تحلّ اليوم الذكرى الثامنة والخمسون لثورة الملك والشعب، والمغرب على عتبة مرحلة ديمقراطية جديدة، تنفتح فيها الآفاق لإرساء القواعد للدولة الديمقراطية الحديثة، في إطار الملكية الدستورية الديمقراطية البرلمانية، استناداً إلى دستور جديد يؤسس لنظام سياسي مستقر، يمارس فيه الشعب حقوقه الوطنية كاملة غير منقوصة، في إدارة شؤون البلاد، وفي النهوض بها نحو مستويات أرقى من التقدم والرقي والازدهار في شتى المجالات. لقد كانت ثورة الملك والشعب التي انطلقت شرارتها يوم 20 غشت سنة 1953، ملحمة عظيمة من ملاحم هذا الوطن، لم تنته فصولها بعودة الملك محمد الخامس من المنفى يوم 16 نوفمبر سنة 1955، وإنما امتدت وتواصلت عبر المراحل المتعاقبة في عهد الملك محمد الخامس بعد الاستقلال، وفي عهد الملك الحسن الثاني باني الدولة العصرية ومحرر الصحراء المغربية، وفي عهد جلالة الملك محمد السادس الذي جدّد الدولة، ونفخ فيها روحاً قوية وثابة، وفتح أمامها آفاقا واسعة للنماء وللبناء في مختلف القطاعات، ووضعها على السكة للانطلاق نحو المستقبل الآمن المزدهر المستقر. فلم تكن ثورة الملك والشعب حدثاً تاريخياً انتهى وانقضى بانتهاء الظروف التي وقع فيها، وبانقضاء الأسباب والعوامل والدوافع التي تفاعلت فيه، ولكنها ثورة وطنية يخوض العرش والشعب غمارها، لأنها بمثابة الجهاد الأكبر من أجل حياة راقية للمواطنين جميعاً، يَتَسَاوى فيها الجميع أمام القانون، ويستظلون بمظلته، وتتوفر لهم دون استثناء، الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وفرص التقدم نحو الأمام في ظل الحريات الأساسية والحقوق المتساوية. لقد كانت العبارة البليغة الحكيمة التي أطلقها الملك محمد الخامس في الخطاب التاريخي الذي ألقاه يوم 18 نوفمبر سنة 1955، بعد ثلاثة أيام من عودته الى الوطن (عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، معبرة بقوة، عن رسالة ثورة الملك والشعب التي تساير التطور الذي يعرفه المغرب، وتواكب المتغيرات المتتالية التي يعيشها الشعب المغربي، متأثراً بما يجري في العالم من تحولات عميقة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية والإعلامية والثقافية والمعلوماتية. ذلك أن رسالة الثورة الملكية الشعبية، التي هي من مظاهر الاستثناء المغربي، رسالة خالدة في وجدان الشعب المغربي، تدفع به إلى خوض المعارك الوطنية على مختلف الجبهات، بقيادة العرش، وفي ظل الإجماع الوطني على الأهداف الاستراتيجية وعلى المصالح العليا للوطن. إن الاحتفال بالذكرى السنوية لثورة الملك والشعب ينطوي على دلالات عميقة تتجلى في التواصل التاريخي والترابط المحكم بين حلقات الكفاح الوطني من أجل عزة الوطن وكرامة المواطنين. فليس هذا الاحتفال مجرد التغني بأمجاد الماضي، وإن كان من حق كل مواطن أن يتغنى بأمجاد الوطن التاريخية، ولكنه مناسبة لاستمداد الدروس واستلهام العبر لبناء الحاضر ولصنع المستقبل. ففي إحياء هذه الذكرى الوطنية التاريخية، قوة للنفس للتغلب على المعوقات التي تعترض الطريق نحو ترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات النزيهة ذات المصداقية، وقوة للفكر الوطني للإبداع والاجتهاد في تطوير العمل الوطني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتشريعياً، على النحو الذي يحقق الأهداف الوطنية، ويلبي تطلعات الشعب نحو الحياة الكريمة التي تليق بالإنسان المغربي، وبذلك يكون الاحتفال بذكرى ثورة الملك والشعب احتفالاً واقعياً موضوعياً، لا احتفالاً خيالياً ذاتياً، يشارك فيه الملك والشعب في تلاحم هو جوهرُ العلاقة بين العرش والشعب، وثمرة الارتباط التاريخي الذي لا انفصام له. وتحل الذكرى الثامنة والخمسون لثورة الملك والشعب، والمغرب منغمر في معركة سياسية وطنية ديمقراطية يخوضها بدستور جديد، هو عنوانُ المرحلة الجديدة من ثورة الملك والشعب التي لا تخمد لها جذوة، ولا تنطفئ لها شعلة، ولاينضب لها معين العطاء الخلاق الذي يصنع التقدم ويصوغ الحضارة.