في ظل تعثر مسيرة المراجعات النقدية للموروث الثقافي الإسلامي، لأسباب متعددة؛ تتراوح بين التدافع السياسي حول تجاذب المرجعيات، وغياب القراءة المتأنية ذات النفس الطويل للموروث، الذي نقرنه بسبب آخر يكمن بالضبط في التصدي الفردي للعمل الفكري، بدل اندغام مجهودات الباحثين في إطار مؤسساتي منظم، بحيث لا تذهب مجهودات المفكرين هدرا، بل تنتظم في سياقات أخرى، وتراجع وتقوّم في إطار هذا العمل المؤسساتي. في ظل هذا التعثر يجب أن لا نصدم بالخطابات التي تصدر عن مرجعيات متطرفة، من اليمين واليسار، حول القضايا التشريعية المطروحة للنقاش. لقد كشف لنا الجدل الأخير الذي أثير حول قضية تشريعية عن حقيقة قد لا ينتبه لها الكثير منا؛ ألا وهي تجاذب الفاعلين السياسيين وشيوخ التطرف بلغتهم التكفيرية المقززة أطراف الحديث حول أسئلة المجتمع، في ظل غياب المفكر أو تغييبه، وهذا مؤشر ينم عن وضع ثقافي مقلق وغير صحي. إن طرح تساؤلات حول الأحكام التشريعية مشروع تماما، لكنه عندما يخضع لحسابات السياسة، فإنه يفقد غير قليل من مصداقيته ويتأثر لا محالة بالمزايدات السياسية التي ينطوي عليها خطاب الفاعل السياسي، فتصاغ –هذه التساؤلات- في عبارات وقوالب لغوية مشتطة مستفزة، وأمام هذا الاستفزاز لن ننتظر سوى ردود الفعل العنيفة، التي تقابلُ شططا بمثله، وما أكثر من يتصيد هذه الفرص ويتحينها لاستعراض قدراته التكفيرية العنيفة التي تنهل من ثقافة "الصارم المسلول.."، و "الصواعق المرسلة.." و"إسكات الكلب العاوي.." وغيرها من عناوين كتب ألفت في الماضي والحاضر لا تخلو من ثقافة العنف. هذا ما حدث بالفعل في الجدل الأخير، وفي سياق هذه الجلبة ضاع السؤال مع أهميته، ولم تقدم الأجوبة المنتظرة. لقد خاض الكثير من المفكرين في سؤال الشريعة ورهانات التجديد، وتساءلوا عن حدود الاجتهاد مع الشريعة، ولعل أعمق الأطروحات المقدمة هي تلك التي قاربت الموضوع برؤية فلسفية شمولية تنأى عن المماحكات الفقهية للقضايا الجزئية. ونستحضر هنا مدخلا فلسفيا مهما للفيلسوف الصوفي محمد إقبال في كتابه الهام "تجديد الفكر الديني"، حيث اعتصر ما تنطوي عليه ظاهرة ختم النبوة من دلالات ومعاني. إنه من المعلوم تاريخيا أن النبوة ظاهرة استمر حضورها طول التاريخ البشري، ولم يعلن ختمها إلا مع محمد صلى الله عليه وسلم. فما معنى ذلك؟ يستشف إقبال من هذه الفكرة أن البشرية قد بلغت أوجها في هذه المرحلة، وأنها تجاوزت مرحلة "الطفولة" التي تخضع فيه لوصاية أي سلطان خارجي، لقد بات الإنسان قادرا على إرشاد نفسه بنفسه، وأن العقل تخلص من الأسطورة بفضل تراكمات معرفية طعمت كفاءاته التفكيرية، من هنا أهليته لتشريع قوانين تنظم حياته. إن رسالة محمد عليه السلام حسب فلسفة إقبال منعطف يقف بين مرحلتين، أو بعبارة أخرى؛ رسالة النبي تندغم فيها خاصيتين، فهي من جهة التلقي تنتمي إلى الماضي، لكن بإعلانها ختم النبوة تدشن لنمط فكري جديد، ينتصب فيه العقل مشرعا وهاديا. وقد طور المفكر الإيراني "عبد الكريم سروش" أطروحة إقبال، بالأحرى قاربها من زوايا وجوانب أخرى مختلفة. فعبد الكريم سروش سواء في "القبض والبسط في الشريعة" أو "بسط التجربة النبوية" يلح على الجانب التاريخي للرسالة الخاتمة، فهي غير مهيأة للامتداد والاستمرار في التاريخ، لأنها تحمل في أحشائها بذور الآنية، أي أنها كانت في الغالب تشرع لواقع تاريخي بعينه. بل إنه يلح على أن القرآن ربما سيكون حجمه أكبر لو أن الله أنسأ للنبي عليه السلام في العمر، وعمّر مدة زمنية أطول. بأسلوب "سروش" القرآن يضم "الذاتي" و"العرضي"، الذاتي هو العقيدة والأخلاق، والعرضي هو القصص القرآنية، فعلى سبيل المثال أبو لهب هذه الشخصية التاريخية التي عادت النبي عليه السلام، لو نُزل القرآن في بقعة أرضية أخرى لما انتظرنا من الله أن ينزل سورة تنتقد هذه الشخصية، كذلك بعض الآيات القرآنية صيغت بأسلوب ينم عن ظرفيتها، فالآيات التي تبتدئ بقوله تعالى "يسألونك عن..."، كلها تؤكد هذه الأطروحة التي تستحضر تاريخية غير قليل من النصوص. على أن د. عبد الجواد ياسين في كتابه الصادر حديثا "الدين والتدين : التشريع النص والاجتماع"، قد قدم قراءة موسعة في التشريع الإسلامي على فترتين، الفترة الأولى تمتد من بداية المرحلة المدنية إلى لحظة إغلاق النص، والثانية، مذ إغلاق النص وظهور الفقه والأصول. إنه حسب عبد الجواد ياسين، الإسلام دين نموذجي للتمييز بين الذاتي والعرضي، أو باصطلاحه بين الدين والتدين، إذ الأول إلهي بحت، بينما الثاني تاريخي قابل للتجاوز. فالوحي طوال الفترة المكية تناول قضيتين، العقيدة والقيم، وكان ينزل القرآن ابتداء، أي أنه لم يكن يحاور واقعا بعينه، بل إن الآيات التي نزلت كانت تعبر عن الإرادة الإلهية الثابتة، إرادته في توحيده وتنزيهه ونبذ الشرك، والتحلي بالخصال الحميدة. إن د. عبد الجواد ياسين يميز كما قلنا بين الآيات التي تتناول العقيدة وتحث على الإيمان بالله وتوحيده والنهي عن الشرك، وكذلك الآيات ذات الحس الأخلاقي الثابت، وبين الآيات التي تعالج قضايا اجتماعية بعبارة تنحو منحا تشريعيا، ويلاحظ الباحث أن آيات الدين (الإيمان بالله- الأخلاق) تعتمد مبدأ المبادءة ، أي أنها تنزل ابتداء من غير أسباب معينة أملت تنزيلها، من هنا فهو يرى بأنها هي الجديرة وحدها باسم الدين، وأنها ذات الطابع المطلق المقدس واللازماني، أما آيات التشريع فرغم أنها منصوصة؛ أي واردة في النص، إلا أن فاعليتها لا استمرارية لها، بل هي محدودة الإلزام تخاطب المعاصرين للوحي فقط دون غيرهم. ويورد د. عبد الجواد ياسين ثلاث آليات أقر بها العقل السلفي على نحو معين للتنصيص على الطابع الزماني لآيات التشريع القرآنية؛ التنجيم وأسباب النزول وحدوث النسخ. فعن الآلية الأولى يدعونا لتأمل "النزول المتقطع للآيات التشريعية"، وبالنسبة للثانية يحث الفكر المتأمل للاعتبار ب "تعلقها [أي آيات التشريع] بالحوادث وانتظارها للأسئلة"، وكذا "استشعار مرونتها حيال الواقع المتغير في المدى القصير" في إطار ما يسمى في علوم القرآن بالنسخ، وذلك لاستخلاص ما تنطوي عليه هذه الظواهر المتعلقة بتفاعل النص مع الواقع من إشارة لظرفية التشريع في القرآن، وبالتالي إمكانية التجاوز في أفق التأسيس لمنظومات تشريعية مغايرة تستجيب لإكراهات الاجتماع، بالضبط كما كانت المنظومة التشريعية الإسلامية استجابة لواقع زمني متموج. ونشير هنا أن الباحث في ربطه بين النص التشريعي والاجتماع، قارب الإشكالية من زاويتين، الأولى زمنية، والثانية موضوعية، فالتنجيم والنسخ وأسباب النزول ثلاث آليات تتعاضد فيما بينها لتكشف عن حضور التاريخ في النص، أي إبراز الإطار الزمني الذي احتوى النص التشريعي، إلا أن العقل السلفي كما يقول عبد الجواد ياسين لم يستنبط ما هو كامن في هذه الآليات من تموج تاريخي يمس بنية النص، بل رأى فيها تبعا لما يسميه د. عبد الجواد ياسين "الحيل الأصولية" أدوات نظرية تنتمي هي نفسها إلى المطلق المؤبد، إنها حسب المرجعية السلفية لم تكن انعكاسا لبنية اجتماعية متحركة، بل كانت تعبيرا عن مشيئة الله المطلقة التي تتعالى كليا على الواقع والاجتماع، يقول عبد الجواد ياسين وهو يحيلنا على التأويل السلفي لهذه الآليات "عاد العقل السلفي ففرغ ظاهرة التنجيم من مضمونها عبر تبنيه لمقولة النزول المجمل للقرآن من اللوح المحفوظ. وصادر على فاعلية أسباب النزول من خلال الحيل الأصولية التي ربطت السبب بالآية لا بالحكم الذي تحمله (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) كما تجاهل الدلالة الجدلية لتغير الأحكام خلال فترة التنزيل القصيرة، عبر التعاطي مع مفهوم النسخ كعملية نظرية تتعلق ببنية النص، وليس كمسار واقعي لتاريخ الجماعة المسلمة الأولى في إطاره الإجمالي" ، ويدعم الباحث قراءته هذه بملاحظة مهمة حول المضمون الذي يحمله النص في الحقبتين المكية والمدنية، فالقرآن المكي بحكم مجابهته لتجمعات بشرية بدائية -لا يمكن أن نطلق عليها اسم مجتمع منظم-، لم ينخرط في عملية التشريع القانوني، لأن هذا الأخير يظهر في التشكلات الاجتماعية التي قطعت أشواطا في التنظيم، فطيلة الحقبة المكية عمل الوحي على تكريس عقيدة التوحيد وتجذيرها في المجتمع المكي وحمله على التحلي بالأخلاق الحميدة والقيم الكلية، أما عملية التقنين فلم تبتدئ إلا في المرحلة المدنية حيث بدأت أمشاج وإرهاصات "المجتمع/الدولة" تبرز بوضوح، سواء على مستوى التشريع لجماعة المسلمين، أو لعلاقاتهم مع الآخر (المشرك/النصراني/اليهودي)، وهي كلها حقائق تصب في ذات مضمون المصادرات التي استهل بها الباحث كتابه، أي انتماء التشريع لدائرة التدين، وارتباط الأخير بالمجتمع، وعدم تقاطعه بالتالي مع جوهر الدين المطلق الثابت المتعالي الذي لا يخضع للسيرورة التاريخية ولا يتأثر بها بسبب طبيعته المفارقة. هذا عن الإطار الزماني، أما الإطار الموضوعي؛ المتعلق بمادة وموضوع النصوص التشريعية، فاستقراء الأمثلة الجزئية التي اعتمدها عبد الجواد ياسين من أجل إثبات جدلية التشريع والاجتماع، تنتهي بنا لتصنيف مداخله المنهجية وحصرها عموما في ما يلي: - اعتبار التشريع الإسلامي للعرف السائد (مع تعديله أحيانا)، واعتماد العرف لا ينحصر في مستوى اختيار ما كان شائعا من طقوس وأحكام، بل تجاوزه إلى اعتماد البنية النصية لقوالب لغوية ذاتها التي كانت سائدة في العرف الجاهلي . - تعارض آيات التشريع، الذي يرجع بالأساس إلى تغير الواقع الاجتماعي الذي أنزل فيه النص حكما معينا. - تعارض آيات التشريع مع بعض القيم والأخلاق الدينية. على أنه لابد من الإقرار بتطور أطروحات الفكر الإسلامي بخصوص مسألة التشريع، فلم يعد ذلك الاعتقاد بقدسية الفقه الإسلامي وإلزاميته شائعا، بل إن الفكر الإسلامي يعترف بخضوعه لإكراهات الواقع، بل يذهب بعض المفكرين الإسلاميين إلى تأكيد الطابع التبريري للفقه السياسي الإسلامي مثلا " فقه السياسة الشرعية كان أقرب إلى توصيف الواقع وحكايته وتسويغه من الناحية الفقهية وآل الأمر إلى تفويض الصلاحيات كلها أو جلها إلى الحاكم الذي اشتدت وطأته وقويت شوكته"، فماذا نستخلص من هذه المقولة؟ الدارس للفكر السياسي الإسلامي لا يجد إلا أن يقر ببداهة ما قاله هذا المفكر الإسلامي، فكل ما يقال عن وجود مشروع إسلامي في السياسة يطال كل القضايا الجزئية، هو قول عار من الصحة، ومجرد وهم تعشش في بعض العقول. إن النص اتخذ موقف السكوت حيال القضايا التشريعية، لهذا فإن مهمة الفكر الإسلامي هي التأمل في الموروث من أجل الوقوف على تقاطعات الذاتي والعرضي في الظاهرة الدينية، وفك تلك الارتباطات التي أحدثها الفقه بين الدين والتدين، حيث ألحق الثاني بالأول. أما الدين فيحضر في المنظومة التشريعية كموجه يعبئ رصيد الإنسان من القيم الأخلاقية.