الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وبعد، كثر الحديث هذه الأيام عن حرية العقيدة والدين، وخاض البعض في حكم المرتد وما ساد من القول بقتله في الشريعة الإسلامية ومدى منافاته للحرية الفردية. والواقع أن مثل هذه القضايا يتناولها المتخصصون من العلماء والمفكرين الذين استوعبوا نصوص الشرع من القرآن والسنة، والفهوم التي يحملها مصطلح المرتد فيها، إضافة إلى فقه واقع زمن التنزل والسياقات الأمنية والاجتماعية التي رافقت ظهور حركة الردة في مجتمع المسلمين الأوائل. مما سيرشد أي عملية تنزيل ما يرتبط بها من أحكام في واقعنا المعاصر. ولا يخفى أن الموضوع أكاديمي كبير ومتشعب، ومحل بحثه العمل العلمي الرصين، لكن هذا لا يمنع من تسطير جملة من الخلاصات في ضوئها يستقيم الفهم وتنجلي الشبهات. أولا: من الحقائق القطعية التي لا يختلف فيها اثنان أن الإسلام مؤسس على حرية الاختيار وأن الله تعالى لا يقر أن يُكْرَه أحد على دين. والنصوص في هذا أكثر من تحصى. من مثل: قوله تعالى: {أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}النحل 125 وقوله تعالى: {وَقُل الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُومِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر}الكهف 29 وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الارْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُومِنِينَ.}(يونس 99) وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُومِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.}البقرة 255 وقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُم اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة 8 بل الأبلغ من هذا كله أن الجهاد ما شرع أساسا إلا لتحقيق حرية التدين وفسح المجال للاختيار الراشد بعيدا عن الفتن والإكراه والعدوان. لذا قال الله تعالى في أول آية تؤذن للمسلمين الأوائل بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دِفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز.} الحج 39. 40. أما الآية الأولى التي أوجبت القتال فقد عللت بكلام فصيح صريح، فقال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.}البقرة 189، فالداعي إذن هو العدوان والاعتداء وليس ما كان عليه القوم من دين. إضافة إلى هذا كله فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحدا بقتال البتة، وكل المعارك التي خاضها كانت باعتداء الآخرين وصدهم عن سبيل الله. ثانيا: طيب، فما حكاية المرتد وقضية قتله؟ وهنا وجب النص على أمور: أولها: لا نجد في القرآن الكريم النص على قتل المرتد كما نص على قتل قاتل النفس وعلى قتل المحاربين. ثانيها: من أبرز ما صح في قتل المرتد ما يلي: ففي الصحيحين وغيرهما عَنْ عَبْد ِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ. ، وفي رواية مسلم: وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة. والتَّارِكُ الْإِسْلَامَ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَوِ الْجَمَاعَة). فعن أي ردة يتحدث النبي عليه الصلاة والسلام؟ كل من له أدنى اطلاع على التاريخ يعلم أن الردة في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين لم تكن ممارسة ذاتية الباعث عليها القناعة والحرية، بل الردة كانت حركة تمرد سياسية مقصدها الأساس المروق من جماعة المسلمين والخروج عن النظام العام للأمة والوقوف في وجه بنائه الاقتصادي، والتكتل المسلح في وجه السلطة الشرعية. هذا ما تترجمه الأحداث المختلفة، وهو ما يفسر الموقف الصارم للصحابة الكرام من المرتدين. فالمرتدون في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه كانوا قسمين كما ذكر القرطبي رحمه الله: "قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي." فالقاسم المشترك بينهما هو الخروج عن الأمة والتمرد والعصيان والمحاربة، وربما الانضمام إلى العدو المحارِب. فالردة تهديد لهوية الأمة وزعزعة لاستقرارها وتعريض أمنها للخطر. أما إذا انتفت هذه النزعة العدوانية وكان الأمر أمر قناعات ورؤى فعلاجها والمدخل إلى التعامل معها هو الجهاد البياني الدعوي العلمي، ولو تطلب ما تطلب، من الوقت والجهد. والله أعلم. وهذا ما يفسر اختلاف الفقهاء في استتابة المرتد ومدتها، واختلافهم في قتل المرتدة واستثناها بعضهم من ذلك. وهذا المعنى جلي في قوله عليه الصلاة في الحديث المذكور: "وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة." فهذا قَيْد تُحمل عليه النصوص الأخرى التي لم تُقَيَّد كقوله عليه الصلاة والسلام فيما خرجه البخاري: "من بدل دينه فاقتلوه" ثَمَّة لون آخر من ألوان الردة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أبطاله من أهل الكتاب اليهود. قال الله تعالى: "وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"آل عمران 72. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "وهذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتَوَروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم، ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين." فهذه الردة لم يكن مبناها الاقتناع والجد والمسؤولية بقدر ما كان غرضها الفتنة والمكر والتشويش وتمزيق الوحدة وإضعاف لحمة الأمة. فأهل الكتاب ما كان أحد يكرههم على دين فقد أقروا على ما كانوا عليه. لكن الأمر هنا أمر تعريض للأمن الروحي للخطر، وأمن المجتمع للاضطراب. وقد استغربت خفاء هذا المعنى على كثير من المفسرين، وعدم ربطهم لهذه الحادثة بحكم المرتدين، إلا ما كان من كلام بديع عميق لصاحب المنار محمد رشيد رضا رحمه الله إذ قال في تفسير الآية: " ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه ، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم. وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى. وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي والله أعلم." ثالثها: الكفيل بإصدار هذه الأحكام ليس عموم الناس وليس فئة من المسلمين ولا جماعة منهم... بل أمر ذلك راجع إلى أولي الأمر وهيئات الحل والعقد ومؤسسة القضاء، لما يتطلبه ذلك من إجراءات واحتياطات ومراعاة لمصلحة الأمة العليا. والله المستعان. *باحث في علاقات المسلم بغيره