النخب السياسية في سالف الاوقات الإنقاذ بإطلاق شرارة هذا المعنى من الاستقلال، ولا زلنا ننتظر اليوم الذي يوصلنا الاستقلال في الارادة الاقتصادية والسياسية الى رفع شعار (فلنأكل مما نزرع و لنلبس مما نصنع) ، وطالما كنا نأكل ونلبس من صنع الآخرين ولا زلنا- ليس رفاهية – ولكن رغما عنا و لعدم وجود المنتج المغربي المنافس القادر على إرضائنا بجودة عالية، فنحن بهذا الاعتبار لا زلنا مستعمرين منهم.. مزقنا فاتورة التبعية البليدة الخاملة ولم يمزقها غيرنا، ولكن كبرائنا أعادوها مرة أخرى في سياسة تابعة وملحقة بمنطق تقسيم العمل الدولي ، في انتظار تمزيقها ومقاومتها مرة جديدة كي تتواصل مسيرة الإستقلال.. و قد كنا حتى نهاية الثمانينات لا نعرف للإقتصاد سوى مشاريع معدودة في أصابع اليد، في نسيج و زيوت وزيتون وبعض بواكر وقمح، وكنا لا نعرف لميزانية الاقتصاد سوى إرسال المراسيل لبلدان غيرنا استجداءا للمعونة، وحين كنا نشتري كل دوائنا من الدول الأخرى، هذا إذا توفر المال المقترض أيام الشظف و قلة الكفاءة المالية والقدرة الاقتصادية، أما إذا لم يتوفر فكانت المعونات و الإغاثة تنتظر وفودنا وسفراءنا لمد اليد السفلى لأسيادنا خارج الحدود، وكانت منظمات العون بواجهاتها الإنسانية تنتظر بفارغ الصبر تكرار بؤسنا والتي نتجت عن سياسات سابقة، حتى تلج ولو من سم الخياط لتعطي الدواء والقيم وتشربنا الذل والهوان، وإن أجدادنا أشرف من تلك الإستجداءات التي جلبها لنا السادة والكبراء لحظتها. وإذا كنا ننتظر عطايا القمح و المؤونة والمعونة لنأكل فنحن بعيدون جدا عن الإستقلال، وإن من لديه شك أو تآكلت ذاكرته ، فليراجع الصحافة المغربية في الفترة السابقة على عقد التسعينيات من القرن المنقضي ليرى فيها العجب العجاب، وسيحمد الله سرا على ما صار إليه الحال في بلدنا، وإن اغتر و كابر جهرا.. فله العذر، فلا يمكن لأي متابع للمعارضة اللفظية الحالية أن يتواضع و يعترف بالتقدم المطرد الذي حدث منذ بداية التناوب التوافقي وحتى الان، وإلا فما جدوى معارضته أساسا ؟ وما هي الأسس التي يرتكز عليها في استقطاب المريدين والمشايعين ؟ وكيف نقول أننا نلنا استقلالنا بعد ذلك ؟ لقد خطونا خطوة كبيرة نحو الإستقلال الشامل، بعد أن تم التقدم في تعميم التعليم في أرجاء البلاد، تيسيرا للعائلات التي لا تستطيع السفر للمركز أو إرسال أبنائها و بناتها لخارج البلاد، وذلك باستثناء البحث العلمي الذي لا زال متخلفا لدينا مثل أغلب الدول العربية، وبات تحصيل العلم في المغرب أمرا يسيرا للجميع، ولا حاجة ماسة لعناء إرسال أبنائنا للخارج لاستكمال الدراسات الاساسية، وبارتفاع المستوى الثقافي و الوعي العام بين الأبناء، أما في السياسة، فحدث ولا حرج عن ذلك، أين نحن الآن من تلك العهود التي كنا لا نستطيع اتخاذ قرارنا السياسي فيها إلا بالرجوع للمرجعية الدولية، وباستصحاب رضا كبرائها من الفرنسيين و الأمريكان بحسب تحالفات المرحلة وتقلبات الهوى السياسي على مستوى النخب والقادة، ولم نكن نستطيع إلقاء خطاب قوي وواثق متقدم مثل الخطابات الاخيرة المستنيرة في المواقف الحالكة والصعبة.. ورغم أن الزعماء الخالدين في ذاكرة الحركة الوطنية قاموا بتسلم الراية من المستعمرين و إهدائها للوطن، قام الذين جاءوا بعدهم بالنكوص حتى آخر الثمانينات، وقاموا بتسليم القرار السياسي للدول الأقوى سياسيا و الأنفع لهم اقتصاديا، وبقي الشعب ينتظر خطابات الراديكالية اللفظية، لتشرح له الأمور بصورة تذهب بعقله الجمعي إلى غياهب الجب، لا تحس معها بالتواصل الوجداني بين الحاكم و المحكوم كما نرى الآن في مجمل الاداء السياسي للقيادة السياسية.. ومن يريد أن يعرف حال السياسة الداخلية حين كان النواب يغيبون عن المؤسسة التشريعية، استهتارا بها و بالديمقراطية و بالشعب و بالوطن، فليراجع خطابات قادة المعارضة آنذاك فيها، حيث كان وجودهم وقتها يغطي على غياب بقية الأعضاء، حين كان يعترف بوجود الفساد و المحسوبية، ويواصل متن الخطاب بالتأكيد على وصف الحكومات المدبرة للشأن العام آنذاك بأنها كالمريض الجبان الذي يخفي مرضه ويخاف الاطلاع عليه! إنما هي صفحات في تاريخ الوطن السياسي والاقتصادي و الأمني والثقافي، على الناس أن يتذكروها. وقد تم الإستقلال السياسي، حين أعلنا أننا نريد أن نبني دولتنا المستقلة الوطنية الديمقراطية، بأفكارنا و بسواعدنا وبتخطيطنا الذي يناسب هويتنا الوطنية بانفتاحها وتجذرها ورسوخها. نلنا استقلالنا السياسي حين خرجنا عن بيت الطاعة، ورفضنا إملاء السياسات الفرنسية والأمريكية و الأوروبية علينا، و صمدنا حتى أصبحت كثير من دول العالم العربي تنظر إلينا كمثال يمكنهم أن يحاكوه، نلنا استقلالنا السياسي الحقيقي حين تمت عملية اقرار الحكم الذاتي والجهوية الموسعة كبناء ديمقراطي دون حاجة للارتهان للمحافل الدولية، والتي تحاول بعض القوى داخلها-اقليمية ودولية-جاهدة إعادتنا لبيت الطاعة السياسي الاستعماري وجرها لمنطقها في ادارة الصراع وتأبيد النزاع حول قضيتنا الوحدوية العادلة. حصلنا على استقلالنا السياسي حين رسمنا سياستنا التي لا تتوافق أو تنصاع مع القوى الدولية والمحاور الاقليمية من الذين يمتلكون خيوط اللعبة الدولية، والتي ليس شرطا أن ترضخ لرغبات و سياسات أشقائنا حاكمي دول الجوار وخصوصا في الجزائر، والتي تنبع من تهديد جدي لمصالحنا الوطنية الاستراتيجية. فلو كانت الحركة الوطنية المتحالفة مع الملكية على عهد محمد الخامس رحمه الله وجيش التحرير والمقاومة المناضلة، ذلك التحالف الذي قاد هذا الإستقلال السياسي الحقيقي، لو كانوا يفكرون في أنفسهم فقط وفي مصلحة قادتهم فقط، لارتضوا بالتكتيك أن يعيشوا الدور الواهن، وأن يكونوا عملاء بلا حسيب للغرب ويكسبوا الثمن، أو لارتضوا أن يدوروا في فلك الدول الكبرى الاستعمارية طوعا واختيارا لكن بذل وهوان، ولو كان الرجال الذين جلبوا لنا الإستقلال السياسي لا يهمهم سوى مصلحتهم الشخصية و أنفسهم، لاختاروا التحالفات التكتيكية ذات الربح السريع، وما كان سيتم حصارهم و محاربتهم إعلاميا و نفسيا و عسكريا و اقتصاديا و سياسيا ، لكن الرجال الذين يفكرون لما بعد ذهابهم من الدنيا من رجالات الاصلاح العميق للوطن وأعطابه المزمنة، هم من يخططون للسنوات والاجيال القادمة تتجاوز أعمارهم الافتراضية، انهم اختاروا نهج أن يخططوا للأجيال القادمة، وكي تعرف الأجيال التي سترث المغرب بعد سنين أو عقود أن رموز الاصلاحية الوطنية لم تتوقف ولم تمت بذهابهم وعبورهم، ولكن ها هو عهد الإستقلال يتجدد فينا اليوم وغدا، بهؤلاء الذين يجسدون امتدادا للوطنية الواعية الراشدة في التاريخ. إن الإستقلال ليس قطعة ثوب مطرزة وملونة يتم تسلمها وتعليقها على السواري والمؤسسات والمباني الرسمية، وليس الإستقلال هو خروج العسكر الغازي عن أراضي المغرب وعقاراته فقط، ورجوعهم لقواعدهم ودولهم لإرسال الأوامر عبر وسائل الإعلام والثقافة و السفراء والمنظمات والنخب والوكلاء، وليس الإستقلال هو أن نذهب للدول التي استعمرتنا لنستجدي منهم المال و الغذاء و السلاح والخبرة والقدرة والارادة والعلم الذي ندافع به عن استقلال وكرامة بلدنا وساكنيه، إنما الإستقلال الحقيقي و الذي بدأه الوطنيون الاحرار الذين كانوا يزرعون الوعي المقاوم خفية وسط شرائح المجتمع البسيط و المثقف مثل أقرانهم في كل الدول المستعمَرة المماثلة، وكل من أسهم في مسيرة البناء الديمقراطي، وفي تجديد الحركة الوطنية وغادر الدنيا ممن علمناهم أو أخفاهم عنا التاريخ والتوثيق، ثم قام بتفعيله مجددا في العهد الحديث، حملة اللواء الجديد من القادة الوطنيون المخلصون الجدد وغيرهم من صناديد المشروع الحضاري للامة المغربية، الذي يعلو و يهبط كموج الإيمان بالقضية. إن الإستقلال هو التفرد بالقرار في إطار الوطن وعدم الارتهان، هو أن نستجيب للمتغيرات دون أن نتغير نحن، وأن نضع الدول الأخرى في الحسبان دون أن نستخدم أجندتهم، ولا أن نكون طوع بنانهم، وألا نستجيب لعصاهم ولا نأكل جزرتهم، وإنما الإستقلال الحقيقي والذي هو مسيرة بدأت ثم خمدت ثم رجعت وتجددت، هو عندما يكون لنا عصانا، ولنا جزرتنا. ولنا كلمتنا التي يسمعها العالم، حينها يكون لنا استقلالنا، فيصبح وقتها لهذه القصيدة مغزى صادق ولهذه الأغنية معنى حقيقي، غير الطرب و اللهو، ويحق لنا الغناء سويا بفخر: أنا مغربي أنا وأفتخر..