بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله علي مولانا محمد وآله الطيبين الطاهرين. في ذكرى إمام الجهاد والفتوة الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعيد الإنسانَ ذاكرتُه إلى مواقف ومبادئ مستقاة من منهاج النبوة، منها المقروء في الكتب، ومنه المشهود في تاريخ رجل مازالت فضائله تتجلى وستستمر عبر الأجيال إلى ما شاء الله، فيخط الإنسان انطباعات عن توافق القول والفعل في حياة الإمام رحمه الله، وتصديق أحدهما الآخر، ثم يجيل الإنسان النظر في أئمة الهدى عبر تاريخ أمتنا فتنبهه أحداث التاريخ الرافعة الخافضة أن الإمام حلقة فيدة من سلسلة نورانية، لا ينمحي لها أثر، ولا ينقطع لها خبر، كما يعبر الأستاذ الشاعر منير الركراكي حفظه الله. فقد كان أنبياء الله ورسله، ولا يزال من سار على نهجهم صفوة الله من خلقه، تميزوا بأخلاق وشمائل أبهرت من كان حولهم، فافترق الناس فيهم عبر العصور من مقر لهم بالفضل، شاهد بلسان الإقرار مثل صاحبي سجن يوسف: "إنا نراك من المحسنين"، ومنكر جاحد لا يعرف فضلا غير ما يدعيه لنفسه الأمارة بالسوء. فلن تجد نبيا ولا وليا لله إلا وكان له أتباع محبون فانون فيما شهدت به قلوبهم قبل أسماعهم وأبصارهم، أو معاندون أبوا إلا ركوب السنة الإبليسية: "أنا خير منه". يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: "إن أنبياء الله رجال جهاد، رجال عمل وبلاغ، زودهم الله بأكثر الصفات ملاءمة لوظيفتهم الإلهية ومن أهمها السمت والتؤدة والاقتصاد..." (1) السمت والتؤدة والاقتصاد، خصال تحلى بها أنبياء الله وورثتهم المجددين فتميزوا عن الجاهلية في النيات والأقوال والأفعال معا، وهذه الخصال هي التي تنقص عالمنا اليوم في مجالات التربية والفكر والثقافة والاجتماع، لينطبع ذلك في السلوك الفردي والجماعي في جميع ميادين الحياة ومجالات التفاعل والتواصل بين كافة خلق الله! وعموما فإن الناظر في سير هؤلاء الصفوة من خلق الله فسيخرج بخصائص تميزهم عن غيرهم من خلق الله تعالى نذكر منها: شرف نسبهم فقد جرت العادة أن يُبعث هؤلاء الأخيار في مجتمعات قد انتشرت فيها أنواع الفساد حتى يصبح الفجور والفسوق مدعاة للتفاخر، فترى هؤلاء الأئمة الهداة في بيئتهم كواحة خضراء وسط صحراء قاحلة! فإذا أذن الله ببروز داعية يدعو إلى الله على بصيرة من ربه برز له من يردد بدرجة ما نفس قولة قوم لوط: "...أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"(2). موقع بني هاشم من قريش وسط صحراء العرب الجاهلية القاحلة، غارات يأكل فيها القوي الضعيف تغنت بها الشعراء، خمر وعهر سارت بأخباره الركبان، وأد للمرأة طفلة أو استحيائها كرها، وعبادة للأصنام وسط البلد الحرام، إلخ...! وسط كل هذا كان بنو هاشم واحة خضراء كرما وشهامة، وطهارة، يطعمون الطعام ويصلون الأرحام، وفيهم أودع الله تعالى مسك الختام، وسيد الأنام عليه وعلى آله الصلاة والسلام. وسنكتفي هنا بسرد بعض النصوص المعبرة عسى تغني عن التفصيل. فهاشم هذا الذي ينسب إليه آل بيت النبوة عليهم السلام هو الشريف النسب المنيف الحسب، واسمه عمرو بن عبد مناف، وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. وقد كانت قريش أصابتهم مجاعة وقحط فرحل إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق فقدم به مكة، فأمر به فخُبز له ونحر جزورا وأطعمه قومه"(3). وفيه قال الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه -- ورجال مكة مسنتون عجاف وقال وهب بن عبد قصي في ذلك: تحمل هاشم ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض أتاهم بالغرائر مُتأقَّات(4) ... من أرض الشام بالبر النفيض فأوسع أهل مكة من هشيم ... وشاب الخبز باللحم الغريض(5) فظل القوم بين مكللات ... من الشيزى(6) وحائرها يفيض قال الطبري: "... فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان ذا مال، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة.(7) فكره هاشم ذلك لسنه وقدره ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي بذلك أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي فنفر هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها، وأطعمها من حضره. وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية".(8) لم ينقطع الحسد مع أمية بل استمر في ذريته الذين استمر كيدهم للإسلام حتى نقضوا ما أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يسميه الإمام رحمه الله ب "الانكسار التاريخي"! وهذه نماذج أخرى تبين فضائل الهاشميين واستمرار حسد قريش لهم: روى البيهقي عن الزهري قال: "حُدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، ... (تعاهدوا ألا يعودوا ثلاث ليال ونكثوا في كل مرة) فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ... ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس بن شريق."(9) ليس المهم عند الجاهلي هل كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يدعي أم كاذبا، ولكن المهم هو المفاخرة والمكاثرة! فها هو أبو جهل يعلنها صريحة للمغيرة بن شعبة، فعن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: " إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلم إلى الله عز وجل، وإلى رسوله أدعوك إلى الله قال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق ما اتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي، فقال: فوالله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي، قالوا: فينا الحجابة فقلنا: نعم، فقالوا: فينا الندوة فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب، قالوا: منا نبي. والله لا أفعل "(10). وصدق الله العظيم حين يقول: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ".(11) ومن فضائل هاشم أيضا أنه هو أول من سن لقريش رحلتي الشتاء والصيف، وكان هو وأخواه عبد شمس والمطلب، يقال لهم المجبرون. فكانوا أول من أخذ لقريش العِصَم عند ملوك الشام والروم وغسان، والنجاشي الأكبر، والأكاسرة، وملوك حِمْيَر، مما مكن لقريش أن تنتشر في هذه البلدان للتجارة، وأنقذوهم من الموت جوعا، أو ما كانوا يسمونه ب "الاعتفاد" بالفاء، وهو كما جاء في لسان العرب: "الاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه فلا يسأل أحدا حتى يموت جوعا ...".(12) سنة بئيسة تتصارع فيه أنفة العربي وقسوته وغلظة كبده، لم يحسمها ويقطع دابرها إلا الكرم الهاشمي وإنسانيته، فقد روى الإمامان القرطبي وابن العربي في تفسيريهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله عز وجل: "لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ". "وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا، حتى كان عمرو بن عبد مناف -وهو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان سيدا في زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له تِرْب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، ... قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تِرْبه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبَّره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تَقِلُّون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله عز وجل، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدأوا بهذا الرجل- يعني أبا تِرب أسد- فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البُدْن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشما".(13) وتحدثت الركبان عن الكرم الحاتمي، وتجاهلت الكرم الهاشمي لأسباب يعلمها الله، ويعلمها المتفطنون لمكر البغاة الذين يبغونها عوجا! الهوامش: 1- الإسلام غدا. 2- سورة النمل، الآية: 56 3- هذه المعلومات والتي تليها كلها مبسوطة في تاريخ الطبري، ط دار المعارف بمصر، ص: 251 وما بعدها. 4- التَّأَقُ: شدَّة الامْتِلاء. لسان العرب. 5- والغَرِيضُ الطَّرِيُّ من اللحم والماء واللبن والتمر. نفس المصدر. 6- والشِّيزَى شجر تُعْمل منه القِصَاع والجِفَان، وقيل: هو شجر الجَوْز... نفس المصدر 7- ونافَرْتُ الرجلَ مُنافَرَةً إِذا قاضيتَه. والمُنافَرَةُ المفاخرة والمحاكمة. والمُنافَرَةُ المحاكمة في الحَسَبِ. قال أَبو عبيد: المُنافَرَةُ أَن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يُحَكِّما بينهما رجلاً... والمَنْفُورُ: المغلوب. والنَّافِرُ: الغالب. ... وقال ابن سيده: وكأَنما جاءت المُنافَرَةُ في أَوّل ما اسْتْعْمِلَتْ أَنهم كانوا يسأَلون الحاكم: أَيُّنا أَعَزُّ نَفَراً؟ لسان العرب: مادة: نفر. 8- تاريخ الطبري، أبو جعفر الطبري، ط: دار التراث - بيروت. ص: 253-ج 2 9- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للإمام أبو بكر البيهقي، ت 458ه، دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 405 ه ، ج: 2 ص: 206 و 207. 10- المرجع السابق، ص: 207. 11-سورة الأنعام، الآية: 33 12- لسان العرب لابن منظور الأنصاري ت: 711ه، دار صادر - بيروت ط: الثالثة - 1414 ه ، ج: 3 ص: 295 13- الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، دار الكتب المصرية، ط الثانية 1964. ج: 22، ص: 502