أعددت تقريرا لصالح هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي عن قضية انتحار الطفلة مريم ذات الخمسة عشر عاما، بسبب تعرضها للحكَرة من قبل الدولة والمجتمع، كما حكى لي والدها؛ الذي يقول إنها واجهت معه عنف السلطات، وإهانة زملائها في الدراسة، الذين يعيرونها بالحي الصفيحي (الكاريان) الذي تنتمي إليه.. تأثرت لقصة الوالد وانتحار مريم، وكانت القصة الخبرية تدور حول الإقصاء والتهميش الذي تتعرض له فئات واسعة من المجتمع، تعيش وسط أكواخ كأنها كهوف تحيط بها الأزبال والقاذورات من كل جانب، فئات لا تجد سبيلا إلى عمل ولا إلى عيش تحترم فيه كرامة الإنسان في أبسط مظاهرها تحدثت عن التفاوت الطبقي، وعن الهوة التي تتسع كل يوم بين الأغنياء والفقراء في المغرب، حيث تجد إلى جانب الحي الذي يعيش فيه أناس كالجرذان، أفخم الفنادق والمحلات، هناك يمكن أن يدفع أحدهم مقابل قنينتي خمر، ما يقابل سعر شقتين، كما جاء في فاتورة تداولها في الآونة الأخيرة رواد مواقع التواصل الاجتماعي.. لكن هذه المعالجة لم تشف غليلي في الموضوع، انتهيت من العمل ولا زالت في حلقي غصة، غصة جريمة لا تقل عن "حكَرة" رجال السلطة لمريم وأسرتها، ولا عن إهانة رفاقها لها حين كانوا ينعتونها ببنت الكاريان.. إنها جريمة والدها، جريمة الوالد الذي أقحمها عن وعي غالبا، أو ربما عن غير وعي في الأحداث المأساوية اليومية التي كان يعيشها، حين اصطحبها معه لتعمل في الدكان العشوائي، وتواجه معه حملات رجال السلطة وإهاناتهم.. كثيرون تربوا في الكاريانات ولم ينتحروا، بل نجحوا في دراستهم وحصلوا على وظائف استطاعوا من خلالها أن ينتشلوا أسرهم من براثن الفقر، لكن الجرعة الزائدة (الأوفر دوز) التي تلقتها مريم، زيادة عن الوضع الهش الذي تعيشه، هي إشراكها في هموم أكبر من سنها، بينما كان يفترض أن تعيش طفولتها ببراءة الصغار ولامبالاتهم، وبعدها تستمر الحياة، كما استمرت حياة إخوانها الأكبر سنا.. هنا أستحضر نموذج أختها ذات الواحد والعشرين ربيعا، التي تتابع دراستها الجامعية بشعبة الكيمياء، عندما اقترح علي والدها محاورتها، تحدثت جملتين ثم راحت تضحك، رغم أنه لم يمض على انتحار أختها سوى أيام، متعللة بأنها لا تعرف ما تقول، ربما كانت ساخرة من والدها الذي يريد إقحامها عنوة أيضا في القضية، وقد كان ينهرها كي تكمل الحديث إلى الإذاعة.. هنا تظهر جريمة الوالد مرة أخرى؛ وهو يستغل انتحار ابنته في الخامسة عشرة من عمرها، ويصيح "عاش الملك" بمناسبة ودون مناسبة خلال الحوار، كي يحسن وضعيته ويكسب من روح فلذة كبده ودمها.. إنه الركوب على المآسي، الذي ينخر المجتمع من سياسييه إلى أدنى طبقات الشعب، لا فرق بين رئيس الحكومة حين يطير لحضور جنازة طالب مقرب من حزبه، قتل في مواجهات بين الفصائل الطلابية، وأب يرفع عقيرته بالصراخ في وسائل الإعلام، متحدثا عن انتحار ابنته بسبب حرمانه من حقه في السكن الاجتماعي، بينما كان هو من قتلها حين أخرجها معه لمواجهة "الحكَرة"، بدل أن يتركها لتكتب على كراستها تفاؤلا، عوض خواطر الانتحار!! - صحافي، مراسل إذاعة بي بي سي عربية