اختلط دخان حافلات النقل الحضري وسيارات الأجرة الكبيرة مع نداءات السائقين إلى وجهاتهم، لكن فاطمة التي كانت تحمل كيسا بلاستيكيا وظلت جالسة بجانب الرصيف المحاذي لأحد مقاهي البرانس وسط الدارالبيضاء.. الحركة النشيطة للمارة من كافة الاتجاهات أجبرت فاطمة على الانتقال من مكانها وافتراش الأرض مع طفل آخر يكبرها سنا، يحاول جاهدا إشعال سيجارة لكن دون جدوى.. بدأ يشم بين حين وآخر لفافة الكيس الأسود في يده لترتخي أنفاسه نتيجة قوة المخدر، وترتسم على وجهه ابتسامة شاحبة أثارت انتباه إحدى الشابات وصديقتها التي مرت من جانبه دون أن تفارق نظراتها الفضولية محيا الطفل، لتهمس إلى زميلتها وهي تطلب منها أن تلقي نظرة على عمر الذي بدا منتشيا وبدأ ينطق بكلمات غير مفهومة وهو جالس على جانب الرصيف.. بعيدا عن الأسرة رغم أنها تبلغ من العمر 14 سنة إلا أن ملامحها وقامتها القصيرة لا توحيان بذلك. بعد أن بدأت تستعيد وعيها بما يدور حولها، تفحصت بكسل جيبها الممزق وأخرجت منه قطعة ثوب أسود بال ومررتها على أنفها، بدت بعدها عيناها شبه غائبتين عن الوعي لثوان معدودة لتسقط منها سيجارة صديقها دون أن تكترث لذلك. تتذكر هذه المراهقة سنوات المدرسة بدوار العطور بحي كاليفورنيا، تناقض الحياة الذي جعلها تلتقي بأطفال في مثل سنها يغادرون الفيلات التي يسكنون فيها نحو مدارسهم الخاصة..انقطعت عن الدراسة في المستوى الثالث ابتدائي بعد أن أصبح والدها عاجزا عن تغطية المصاريف المتزايدة لإخوتها الأربعة، لتغادر مقاعد الدراسة في وقت مبكر. «تخلصت وقتها من التمارين والضرب الذي كنت أتلقاه من طرف المعلم، كنت مشاغبة ولا أهتم أبدا بالدراسة، لذا كنت سعيدة بعد أن غادرت المدرسة». تقول بهدوء وعيناها لا تفارقان الأرض، تصمت ثم تردف متابعة: «تعرفت على أولاد يكبرونني سنا أجبرتهم الظروف على التوقف عن الدراسة. تذوقت المعجون واستنشقت الدوليو لأول مرة وأنا برفقتهم، وحياتي الآن في الشارع».. إعادة الإدماج تعمل الجمعيات المتخصصة في مساعدة أطفال الشوارع من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع على وضع خطة عمل لها لتطويق الظاهرة، فشوارع الدارالبيضاء تضم أزيد من 7000 طفل مشرد، يرتفع عددهم سنويا بنسبة 10 في المائة حسب تقارير ميدانية. وتتمثل محاور هذه الخطة في زيادة فرص أطفال الشوارع في الحصول على الخدمات الأساسية، وتعريفهم بخطر المخدرات والأمراض المنقولة جنسيا من خلال المشاركة وتعليم النظير للنظير، إضافة إلى خلق الثقة بالنفس واحترام الذات عند الأطفال من خلال جلسات تثقيفية حول حقوق الطفل وتدريب في المهارات الحياتية. تبقى أعداد أطفال الشوارع في المغرب غير مؤكدة، لأنهم لا يبقون في مكان واحد ويتنقلون من حي إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى بحثا عن مأوى مؤقت.. تعد محطة ولاد زيان نقطة الالتقاء الرئيسية لأطفال الشوارع بالدارالبيضاء، ونسبة كبيرة منهم ينحدرون من المناطق القروية المتاخمة للعاصمة الاقتصادية، ويحرص أعضاء الجمعيات المهتمة بالطفولة على زيارة المحطة والأماكن المحيطة بها للتعرف على هؤلاء الأطفال وتسجيل أسمائهم والتعرف على الأسباب التي جعلتهم يغادرون بيوتهم للعيش في الشارع. وعندما تضيق بهم السبل يندمجون في شبكات المتسولين التي توزع فيما بينها «مناطق العمل» فلا يستطيع أي متسول خرق هذا النظام وإلا تعرض لملاحقات ومعارك جسدية.. تشير آخر الإحصائيات إلى وجود أكثر من 5000 أم عازبة في الدارالبيضاء يجدن أنفسهن عرضة للضياع مع أبنائهن في شوارع الدارالبيضاء كل سنة، بدون موارد للعيش ودون سند، وللتخلص من وضعيتهن الشائكة يتخلى بعضهن عن فلذات أكبادهن من أجل العمل في البيوت، ومنهن من تفكر في الانتحار، بينما تنحرف أخريات ليلجن عالم الدعارة. عنف وبؤس وطبقا لتقديرات منظمة العمل الدولية، فإنه يوجد بالعالم العربي 13.5 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5-14 سنة نشطون اقتصاديا. وتعمل نسبة كبيرة منهم في أعمال خطيرة على حياتهم وتطورهم وصحتهم ومعنوياتهم. وهناك أطفال آخرون يشبون في حالة من الحرمان، وهم ليسوا مسجلين ويعيشون في الشوارع. وقد أصبحوا أحداثا منحرفين يعيشون بدون رعاية ويواجهون بصورة متصلة عنفا منزليا وسوء معاملة. تقدمت نحو غزلان المراهقة ذات الشعر الأشعث طفلة تبدو في الثامنة من عمرها وطلبت منها درهما مستعملة عبارة نابية، نهضت ودفعتها بيديها المتسختين متوعدة إياها إن هي حاولت الاقتراب منها مرة أخرى. . بادلتها الفتاة نظرات حادة وابتعدت عن المكان وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.. عانت غزلان من طفولة قاسية مع أب مدمن على الكحول وأم بذلت كل ما في وسعها لكي لا يتشرد أبناؤها الخمسة. «كان والدي مقامرا ولا يتوانى عن ضرب والدتي كلما طلبت منه مصروف البيت. لم نسلم من عنفه نحن أيضا وتحول بيتنا إلى قطعة من الجحيم» تردد غزلان بأسى ل«المساء». تتذكر أول ليلة قضتها في شارع محمد الخامس بفندق لينكولن المهدم، اضطرت للبكاء وتوسلت إلى شاب ضخم الجثة اشترط عليها دفع عشرة دراهم من أجل قضاء تلك الليلة معهم. شاهدت لأول مرة في حياتها أطفالا يمارسون الجنس بطرق شاذة ويتناولون القرقوبي بتلذذ. لم تسلم ذات ليلة من تحرش أحدهم حاول إرغامها على ممارسة الجنس معه فركلته بعنف، ليستل خنجرا وجهه إلى خدها.. مازالت ذكرى ذلك الحادث على وجهها: ندبة بنية طولها عشرة سنتمترات لا يبدو أنها ستزول.. ثقة مفقودة ليس من السهل أبدا أن تقترب من أطفال الشوارع من أجل التعرف على قصصهم، فعنصر الثقة أساسي جدا لكي يرتاح أحدهم إلى متطوعي جمعية بيتي في الدارالبيضاء الذين نسجوا معهم صداقات لا تكدر صفوها سوى حملات عناصر الأمن يبن الفينة والأخرى.بعد أن حصلت والدة غزلان على الطلاق، غادرت البيت رفقة ثلاثة من أبنائها، تاركة وراءها ثلاثة آخرين رفقة والدهم وعادت إلى مسقط رأسها بسيدي رحال.. غير بعيد عن ميناء الدارالبيضاء، تحولت المرافق المحيطة بهذا القطب التجاري إلى فضاء يحتضن أطفال الشوارع من كافة الأعمار، أغلبهم يحلم باليوم الذي ينسل فيه إلى إحدى الباخرات ويغادر نحو أوروبا. ابتسم صديق غزلان المقعد من المشهد وهو يحاول بتثاقل طرد الذباب المتجمع على اللعاب النازل من فمه..تقول غزلان إن فاطمة معروفة بالميناء وسط أصدقائها الذين ساعدوها على شرب الخمر وتناول المعجون، وهمست وكأنها تفشي سرا بأن بعض الفتيان مارسوا عليها الجنس مرات عديدة.. في أحضان الشارع مازالت مريم تتذكر تفاصيل مغادرتها للمنزل بعد أن وجدت نفسها رفقة زوجة أبيها التي لم تتحمل يوما أن تراها جالسة في البيت، وأخبرت زوجها أن الوقت حان لتعمل ابنته وتساعده في تدبير مصاريف البراكة التي يكتريانها ببوسكورة. تعرضت الابنة للضرب مرات متعددة، لتقرر ذات ليلة أن تغادر الكاريان. «عشت في الشارع يومين وتعرفت على أطفال آخرين علموني تقنيات التسول أو «الجقير»، وكنا نقضي الليل في البيوت المهجورة وتحت السيارات بعيدا عن أعين رجال الشرطة»..بعد أن تم ضبطهم في إحدى الحملات التمشيطية في الحي المحمدي، اختارت مريم وثلاثة أطفال آخرين الفرار من الخيرية التي تم إيداعهم فيها والعودة مجددا إلى أحضان الشارع. لم يكن من السهل عليها البقاء في مكان واحد، إذ إنها دائمة التنقل بين مختلف الأحياء مشيا على الأقدام قبل العودة إلى الميناء الذي اختارته «ملاذا» لها قبل سنة، تنام أينما كان وتقتات من حاويات النفايات وإذا حالفها الحظ قد تقتني وجبة عشاء بما جاد به المحسنون من دراهم طيلة اليوم. الخوف الوحيد الذي يكدر حياة هذه الطفلة يتجلى في عناصر الشرطة التي تنظم دوريات غير منتظمة وتعتقل الأطفال المتشردين قبل أن تسلمهم للجمعيات المختصة والخيريات. تقول مريم: «كانوا يضربوننا بلا رحمة ويعاملنا بعضهم كالكلاب الضالة، لا يدركون أننا بشر مثلهم لم نختر الشارع بإرادتنا». أمراض الشارع وكشفت دراسة قام بها مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط أن أطفال الشوارع في المغرب يواجهون مشاكل وأخطار كثيرة من بينها العنف الذي يمثل الجانب الأكبر من حياتهم اليومية سواء العنف بين مجموعات الأطفال صغيري السن، أو العنف من المجتمع المحيط بهم، أو العنف أثناء العمل. وتتعدد العوامل التي تؤدي إلى ظهور وتنامي المشكلة، ويتفق أغلبها على أن الأسباب الرئيسية للمشكلة هي الفقر، البطالة، التفكك الأسري، إيذاء الطفل، الإهمال، الانقطاع عن الدراسة، عمل الأطفال، وعوامل أخرى اجتماعية ونفسية لها صلة بالمحيط الاجتماعي أو شخصية الطفل مثل البحث عن الإثارة، ويصاب ثلثهم بمرض انفصام الشخصية في مراحل مختلفة من نموهم. ويتعرض الأطفال أيضا لرفض المجتمع لكونهم أطفالا غير مرغوب فيهم في مجتمعات معينة بسبب مظهرهم العام وسلوكهم، كما يخشى الكثير منهم القبض عليهم من طرف رجال الشرطة وبالتالي إعادتهم إلى ذويهم أو أجهزة الرعاية. بالإضافة إلى تعرضهم لمشاكل صحية مختلفة، ومشاكل نفسية بسبب فشلهم في التكيف مع حياة الشارع.