(2) إذا كان النص القرآني كما رأينا في الجزء الأول من هذا المقال يقدم معالجاته الجزائية من داخل السياقات العرفية التي توافق عليها الناس إبان نزول الوحي، مع تقديم حلول بديلة لتجاوز بعض العقوبات الدموية كحد القصاص مثلا. وإذا كان الجيل الأول من الصحابة قد فهم جوهر هاته النصوص فتعامل معها بنسبية مما دفعهم إلى التصرف و الإجتهاد في هذه التشريعات تبعا للسياقات الجديدة التي عرفتها الجماعة الإسلامية خاصة بعد توسع رقعة الدولة وانفتاحها على ثقافات وحضارات جديدة1، فإن بعض الفقهاء قد خالفوا هاته الروح مما دفعهم إلى تكريس عدد من هاته العقوبات بإطلاق ودون مراعاة للظروف الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي فرضتها2، بل إلى إضافة عقوبات جديدة لم يأت بها القرآن، وذلك بناء على أحاديث متضاربة وتأويلات مازالت محط خلاف كبير بين المسلمين من مختلف المذاهب إلى اليوم. حد الردة: يمكن أن نبدأ هنا بحد الردة الذي يرى البعض أن حكمه هو القتل استنادا إلى بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول (ص) كالحديث المشهور: "من بدل دينه فاقتلوه"3، والتي تناقض كل النصوص القرآنية التي تتحدث عن حرية المعتقد4، حيث لا توجد آية قرآنية واضحة تدعو إلى قتل من ارتد عن الإسلام، أما قوله تعالى: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ" (البقرة-217) فالآية تتحدث عن عقوبة المرتد في الآخرة وليس في الدنيا. بل توجد حوادث مشهورة في السيرة النبوية تسلط الضوء على تسامح الرسول (ص) والمسلمين مع من ارتد عن دين الإسلام. وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته بسندٍ صحيح قصة الصحابي الذي تنصر في أرض الحبشة5، وهو عبيد الله بن جحش الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان. حيث تؤكد كُتب التاريخ أنه توفي على النصرانية ولم يتعرض له الرسول (ص) أو أحد من المسلمين وقد كان يمر بهم ويمرون به. وقد تزوج الرسول (ص) بعد هذه الحادثة بأم حبيبة (رض) لتصبح من أمهات المؤمنين. كما عفا بعد ذلك عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد ارتد عن الإسلام، بل زاد على ذلك بأن كان يسب الرسول (ص) ويفتري عليه الكذب. وذلك بعد أن تشفع فيه عثمان بن عفان، ولو كان حد الردة قائما لما قبل النبي (ص) شفاعته6. وهكذا يستبد التناقض بكل من يحاول رصد موقف الإسلام من المتحولين عنه بين القرآن والسيرة من جهة، وبعض النصوص الغريبة التي يرتكز عليها فقهاء الحدود لتشريع حد الردة من جهة أخرى، والتي لا يمكن فهمها دون الوقوف بروية على ما وقع بعد انقضاء فترة الوحي بوفاة الرسول (ص)، عندما اجتاحت المسلمين حمى التأويلات والوضع في الحديث خاصة بعد الفتنة التي عصفت بوحدتهم وكذا قيام الدولة الأموية التي استغلت الدين لتكريس الاستبداد واضطهاد الخصوم. حيث يعد هذا الحد المزعوم من أكثر المواضيع إثارة للجدل عبر التاريخ، والتي غالبا ما يستغلها خصوم الإسلام ضد هذا الدين. حد الرجم: يتجدد هذا التناقض مرة أخرى عندما نقرأ حكم الزنا في القرآن –وهو الجلد كما حدده الشارع مع تشدده في تطبيق هذا الحد من خلال وضع شروط تعجيزية لإثبات الواقعة7- ثم نقرأ في أحاديث ووقائع منسوبة إلى الرسول(ص) بأن الثيب (أي المتزوج) يرجم!! ويزداد الأمر غرابة عندما نقف على بعض الأحاديث التي تشير إلى أن آية الرجم قد نزلت على الرسول(ص) ثم نسخت بعد ذلك. وقد ورد ذكر هذه الآية التي كانت قبل النسخ ضمن سورة الأحزاب كما يلي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم" بحيث قرأها الصحابة على عهد رسول الله (ص)، ثم رفعها الله مع ما رفع من القرآن، مع بقاء الحكم وهو ما يصطلح عليه عند بعض الفقهاء بنسخ التلاوة الذي لا يستقيم وصيانة القرآن من التحريف، خاصة وأن الناسخ والمنسوخ كلاهما في القرآن الكريم. وحكم الزنا ورد مرة واحدة وبإطلاق (أي دون فصل بين البكر والثيب) في قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" (النور-1) وكان يمكن للشارع أن يفرق بين العازب والمتزوج في هذا الحد، لكنه لم يفعل. يقول الدكتور مصطفى محمود: "وفي حد الزنى قال القرآن بالجلد وقال بعضهم بالرجم مع أن القرآن لا توجد به آية رجم واحدة.. وأكثر من ذلك قال القرآن بشأن الجواري اللائي يزنين فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (النساء: 25)، ومعنى ذلك أن القتل رجما غير وارد إذ لا يوجد نصف موت ولا نصف رجم.. والمعنى الوحيد الممكن هو الجلد، فهو الذي يمكن أن يكون له نصف.." ولنا أن نتساءل الآن، من أين جاء حد الزاني الثيب؟ جاء في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وغيرهما حديث: "عن عبد الله بن عمر (رض) أنه قال: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام : كذبتم؛ إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة"8. وهكذا يتبين من خلال هذا الحديث بأن هذا الحكم يتعلق باليهود وقد حكم فيهم محمد (ص) بما جاء في توراتهم بعد استشارة أحد أحبارهم السابقين (عبد الله بن سلام) وليس بما جاء في القرآن الكريم. بيد أن فقهاء الحدود أبوا إلا استنساخه في الإسلام بحيث سيعيدون رواية هذا الحدث فيما بعد على ضوء قصص مختلقة حول أمر الرسول (ص) برجم نساء مسلمات (ماعز، امرأة من جهينة، امرأة من عامر من الأزد..)!!9 حد الحرابة: ومن تلك العقوبات الدموية التي عزز بها فقهاء النص ترسانة الحدود نجد حد الحرابة، والذي تتناول الآيات التي يستندون عليها بخصوصه واقعة معينة مقيدة في الزمان والمكان. إذ يقول تعالى: " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم 33إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 34" (المائدة:33-34). والآية هذه قد وردت في سياق ظرفي استثنائي لمعالجة واقعة تاريخية بعينها، حيث يروى أن جماعة قدمت من عرينة إلى المدينة وأعلنت إسلامها، ثم غدرت براعي إبل الصدقة فقتلته ومثلت به واستاقت الإبل، فأجرى عليهم الرسول (ص) عقابا انتقاميا قاسيا على سبيل القصاص والعبرة، وجزاء على غدرهم، حيث قابل فيه القتل بالقتل والتمثيل بالتمثيل10، وذلك مصداقا لقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة-194). فهذه واقعة تاريخية مرتبطة بسياق زمني معين تطبعه ثقافة خاصة11 لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتجاوز حدود زمنها. بيد أن عددا من فقهاء النص جعلوا هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، وابتدعوا ما سمي فيما بعد بحد الحرابة. "قال أبو حنيفة: إذا قتل (بفتح القاف) قتل (بضمها) وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه..وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت، وخلى؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة"12. وهكذا فإنك لن تملك إلا أن تجد أعذارا لكل من يرمي الإسلام والمسلمين بالهمجية والعنف، أمام مثل هاته النصوص والتأويلات التي يعج بها التراث والفقه الإسلامي، والتي تعارض في أغلبها سياقات وأحكام النصوص القرآنية، خاصة عندما يشاهد هذا الباحث أو ذاك المتتبع ما باتت تتباهى به اليوم بعض الجماعات التكفيرية التي تدافع عن هاته الرؤى والطروحات أمام شاشات الإعلام مما تسميه "تطبيق الشريعة" في محاولات منها لتنزيل هذه التأويلات والأحكام على أرض الواقع13. هوامش: 1- يمكن أن نستشهد هنا بإلغاء عمر بن الخطاب (رض) لسهم المؤلفة قلوبهم و تجاوز نظام القود الجاهلي في القصاص بتحويل الاحتكام في هذا الأمر إلى السلطان بعد تبلور الدولة. 2- وقد رأينا كيف كان القرآن يتراجع أحيانا عن بعض التشريعات في نصوصه ويعوضها بتشريعات جديدة رغم انحسار دائرة الوحي آنذاك في بيئة قبلية مغلقة نسبيا مما يعكسه الناسخ والمنسوخ في القرآن والذي يمثل هاته الروح المنفتحة على السياق. 3 -أخرج هذا الحديث عدد من رواة الصحاح كالبخاري والنسائي وابن حبان وأبو داود وأحمد..وقد جاء الحديث عن طريقين أحدهما هو عكرمة البربري، وقد جاء في سير أعلام النبلاء ما يفيد بكذبه حيث قال عبد الله بن عمر لمولاه نافع: اتق الله، ويحك، لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. والثاني بُرَيْدُ بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري من الكوفة. قال أبو حاتم لا يحتج ببريد – وقال أحمد: يروي المناكير. 4- "لاإكراه في الدين" البقرة-256، "وما على الرسول إلا البلاغ" المائدة-99، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس-108.. 5- أنظر سيرة ابن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله ص 241، طبقات ابن سعد (8/97)، الروض الأنف (2/ 347).. 6- روى الواقعة عدد من المحدثين كالنسائي وأبو داود وصححها الألباني في"صحيح النسائي". 7- ضرورة أن يأتى بأربعة شهود على واقعة الزنا، ويشترط أن يشاهدوا الأمر بأم أعينهم وهو ما لا يمكن تصوره حتى إلا إذا كانت الواقعة في الشارع العام! 8- كتاب صحيح البخاري كتاب الحدود/ باب الرجم في البلاط. وكتاب شرح مسلم للنووي وكتاب سنن أبي داود. 9- في نفس السياق ينسب البعض حكم معاذ بن جبل (رض) على بني قومه من يهود بني قريظة بعد خيانتهم للمسلمين في غزوة الخندق بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ونسائهم إلى الرسول (ص) مع أن زعيمهم معاذ هو الذي حكم فيهم وبأعرافهم. 10- أنظر التفاسير الواردة في هذه الآية كالجامع وابن كثير والطبري.. 11- كان العرب يصلبون قاطع الطريق، ويروى أن النعمان بن المنذر صلب رجلا من تميم كان يقطع الطريق. 12- الجامع، م 3، ج 6، ص 86-87. 13- كما كانت تفعل حكومة طالبان إبان حكمها لأفغانستان، وما فعلته داعش عند احتلالها لأجزاء كبيرة من العراق وسوريا.. *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected]