في كتابه "مقدمة عن توتر القرآن"، الصّادر عام 2017، يحاولُ الكاتب والمفكر المصري جمال عمر، في قراءة تجمعُ بين الفلسفة والدين والصوفية والفقه والحفْر المعرفي في التاريخ، أنْ يسلّط الضوء على علاقة المفكرين المسلمين بالمصحف الكريم عبر القرون الماضية، وكيف تعاملوا مع هذا التوتر في المصحف، متسلحاً بمناهجَ علمية رصينة تنهلُ من قراءة تاريخية نقدية للتراث الإسلامي. وينطلقُ الكاتب والروائي المصري الذي هاجرَ إلى أمريكا من قراءات تاريخية سابقة للقرآن، سواء كانت من عندِ مفكرين مسلمين أو غربيين، مقراً بأن "هذه الجهود بيّنتْ أننا كثقافة نحتاج إلى رصد كيف تعاملنا مع المصحف عبر القرون الماضية، ليس من خلال الطريق التقليدية بأن آتي بعدد من كتب التفسير التي وصلتنا، ثم أقوم بتصنيفها وكتابة تقرير خارجي عن كل تفسير كما فعل الشيخ الذهبي أو مولانا هادي معرفة، من تصنيف تفسير بالرأي وآخر بالرواية، وتفاسير حسب المذهب الفقهي، وحسب المذهب العقيدي، وفي العصر الحديث تفسير اجتماعي وتفسير موضوعات، وتفسير لغوي وبلاغي". الجزء 2 تقول إنَّ المدونات التراثية حول القرآن نقلتْ، في ما يشبه الاتفاق، أنه ظهر كمجموعة آيات، تليها مجموعة أخرى، في سياق وقائع وأحداث، على مدار ما يزيد عن عشرين عاما؛ ولم يخرج النبي إلى المسلمين الأوائل بنص مكتوب في صحيفة، بل خرج عليهم بكلام يخاطبهم به، فهو كلام منطوق، على أجزاء. هل من توضيح أكثر لهذه النقطة؟ حسب التراث الروائي الذي وصلنا فإن النبي عليه السلام على مدار اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر كان يأتيه الوحي ثم ينطق بعبارات منطوقة هي الوحي القرآني، ثم تُدوَّن بطرق عرب الحجاز في التدوين في ذلك الوقت، ويتبادلونها شفاهيا، تعليما وتعلّما، ليس لعدم توفر وسائل كتابة سهلة التداول فقط، لكن لأن عدد المتعلمين أصلا كان قليلا. وبعد وفاة النبي حصل جدل على جمع هذه التدوينات في مكان واحد في فترة حكم أبو بكر الصديق، حتى عامين من حكم الحاكم عثمان بن عفان عليه رحمة الله. قامت عملية نسخ التدوينات المختلفة في ترتيب معين، وبين دفتي "كتاب" أُطلق عليه "مُصحف"، وهذا تقريبا بعد بداية الوحي بسبعة وثلاثين عاما؛ فخلال هذه العقود كان تبادل كلام الوحي في غالبه شفاهيا، كآيات وكسور وليس بترتيب معين، كما هو ترتيب السور داخل المصحف، فقد وردت لنا مرويات أن الملك جبريل كان يراجع القرآن مع النبي مرة كل عام، وفي عامه الأخير عليه السلام راجعه مرتين. لكن لم ترد مرويات عن عمليات مراجعة مثل هذه بين النبي وبين المسلمين ليختموا قراءة ما نزل من وحي القرآن من بداية الوحي حتى وقتهم في شهر رمضان مثلا، في أي سنة من السنوات العشر التي عاشها النبي في المدينة. وكان للنبي مسجد وكان للمسلمين الأوائل كيان ومجتمع شبه مستقر، لهم فيه الولاية على إدارة أمورهم..الوحي المنطوق تم تقييده في آيات منفصلة وفي سور..هذه الفترة، أي 37 عاما قبل تقييد الوحي، اهتم بها محمد أركون ودرس فيها الظاهرة القرآنية، وهي القرآن كتبادل شفاهي قبل عمليات التقييد والتكوين والتدوين والضبط التي تمت في رسم المصحف. انتقدَ المفكر محمد أركون جهود الفقهاء وتعاملهم مع القرآن، بعد أن أصبح مصحفا، إذ ركزوا على الآيات (التشريعية) الفقهية، والتي اختصروا القرآن فيها، فتحول إلى نوع من "القانون المؤسساتي الصارم". كما سعى أركون إلى دعوة المسلمين في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" إلى أن ينظروا للقرآن في نسيجه اللغوي القائم على الرموز الرائعة، والمجازات المتفجرة التي تسحر الألباب..هل تتوافقُ مع هذا الطرح؟. سأدخل تعديلا بسيطا على مداخلة أستاذنا محمد أركون ومداخلتك هنا؛ لأن الفقهاء طبيعي أن يركزوا الآيات التي بها توجيهات سلوك، فهدفهم هو إيجاد ضوابط للسلوك، فيركزوا على أفعال الأمر والنهي في نصوص الآيات. هذا ليس الإشكال في نظري، لكن الإشكال أنه بجانب هذا المدخل الفقهي كانت هناك مداخل أخرى في تراث المسلمين، في تعاملهم مع المصحف، مثل المدخل اللاهوتي/ الكلامي الذي يحاول استخراج تصورات عن الله وعلاقاته بالإنسان وبالكون وتصورات عن من أين أتينا وإلى أين تسير حياتنا وما المآل...الخ.. من خلال مفاهيم المُحكم والمتشابه. كذلك كان هناك المدخل اللغوي والبلاغي الذي تعامل مع المصحف كتكوين لغوي من خلال مفاهيم مثل الحقيقة والمجاز والمبنى والمعنى...الخ. وكان هناك المدخل الصوفي الذي كان يسعى إلى الوصول عبر الرياضة الروحية إلى الارتقاء من الجوانب المادية التي تربط الإنسان بالأرض، لأن الإنسان مخلوق من طين. لكن هناك جانب إلهي في الإنسان، لكونه قد بث فيه الله "من روحه"؛ ففي الإنسان يتجلى التداخل بين المادي الأرضي، لكونه من طين، وبين الجانب الروحي، لأن الله نفخ فيه من روحه. وقد تعامل المتصوفة مع القرآن على أنه كتاب الله المرقوم، والكون هو كتاب الله المنثور، وتعاملوا معه من خلال ثنائية الظاهر والباطن..كذلك المدخل الفلسفي…. الخ. لكن ما حدث أنه مع عصور الضعف والتراجع تراجعت الرؤية الفقهية للعالم، وأصبحت طريقة تعاملها مع المصحف اختصاره في كتاب ضوابط سلوك فردي وجماعي، عبر مذاهب. هذه الرؤية للعالم هي التي أخذت مكان الصدارة وقامت بتهميش الرؤى الأخرى من المشهد؛ همشت المدخل الكلامي وهمشت المدخل اللغوي والبلاغي، وهمشت المدخل الصوفي والمدخل الفلسفي؛ في حين أن مذاهب الفقه تتعامل مع ما بين ثلاثمائة آية إلى خمسمائة آية من المصحف على حسب تصنيف المصنفين، وهذا من 6236 حسب عدد آيات المصحف الرسمي السائد، وهذا يتناول ما بين خمسة إلى تسعة في المائة من آيات المصحف.. كمن تركوا كل حجرات البيت واكتفوا بالجلوس والانتفاع بغرفة واحدة. هذه الرؤية الفقهية للعالم تشهد عمليات انفجار من داخلها، انفجارا بعد انفجارا خلال القرن ونصف الماضيين، وكل ما يتم حيال هذه الإنجازات مجرد عمليات ترميم وترقيع وعمليات إطفاء حرائق حتى الآن، لكن هذا موضوع آخر. من هنا أهمية أن نبحث لماذا سادت الرؤية الفقهية؟ ولماذا همشت الرؤى الأخرى؟ ومن هنا أهمية دعوة محمد أركون إلى شمولية التعامل مع المصحف وجهود فضل الرحمن في باكستان عليه رحمة الله وجهود شبستري في إيران أطال الله في عمره، وجهود نصر أبوزيد التي لم تأخذ حقها من الدرس بعد، وجهود محمد محجوب الآن في تونس رغم نخبوية لغته. لكن لهذه الجهود جذر قديم كان في بدايات القرن العشرين في مدرسة الشيخ أمين الخولي (1895 - 1966)، والمدرسة الأدبية لدراسة القرآن الكريم، معتمدة على تركيز محمد عبده ذاته على أن القرآن كتاب هدي وليس كتابا في العلم ولا السياسة ولا القانون...الخ.. وهي جهود لم تنل حقها من الاهتمام والدرس الدقيق بعد.. وكذلك جهود تلميذه محمد أحمد خلف الله عن الجدل في القرآن، وعن القصص الفني القرآني، وجهود شكري عياد في رسالته للماجستير عن يوم الحساب في القرآن. وحتى جهود سيد قطب ذاتها في التصوير الفني في القرآن، وفي مشاهد يوم القيامة في القرآن. في الفصل الثّالث من كتابك، أشرْتَ إلى أنَّ التحول الذي طرأ على حياة المؤمنين بعدَ وفاة النبي عليه السلام، ومع توسع العمران وتجاوز حالة "القبيلة" وتعقد حياتهم، دفعَ إلى الاستعانة بالقرآن الكريم لرفع التوتر، خاصة في مواضيع الخمر والزنا وعدّة المرأة ومعاملة أهل الكتاب، كيف تعاملَ المفكر المسلم مع هذا التوتر الظاهر في الآيات؟. مسألة تجاوز حالة القبيلة هذه مازال فيها نظر، فمازالت القبيلة والعشيرة والعائلة حتى الآن حية، لكن هذا موضوع آخر. ربما تعني الخروج من بساطة الحياة في الحجاز إلى تجمعات أكثر تركيبا وتعقيدا وأكبر حجما في الشام وفي العراق وفي مصر وفي فارس وفي غيرها؛ فكانت حاجة السلطة السياسية، بل وقبل منها حاجة المجتمعات ذاتها، إلى إيجاد قواعد تضبط السلوك وتضبط المعاملات بين الناس بأنواعها، فكانت نصوص المصحف زادا في ذلك، خصوصا تلك الآيات التي بها توجيهات..تأتي قاعدة يتم تكوينها وتقول "إن كل أمر يُفيد الوجوب"، بمعنى إذا كان هناك أمر في القرآن فهذا أمر من الله، ما يعني أننا يجب أن نفعل ذلك؛ فحين يقول "أقم الصلاة" فهذا يفيد وجوب الصلاة مثلا.. ثم يبدأ المفكر المسلم في بناء شروط هذا الوجوب، فلكي تكون الصلاة واجبة فهي واجبة على بالغ، عاقل، توفرت شروط الطهارة فيه وفي المكان الذي سيصلي فيه، وقد وحل وقت الصلاة، مثلا. حين يتناول المفكر المسلم الآيات التي يُشار فيها إلى الخمر سيجد اختلافا بين آية تتحدث عن أن للخمر منافع وأضرارا، وأضرارها أكبر من منافعها، وسيجد أيضا: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، وسيجد ثالثة تتحدث عن اجتنابها ضمن مُجتنبات أخرى؛ فأي من هذه سوف يبني استنباطاته عليها؟ هل هي منافع وأضرار وكل من البشر يحدد لنفسه هذه المنافع وتلك الأضرار ويوازن بينها ويختار؟ أو هل يستنتج أنها في فترة النهار وحتى صلاة العشاء لا يقربها حتى لا يسكر لأننا تم نهينا عن الاقتراب من الصلاة ونحن سكارى؟ أم أن يتم تجنبها في كل زمان ومكان وفي أي وضع وأي حال؟ ولرفع هذا التوتر أقام المفكر المسلم مجموعة القواعد الفكرية، مثل قاعدة "الناسخ والمنسوخ"، "الخاص والعام" "المُطلق والمقيد"...الخ فكانت قاعدة الناسخ والمنسوخ بأن هناك آيات أتت بعد آيات وقد غيرت "حكمها". ويتفق كثير من المفكرين على القاعدة، لكنهم يختلفون مثلا في تحديد أي الآيات ناسخ وأيها منسوخ؛ فما قد ثبت نسخه عند مفكر مسلم ربما لم يثبت دليل نسخه عند الآخر، ومن هنا التعدد في الآراء الفقهية. وكذلك الأمر في المسائل التي أشرت أنت إليها في سؤالك عن عدة المرأة وقيامها على الاختلاف في التحديد اللغوي لكلمة "قُرء"، أو في مسألة معاملة المسيحيين، فالمفكر المسلم سيجد في المصحف "لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، وسيجد أيضا "لتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى"...الخ من الأمثلة، فينتج المفكر المسلم تلك القواعد الفقهية لرفع هذه التوترات. هذا التوتر حاضر أيضاً عندما يتعلق الأمر بالنبي محمد (ص)؟ واضحٌ أنك مهتم بالجانب الفقهي وتطبيقاته العملية في الحياة اليومية. بالنسبة للنبي محمد عليه السلام هل دوره "فذكر إنما أنت مُذكِّر لست عليهم بمسيطر"؟..وكل الآيات التي تشير إلى هذا الجانب..مع الآيات الأخرى التي تتحدث عن دور قيادي وولاية للأمر من جانب النبي: "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيِّرة من أمرهم"..تنشأ قضايا من هذه الأمور.. هل كل ما يفعله النبي نتاج وحي أم فقط ما يبلغه عن الله؟.. وإذا كان ما فعله أو أقره أو نهى عنه الرسول "وحي" هل هذا الوحي الذي أسمي "السنة" شرع ليوم الدين؟ ثم النقطة الثانية هل هذا الوحي/ السنة ينسخ وحي القرآن؟ وهي نقاشات مازالت مستمرة حتى اليوم. كيف تعامل المفكرون المسلمون مع هذا التوتر؟ بسؤالك هذا وكأنك تقول لي لخص كتابك، لأن الكتاب كله يتناول كيف تعامل المفكرون المسلمون من القدماء ومن المحدثين مع مظاهر هذا التوتر في المصحف. لكن عموما هناك جانبان يتصارعان داخل بنية المصحف من حيث مصدره الإلهي ومن حيث أن هذا الكلام الإلهي المصدر تجلى عبر وسيط بشري تاريخي هو اللغة العربية بنسبيتها وبتغيرها الدائم.. فهناك صراع دائم بين الجانبين. هذا التجاذب قام المسلمون بمحاولات رفعه دائما عبر إيجاد ثنائيات، لتصبح الحقيقة رواحا ومجيئا بين جوانب الثنائية؛ فعند القدماء في مجال المعتقدات ثنائية المُحكم والمتشابه، وفي الفقه من عبادات ومعاملات ثنائيات مثل الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمُطلق والمقيد والمكي والمدني.. الخ، وفي اللغة والبلاغة ثنائية مثل الحقيقة والمجاز، ومثل المبنى والمعنى، وفي التصوف ثنائية مثل الظاهر والباطن أو الحقيقة والشريعة، وفي عصورنا الحديثة أنتجنا ثنائيات أخرى ومازلنا، مثل ثنائية الإسلام والمسلمين، وثنائيات الثابت والمتغير، الشريعة والفقه..وثنائيات مثل ما طرحه محمد شحرور: القرآن والكتاب، وعبد الكريم سروش في إيران عن القبض والبسط، ونصر أبوزيد عبر ثنائية المعنى والمغزى، وعلي مبروك عبر ثنائية التأسيسي والإجرائي، وعبد الجواد ياسين عن الدين والتدين...الخ من الثنائيات التي لا تنتهي، واللب الأساسي منها هو محاولة رفع التوتر عن جنبات المصحف وفي علاقته بالتغيرات التي نعيشها في حياتنا وبين المدلولات والمعاني التي وصل إليها المفسرون والفقهاء والمتصوفة والمفكرون المسلمون السابقون علينا. وقد حاولت قدر إمكاني تناول جوانب الإشكال في الكتاب، لنصل إلى سؤال هل استطاعت هذه الثنائيات رفع التوتر؟ والسؤال الثاني هو هل التوتر أصلا يحتاج إلى أن نرفعه أم هو خصيصة من خصائص إنتاج المعنى في القرآن؟ وهذا ما يحتاج إلى مؤلف آخر للنظر فيه.. والله أعلى وأعلم.