الجهاد الأكبر عندما حصل المغرب على استقلاله وعاد جلالة المغفور له محمد الخامس إلى أرض الوطن بعد تجربة المنفى، كانت أول جملة تخرج من فمه هي "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، وكانت هذه العبارة نبراسا للمغرب السياسي من أجل البناء. فمعركة الإعمار والديمقراطية أصعب من كل المعارك إن لم تكن هي أم المعارك. وها هي الشعوب تقف عند هذه الحكمة. حيث اكتشف المصريون والتونسيون والليبيون أن إسقاط الدول مسألة سهلة لكن بناؤها شبيه بالمستحيل. وقد تفطن محمد الخامس لهذه القضية باكرا، لأن معركة تحرير الوطن هي معركة الوحدة لأن العدو معروف، لكن معركة البناء تعتريها العراقيل والخلافات والصراعات لأن العدو غير واضح. وكان يحاول ضبط الحماس الجماهيري وليس استغلاله، ضبطه على أساس نهاية مرحلة وبداية أخرى، نهاية مرحلة التحرير وبداية مرحلة البناء. مر اليوم أكثر من نصف قرن على حصول المغرب على الاستقلال، بعد معركة المغاربة ضد المستعمر، في إطار ثورة مشتركة بين مكونات الشعب المغربي وأدوات الدفاع الشعبي وبين المؤسسة الملكية التي يمكن تلخيصها في ثورة الملك والشعب، وكشف التاريخ أن اللقاء بين الطرفين يؤدي إلى نتائج إيجابية والخصام بينهما لا يأتي إلا بالكوارث، وهذا ما تفطن له المرحوم محمد الخامس وبعض قادة الحركة الوطنية. ففلسفة الاستقلال كما أرادها الملك الراحل محمد الخامس تتعارض مع الحماسة الزائدة والنشوة القاتلة. أي أنه ليس لدينا الوقت لنقضيه في الاحتفالات بخروج المستعمر، والزمن لا يسعفنا لأن المعركة كبيرة وكبيرة جدا. ومقارنة المغرب لحظة الاستقلال بالمغرب حاليا، مغرب الماضي ومغرب الحاضر، نرى بوضوح مدى نجاح فلسفة الجهاد الأكبر، حيث تجلت في بناء مؤسسات الدولة، وبناء نواة صلبة للدولة، وتأسيس الدوائر التي تشرف على أمن واستقرار المغرب، وتأسيس الاقتصاد الوطني ودعم أسسه وتشجيع الاستثمار المغربي مرورا بمغربة الإدارة وطرد بقايا الاستعمار ونزع أراضي المعمرين. يوم خرج المستعمر ترك البلاد مقطعة الأوصال، حيث رسم خارطتها وفق هواه ووفق مصالحه، ولم يكن يهتم بالبناء إلا بقدر ما يجني من مصالح، لأن المحتل كان يعرف أنه سيأتي يوم من الأيام ليخرج من المغرب وبالتالي كان همه أن يشيد البنيات التي تهمه كمستعمر وتلبي رغبته، ولم يكن مهتما بمغرب المستقبل. ورغم الصراعات التي دارت حول بناء الدولة الحديثة بين المؤسسة الملكية والأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية، وبغض النظر عن خلفيات هذا الصراع، فإن المغرب خرج من هذه المعركة، سواء كانت حقا أو باطلا، بدولة قوية وبمؤسسات قادرة على المنافسة وخاضعة للمعايير الدولية، وتمكن من بناء اقتصاد وطني قادر على الصمود في وقت الأزمات. فمعركة النزول والصعود هي المسيرة الحقيقية للاستقلال وهي الجهاد الأكبر، وخلاصتها وثمرتها اليوم هي الوثيقة الدستورية التي جعلت من الخيار الديمقراطي ثابتا من الثوابت.