1 مقدمة: قد يتساءل اليوم الكثير من الباحثين والمهتمين بالشأن الديني في المغرب عن أسباب تحول عدد من المغاربة عن الإسلام وتبني ديانات ومذاهب أخرى قد يكون الإلحاد من بينها. خلال حواراتنا مع عدد من هؤلاء المتحولين على وسائط التواصل الاجتماعي أو بشكل مباشر في بعض الأحيان، وقفنا على أن أغلب هؤلاء ينتقدون نمطا محافظا من التدين قد ساد خلال العقود الأخيرة نتيجة ارتباطه بتمويلات عدد من المنظومات المحافظة والمعروفة خارجيا، مع ضعف الرقابة أو انخراط عدد من المسؤولين داخل المؤسسة الدينية الرسمية في الترويج لهذا النمط التقليدي المحافظ عن قصد أو عن غير قصد. هذا النمط الذي يدافع أتباعه عن رؤى وتصورات سطحية، كانت وعلى الدوام تحارب كل مبادرة للإبداع والتجديد والإجتهاد داخل الحقل الديني مع تكريس مواقف الإقصاء والتطرف والجمود في ظل انحسار دائرة التنوير بعد فشل عدد من مشاريع النهضة التي لم تكتمل للعديد من الأسباب الموضوعية والذاتية. وهكذا فإن الكثير من المواقف التي يتخذها هؤلاء المتحولون تبدو فعلا مبررة إذا ما نحن دققنا النظر في عدد من التصورات والأحكام والتفاسير والتأويلات الخاطئة التي يقدمها عدد من أولائك الذين يقدمون أنفسهم أوصياء على دين الإسلام. و الأمر في جوهره يعزى إلى ضعف اطلاع كلا الطرفين (المتحولون والأوصياء) على التراث الفقهي والفكري للإسلام، خصوصا الجانب المتنور منه، والتركيز بأفق ضيق على نموذج محدود ارتبط أساسا بسلف مختار بعناية من الفقهاء والدعاة الذين اتسموا كخلفهم اليوم بالحشو والتبرير والتطفل على ميادين عادة ما تكون بعيدة عن تخصصهم وعن الدين. وغالبا ما تورط هؤلاء في إجهاض مشاريع التنوير داخل فضاءات الدولة الإسلامية1. ففي الوقت الذي كان فيه فريق التنوير من الفلاسفة والمفكرين يجتهدون في قراءة النص وإبداع الحلول الموضوعية والعقلانية لعصرهم، كان فقهاء الجمود والتبرير يحاولون بكل السبل إضفاء صفة الإطلاقية على النصوص سواء كانت من القرآن أو السنة. بل إن بعضهم قد تمادى إلى حد إكساب بعض الإجتهادات والتأويلات المرتبطة بسياقات زمنية معينة قوة النص القرآني، لتتجاوز حاجز الزمن وتعيق حركة الإجتهاد والإبداع والتواصل مع الآخر المختلف فكريا وعقديا. وبهذا فقد تراكمت حول النص منظومات من الرؤى والمفاهيم والأحكام، صارت مع الوقت جزءا من الدين لذاته مما سمح بتسرب مجموعة من العقائد والتكاليف ذات أصول سياسية واقتصادية وثقافية، فضلا عن نزوعات الغرائز البدائية التي تدفع إلى الكراهية والعنف والتطرف2. وفي غالب الأحوال كان هذا التسرب يأخذ شكل نص، سواء كأحاديث منسوبة إلى الرسول (ص)، أو تفاسير واجتهادات منحرفة عن مقصود وسياق الآيات القرآنية، وهو ما يركز عليه عادة خصوم الإسلام في مطاعنهم ضد هذا الدين، ويستميلون بالتالي كل من لم تسعفه أدوات البحث والتحري عن الأمور من مصادر مختلفة إلى تبني أطروحاتهم ومواقفهم. من جهة أخرى، فإن النص الديني يتضمن ما هو مطلق ثابت يمكن وصفه بأنه من الدين في ذاته (كالعبادات والعقائد والقيم الأخلاقية)، وما هو اجتماعي قابل للتغير ولا يجوز إلحاقه بالدين في ذاته كالتشريع في المعاملات والحدود والتدبير الإجتماعي والسياسي الذي يرتبط عادة بالتاريخ3. وعادة ما يقع الخلط بين هذا الثابت وذلك المتغير في النص، ليس فقط من طرف بعض الدخلاء على الميدان بل وفي أحيان كثيرة ممن تمتد إليهم الأبصار من العلماء المتخصصين والفقهاء من أجل الحسم في مثل هاته المسائل. وقد ارتأينا أن نأخذ أمثلة من بعض التشريعات المرتبطة بالحدود، والتي تعد من أكثر النصوص إثارة للجدل، ليس فقط خارج الإسلام، بل أيضا داخل منظومة الفقه الإسلامي. القرآن كان يساير الأعراف القبلية: حد القصاص بين القود والحق العام لقد كان القرآن يقدم معالجاته الجزائية من داخل السياقات العرفية التي توافق عليها الناس قبل نزول الوحي، فهو لم يبدع مثلا حكم القصاص في القتل العمد أوحد السرقة، بل نقل هاته الأحكام التي كانت محط إجماع عرفيا داخل المجتمع القرشي إلى حالة النص. فقد أشار القرآن صراحة إلى حق ولي الدم في تسلم القاتل كي يقتص منه بنفسه، فجعل له سلطانا في القتل، ودعاه إلى عدم الإسراف فيه4، حيث يقول تعالى: "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل*إنه كان منصورا" (الإسراء-33). وعند فتح مكة قال الرسول (ص) لأهلها: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود"5، حيث استخدم هنا مصطلح "القود الجاهلي" الذي فرضه السياق الإجتماعي القبلي قبل نزول الوحي. فكان القاتل يقاد إلى أولياء الدم كي يقتلوه. وقد ظل هذا النظام قائما حتى بعد تبلور الدولة في الإسلام، وذلك لنفوذ المواضعات القبلية في المجتمع العربي. وقد تطور النقاش داخل دائرة التشريع في الفقه الإسلامي بعد ذلك لإخراج هذا الحكم من دائرة القتل إلى بدائل تمثلت في تثمين الإختيار بين الدية والعفو. حيث انصب الجدل على تأويل معنى السلطان الذي جعل لولي المقتول فقال بعضهم: إن شاء استقاد منه فقتله بوليه، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية، ونقل ذلك عن ابن عباس. وقال آخرون: بل ذلك السلطان هو القتل"6. خاصة وأن بعض قبائل العرب في الجاهلية قد تواضعت على الدية، والتي تفاوت مقدارها بحسب مكانة القتيل ومكانة قبيلته. للصريح دية كاملة، وللحليف أو الهجين نصف دية الصريح، وللمرأة نصف دية الرجل7. ومع استقرار الدولة، وتراكم الأحكام السلطانية، وتبلور أدوات التأصيل التقنية، سوف يصبح استيفاء القصاص مقصورا على سلطة ولي الأمر، وما لم نقرأه مثلا عند مالك والشافعي والطبري، سوف نقرأه عند القرطبي المتوفى سنة 671ه في النص التالي: "لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولوا الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك"8. وهو يشير في هذا النص إلى ما يصطلح عليه اليوم بالحق العام، الذي يعد أيضا فكرة قانونية قديمة ارتبطت بسلطة الدولة كنظام اجتماعي طبيعي، ولو أن هذا الأمر قد اختلط بنظرية الحق الإلاهي (لكون هذه الجرائم تعديا على حق الله) داخل منظومة الفكر الديني. هكذا اتخذ الإجتهاد في التشريع الإسلامي مسارات متعددة عادة ما كانت تفرضها السياقات التي كانت تتبدل بتبدل الجماعة البشرية الأولى التي نزل النص بشأنها أو بتغير الظروف الإقتصادية والإجتماعية والسياسية لهذه الجماعة. حد السرقة بين قريش وباقي العرب في نفس السياق، تذكر المصادر بأن قطع يد السارق كان عقوبة معروفة لدى العرب قبل الإسلام، حيث يروي ابن حبيب في المحبر: "قطعت قريش رجالا في الجاهلية في السرق منهم وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعوف بن عمر بن مخزوم، ومرار، ثم سرق فرجم حتى مات، وعبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قطع في سرقة إبل. ومليح بن شريح بن الحارث بن أسد، ومقيس بن قيس بن عدي السهمي سرقا حلي الكعبة في الجاهلية فقطعا"9. وقد كانت هذه العقوبة خاصة بقريش، بحيث أن بقية القبائل العربية قد عرفت فكرة التعويض المالي بضعف قيمة الشيء المسروق أو بعدة أضعاف10، متأثرة في ذلك بما ورد في عدد من التشريعات البابلية واليهودية والرومانية11. ويرجع تفرد قريش بعقوبة القطع بالأساس إلى طبيعة مجتمعها التجاري والذي تجاوزت تعاملاته نطاق الجزيرة وأطرافها الشامية والعراقية إلى المناطق البيزنطية وآسيا الوسطى والهند وفارس والحبشة عل المستوى الخارجي، كما شكلت التجارة الداخلية أو ما يمكن تسميته باقتصاديات الموسم المرتبطة بالحج وخدمة الكعبة مداخل مهمة لهذا المجتمع، فضلا عن الحصانة الدينية التي تسبغها الأموال العائدة إلى الحرم، مما دفع القرشيين إلى التشدد في عقوبة السرقة لحماية مصالحهم الإقتصادية. وقد ذكر القرطبي بأن أول من حكم بقطع السارق في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام12. وهكذا يمكن أن نستشف بأن معظم التشريعات القرآنية المنصوصة كانت تصدر عن تفاعل مباشر مع الثقافة العربية الجاهلية. ولاحقا سوف يترك توسع رقعة الدولة الإسلامية وانفتاحها على ثقافات وحضارات البلاد المفتوحة أثرا واضحا على مناهج الإجتهاد داخل منظومة الفقه الإسلامي، خاصة بعد تدوين السنة وتكون علم الأصول ضمن مجموعة العلوم الكلامية والنقلية في اللغة والتفسير والتاريخ، مما سيعيد فتح باب الجدل حول هاته التشريعات في كل حين13. هوامش: 1- كاضطهاد المعتزلة في عهد المتوكل العباسي وتكفير ابن سينا والفلاسفة بفتوى الغزالي. 2- مرت كل الديانات السماوية والوضعية بهذا المسار، فكل الديانات قد أنتجت قديسين كما أعطت القتلة. أنظر عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والإجتماع، الفصل التمهيدي، ص 5-11. 3- أنظر عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والإجتماع، الفصل التمهيدي، ص 5-11. 4- وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا قتل رجل رجلا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه وترك القاتل! فنهى الله تعالى عن ذلك. 5- رواه الربيع عن الشافعي مسندا إلى شريح الكعبي، أنظر القرطبي، الجامع، م 1، ج 2، ص 168. والطبري، التفسير، م 8، ج 15، ص 75. 6- أنظر تفسير الطبري. 7 -أنظر الأغاني 2/170. 8 -الجامع، م 1، ج 2، ص 163. 9-ابن حبيب، المحبر، ص 327، وانظر تاج العروس 5/253. 10- أنظر جواد علي، المفصل، ج 5، ص 605، وبحسب جواد علي: "لاتزال هذه العقوبة معروفة في العرف القبلي، فيدفع السارق أربعة أمثال المسروق عند أكثر العشائر العراقية في الزمن الحاضر (النصف الأول من القرن العشرين) ويسمون ذلك المربعة". 11- أنظر مثلا سفر الخروج 21، 22. 12- الجامع للقرطبي م 3، ج 6، ص 92. 13- من المشهور بأن عمر بن الخطاب (رض) قد أوقف حد السرقة خلال عام المجاعة ولم يعارضه أحد من فقهاء الصحابة، كما أوقف سهم المؤلفة قلوبهم واحتج على أصحابه بأن الإسلام قد أصبح عزيزا ولا يحتاج إلى أن يتألف من ينصره. ..يتبع *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected]