1 - وافق المغرب مؤخرا بجنيف، على قرار أممي لضمان حرية الدين والمعتقد؛ وعلى الرُّغْم مِن أنّ القرار يشدد على ضمان حرية العقيدة بجميع أشكالها وصورها، اعتقادا وممراسة؛ ما يعني أنه يحق للمسلم المغربي بعد تفْعيل القرار، أن يُجاهر بإلحاده، أو بارتداده عن دينه إلى دين آخر،..إلخ؛ على الرغم من كل ذلك، فإنّ الخبر مرّ بهدوء ولم يُثِر ردود أفعال قوية، خاصة من قِبَل الفقهاء والمؤسسات الدينية. قضية حرية العقيدة، اعتقادا وممارسة، أصبحت جزءا من حقوق المواطن المُسَلّم بها في الدول الحديثة؛ لذا كان من المفروض، ومن تمام الشعور بالمسؤولية، لو بادر الفقهاء أنفُسُهم إلى مناقشة هذه القضية مع مختلف فعاليات المجتمع المدني، وحسموا فيها الموقف الشرعي على المستوى الوطني بكل عقلانية وموضوعية، قبل أن تأتي في سياق دولي يفيد وكأنها فُرضَت من الخارج؛ خاصة وأنها "حرية العقيدة" أصبحت مُحْرجة فعلا للدول الإسلامية؛ ذلك لأنه في الوقت الذي تسمح الدول الغربية للمسلمين بإظهار دينهم، ودعوة الناس إليه جهارا، وتوزيع المصاحف والكتب الدينية في الأماكن العامة كالشوارع وغيرها..إلخ؛ تَمنع في المقابل كثير من الدول الإسلامية هذا الأمر، بل وتعاقب مَن وزع منشورات دينية تدعو إلى دين غير الإسلام. "حرية العقيدة" ليست أمرا غريبا على الإسلام؛ فالقرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حافلتان بالنصوص التي تبين موقف الشرع من هذه المسألة، وتنتهي على الأقل إلى حكم عام مفادُه أن قضية الإيمان مبنية على الاختيار الحر. كما يشتمل الفقه الإسلامي على آراء متعددة ومتنوعة في الموضوع؛ وإن كان بعضها قد نَحَى إلى تضييق مفهوم حرية العقيدة، فحصرها في أهل الكتاب فقط، أي اليهود والنصارى؛ واستثنى ما سواهم من الملحدين وأصحاب الأديان الأخرى..إلخ؛ وبعضها الآخر ربما تأثر بظروف تاريخية وسياسية معينة؛ وذلك كمسألة الردة؛ حيث اتجهت أغلب آراء الفقهاء إلى استثنائها من عموم مفهوم حرية العقيدة، لتصبح بذلك واحدة من القضايا الشائكة أمام الفقهاء المعاصرين؛ حتى إن قلة منهم فقط، مَن تجرأ على إفرادها بالبحث والدراسة، كالدكتور طه جابر العلواني، في كتابه المعنون ب: "لا إكراه في الدين"، والذي درس فيه موضوع الردة في سياقها التاريخي من صدر الإسلام إلى الوقت الراهن، وانتهى فيها إلى رأي مخالف لما استقر عليه رأي جمهور الفقهاء المتقدمين. أقول، وإن كانت بعض هذه الآراء الفقهة قد ضيّقت مفهوم حرية العقيدة؛ إلا أن المسألة ككل ليست من القضايا التي رُفعت عنها الأقلام وجفّت فيها الصّحف، وإنما هي من القضايا التي يمكن بل يجب أن يتجدد فيها البحث؛ خاصة في الوقت الراهن الذي تغير فيه مفهوم العلاقة بين الدولة والمواطنين عما كان عليه في السابق. وتَنَوُّعُ الآراء الفقهية في الموضوع، هو في حد ذاته معين على قراءة هذه القضية من جديد. 2 - بإزاء الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية التي تصرح بحرية الاختيار في قضية العقيدة، هناك نصوص شرعية أخرى، قد يُفهم من ظاهرها أن الإسلام لا يقر حرية العقيدة، بل يقاتل الناس لإكراههم على الإيمان. في حوار مع بعض إخواني الأئمة حول الموضوع، استشكل بعضهم أحدَ هذه النصوص، وهو الحديث الصحيح: "عَنِ ابن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ ، فإذا فَعَلوا ذلكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُم وأَموالَهُم، إلاَّ بِحَقِّ الإسلامِ ، وحِسَابُهُم على اللهِ تَعالَى". ظاهر الحديث قد يشكّل إرْباكا لبعض المسلمين؛ خاصة إذا ما فُهم بمعزل عن النصوص الأخرى في الموضوع؛ ومصدر الإرباك ناتج عن أن الذّهن قد يتّجه أول سماعه، إلى أن الدّافع للقتال الوراد في هذا الحديث: هو الكفر؛ أي أنه وَجَب قتال هؤلاء الناس لأجل أنهم كفار؛ ومن ثَمَّ ينتهي معنى الحديث إلى أن الإسلام لا يقر حرية العقيدة!! ولْنَقف قليلا مع هذا الحديث وأقوال الفقهاء فيه، مستهدفين من ذلك أمرين، أولهما: محاولة فهمه فهما صحيحا من خلال ربطه بالنصوص الأخرى الواردة في الموضوع، وثانيما: الإطلاع على أقوال الفقهاء المتقدمين في الموضوع. طرح الفقهاء عند شرحهم لهذا الحديث سؤالا مفصليا، هو: هل قتال الكفار لكفرهم؛ أو لِدَفْع الضّرر؟ هذا السؤال ضروري وجوهري، وتحديد الإجابة عنه بشكل صريح، تفضي بالضرورة إلى فهم قضية حرية العقيدة بشكل صحيح. أول ما نبحث في الإجابة عن هذا السؤال، نجد أقوال الفقهاء متجهة إلى رأيين على الأقل؛ فقد رأى بعضهم: أن سبب القتال هو: الكفر؛ وفي المقابل ذهب عامتهم إلى أن سبب القتال ليس الكفر، وإنما دَفْعُ الضَّرر؛ قال المباركفوري: " وكون قتال الكفار لكفرهم، هو مذهب طائفة من أهل العلم، وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر". انتهى. "تُحْفَةُ الأحْوَذي بشرح جامع الترمذي" باب: "ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة". فعلى الرأي الأول، أي أنّ القتال لأجل الكفر، فالمعنى أن هؤلاء يُقاتَلون لأجل إجبارهم على التّخَلي عن دينهم واعتناق دين جديد هو الإسلام. وعلى الرأي الثاني، أي أن القتال ليس لأجل الكُفْر، وإنما لدفع الضّرر؛ فالمعنى أن قتالهم في حالة حصوله، إنما هو لأجل ردّ إذايتهم، ولا علاقة له بضرورة إجبارهم على الإيمان. وطبعا لكل من الطائفتين أدلة، فمن أدلة أصحاب الرأي الأول، أي القائلين بأن القتال لأجل الكفر، هو ظاهر هذا الحديث نفسه؛ أي قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس.."؛ لكن إذا ما نظرنا إلى أدلة الفريق الآخر، فسنجد أنها الأقوى في هذه المسألة، وهي الأولى بالاتباع؛ ومن أدلتهم: أولا: الآيات القرآنية: فالقرآن الكريم يصرح في آيات كثيرة وبأساليب متنوعة، أنه لا إجبار ولا إكراه في قضية الإيمان والعقيدة؛ وأن الناس مَوْكُولُون في هذا الأمر إلى اختياراتهم الشخصية؛ ومن هذه الآيات قوله تعالى: " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" البقرة/256. وقوله تعالى:" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" الكهف/29. وقولع تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" يونس/99. وقوله تعالى: " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ " الشورى/48. وقوله تعالى: " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" الغاشية/ 21-22 .. إلخ. فالآيات كلها صريحة في أنه لا إجبار ولا إكراه في مسألة الإيمان، وأن مهمة النبي صلى الله عليه محصورة في التبليغ؛ ونستأنس هنا بما ذكره الطاهر ابن عاشور رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"؛ قال: " ونَفْيُ الإكراه خبر في معنى النّهي، والمرادُ نفْيُ أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تُكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قَسْرا؛ وجيء بنَفْي الجِنْس لقَصْد العُموم نَصّا؛ وهو دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأنّ أمْرَ الإيمان يَجْري على الاسْتدلال، والتّمْكينِ منَ النّظَرِ، وبالاخْتيار". انتهى؛ تفسير "التحرير والتنوير". ثانيا: الآيات ليست منسوخة. يعتقد البعض أن هذه الآيات، وخاصة قوله تعالى: "لا إكره في الدين" منسوخة، ويوردون في ذلك عبارة منقولة عن بعض السلف، وهي أن كل ما جاء في القرآن من آيات المُوَادَعَة، فقد نُسخ بأية السيف، التي هي قوله تعالى: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .." التوبة/05. يأتون بهذه العبارة وكأنها أمْر مُسلّم ومحَلّ إجماع، ولكن الحقيقة أن ادّعاء نسخ هذه الآيات، هو مُجرد رأي من ضمن أكثر من ستة أقوال أخرى ذكرها المفسرون لهذه الأية، وقدم له بعضهم كالإمام القرطبي بلفظة " قيل" التي تفيد أنه ليس قَويّا في المسألة، لأنه يفتقر إلى الأدلة التي تثبت وقوع النّسخ، فقال: "اختلف العلماء في معنى هذه الآية "لا إكراه في الدين" على ستة أقوال: "الأول: قيل إنها منسوخة ..."؛ الجامع لأحكام القرآن. بل إن بعض المفسرين كالطاهر ابن عاشور، ذهب إلى أن الأمر بعكس ما تقدم، أي أن قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" هو النّاسخ لقوله تعالى: " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين.." الآية؛ وناسخ أيضا للحديث السابق: " أُمِرت أن أقاتل الناس.." يقول الطاهر ابن عاشور: " .. وعلى هذا تكون الآية "أي: لا إكراه في الدين" ناسخة لما تقدم من آيات القتال ... كما نسخ حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم". انتهى؛ التحرير والتنوير. فالحكم الأصلي الثابت للآية؛ هي أنها مُحْكَمَة؛ ويبقى كونها ناسِخَة أو مَنْسوخَة مُجرد رَأْي قد يَقْوى أو يضْعف بالنظر إلى الأدلة التي يستند إليها. ثالثا: أحاديث النّهْي عن قتل الشيوخ والنساء والرهبان والأطفال. ومن الأدلة الصريحة على أن القتال الوارد في الحديث، ليس لمجرد الكفر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، والشيوخ، الرهبان، ممن لم يساهموا في المعركة إلى جانب العدو، فلو كان القتال لمجرد الكفر لما كان ثمة داع لاستثنائهم؛ وقد روى ابن أبي شيبة كثيرا من هذه الأحاديث في كتابه "المُصَنّف" باب: "من يُنْهى عن قتله في دار الحرب"؛ وهو أمر مشهور ومعلوم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر عليه الفقه الإسلامي، يقول ابن أبي زيد القيرواني في رسالته الفقهية، باب الجهاد: "ولا يُقتل أحد بعد أمان ولا يُخْفَرُ لهم بِعَهْد ولا يُقتل النساء والصبيان ويُجتنب قتل الرهبان والأحبار إلا أن يقاتلوا" انتهى. فلو كانت علة القتال هي الكفر، أي إجبار الناس على ترك عقائدهم وإكراههم على الإسلام، لما استُثني هؤلاء، وخاصة الرهبان والأحبار، لأنهم حماة العقائد في مِلَلِهِم. رابعا: بيْن لفْظْىتي قاتل وقَتَل. ومن حيثُ اللغة، فإنّ الوارد في الحديث، هو لفظة "أُقاتِل" وليس "أَقْتُلُ" وبينهما بَوْن شاسع من حيث دقة المعنى. ف "قاتَل" من أفعال المُشاركة، التي تعني وُجود طرف ثان يقوم بنفس العملية، وذلك مثل: صافَح، ورَاهَنَ، ولا يستقيم معناها بوجود الفعل من طرف واحد فقط، فإذا قُلت صَافَحَ، فالفعل يَقْتَضي على الأقل طَرَفَيْن مُتَقابلين لإنْجَازِ المَعْنى الذي يدُل عليه الفعل. وعليه ففعل "أقاتل" الوارد في الحديث، يفيد أن هناك طرفا ثانيا مقابلا يقوم بنفس العملية، أوهو في حالة استعداد للقيام بها؛ فدلالة الحديث هنا تتنزل على قوله تعالى: " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً". التوبة/36. وقوله تعالى: " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" البقرة/ 190. ننتهي مما تقدم، إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل .." لا يدل على أنهم يُقَاتَلُون بسبب أنهم كفار، يجب إجبارهم على الإسلام؛ هذا إذا اعتبرنا أن الحديث مُحْكَما ولَيس مَنْسُوخا؛ أمّا إذا وافقنا الإمام الطاهر ابن عاشور في رأيه على أنّ هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين" فلا نحتاج إلى هذه الأدلة كلها. أخيرا، أظن أن حماية أي عقيدة والحفاظ عليها، ومنها الإسلام طبعا، لن يتأتي من خلال إجبار الناس على اعتناقها، بل من خلال بيان أهميتها وأحقيتها، ويبقى بعد ذلك للإنسان الحق الكامل في قَبُولها أو رفْضها، قال تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" الكهف/29. والله ولي التوفيق. -إمام/ألمانيا. [email protected]