توقيف شخص وابنه إثر اتهامات بالتوسط الوهمي للتوظيف في أسلاك الشرطة والإدارة الترابية    عمدة المدينة: جماعة طنجة لن تدخر أي جهد لجعل المدينة في مستوى التظاهرات الدولية وتطلعات المواطنين    فيديو: ترامب يرفع السرية عن ملفي عمليتي اغتيال جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ    وزارة الصحة تواصل تنفيذ التزاماتها بخصوص تثمين الموارد البشرية    "يونيسف": الكوارث المناخية تعطّل تعلم 250 مليون طفل في العالم    الشركة الوطنية للطرق السيارة تقدم توصيات هامة لتجنب الازدحام خلال العطلة المدرسية    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    بعد "الاحتقان" و"التصعيد".. تفاصيل اجتماع عامل الفقيه بنصالح بموظفي جماعة ولاد عياد    تعيين الفرنسي رودي غارسيا مدربا جديدا لمنتخب بلجيكا    الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى: مشروع قانون الإضراب غير عادل    الجزائر نحو عزلة داخلية بعدما عزلها العالم    الاستماع إلى ضابط شرطة متهم بالتورط في الضغط على زوجة بعيوي السابقة    بورصة البيضاء تفتتح التداول بارتفاع    الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة…انتشار حاد لفيروس الحصبة وفقدان أرواح الأطفال    تنفيذا لتعهدات ترامب .. أمريكا ترحل مئات المهاجرين    عجز السيولة البنكية يتراجع ب 8,26 في المائة    مواجهة الفتح والرجاء بملعب البشير بدون جمهور    نادي أحد كورت لكرة السلة يحتج على قرار توزيع الفرق في البطولة الجهوية    السكوري: مناقشة مشروع قانون الإضراب تتم في جو عال من المسؤولية    المكسيك تنشئ مراكز إيواء حدودية تحسبا لترحيل المهاجرين غير النظاميين من الولايات المتحدة    النفط يهبط على خلفية مساعي ترامب لزيادة الإمدادات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    روسيا تتهم رئيسة اليونيسيف بالاهتمام بأطفال أوكرانيا أكثر من غزة    كيوسك الجمعة | أكثر من 10 ملايين ونصف طفل معنيون بالتلقيح ضد "بوحمرون"    لقجع ينفي ما روجه الإعلام الإسباني بخصوص سعي "فيفا" تقليص ملاعب المغرب خلال مونديال 2030    العصبة الوطنية لكرة القدم النسوية تعقد اجتماع مكتبها المديري    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة بالمغرب    مايك وان" يُطلق أغنية "ولاء"بإيقاع حساني    الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية    سيفعل كل شيء.. سان جيرمان يريد نجم ليفربول بشدة    رقم قياسي .. أول ناد في العالم تتخطى عائداته المالية مليار أورو في موسم واحد    ما هو سر استمتاع الموظفين بالعمل والحياة معا في الدنمارك؟    ترامب يسعى لفرض "ضغوط قصوى" على إيران، فكيف ستبدو مع وجود الصين والمشهد الجيوسياسي المتغير؟    تفاصيل تحرك مغربي لدى سلطات بوركينافاسو والنيجر للبحث عن سائقين "مختطفين"    اتفاق مغربي موريتاني يفتح آفاق التعاون في قطاع الطاقة    الأزمي: تصريحات وهبي حول مدونة الأسرة تفتقر للوقار    تألق نهضة بركان يقلق الجزائر    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام        تضارب في الأرقام حول التسوية الطوعية الضريبية    الحكومة تحمل "المعلومات المضللة" مسؤولية انتشار "بوحمرون"    نكسة جديدة للجزائر ودميتها البوليساريو .. مجلس الشيوخ الشيلي ينتصر لمغربية الصحراء    رئيس برلمان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا يطلع على الزخم التنموي بجهة العيون    خط بحري كهربائي بالكامل بين طريفة وطنجة    افتتاح السنة القضائية بمحكمة الاستئناف ببني ملال    مفكرون يدرسون متن الجراري .. طلائعيٌّ وسّع مفهوم الأدب المغربي    هناء الإدريسي تطرح "مكملة بالنية" من ألحان رضوان الديري -فيديو-    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التضامن الإسلامي
نشر في النخبة يوم 22 - 11 - 2010


عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فلا ريب أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه العبادة، وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل الكتب، لبيان هذا الحق، وتفصيله، والدعوة إليه، كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاه}ُ ومعنى قضى في هذه الآية: أمر ووصى، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا}، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}، وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بعبادته سبحانه، والتصريح بأنه خلق الثقلين لهذه العبادة، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها، والدعوة إليها، وحقيقة هذه العبادة: هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بالإخلاص لله في جميع الأعمال، والامتثال لأوامره، والحذر من نواهيه، والتعاون في ذلك كله، وتوجيه القلوب إليه سبحانه، وسؤاله عز وجل جميع الحاجات عن ذل وخضوع، وإيمان وإخلاص، وصدق وتوكل عليه سبحانه، ورغبة ورهبة، مع القيام بالأسباب التي شرعها لعباده، وأمرهم بها، وأباح لهم مباشرتها. وبهذا كله يستقيم أمر الدنيا والدين وتنتظم مصالح العباد في أمر المعاش والمعاد، ولا صلاح للعباد، ولا راحة لقلوبهم، ولا طمأنينة لضمائرهم، إلا بالإقبال على الله عز وجل، والعبادة له وحده، والتعظيم لحرماته، والخضوع لأوامره، والكف عن مناهيه، والتواصي بهم بذلك، والتعاون عليه، والوقوف عند الحدود التي حد لعباده، كما قال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى، والتكافل والتعاطف والتناصح، والتواصي بالحق، والصبر عليه، ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية، والفرائض اللازمة، وقد نصت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين - أفرادا وجماعات، حكومات وشعوبا - من أهم المهمات، ومن الواجبات التي لابد منها لصلاح الجميع، وإقامة دينهم وحل مشاكلهم، وتوحيد صفوفهم، وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك.
والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جدا، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم، والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة، فالتضامن معناه: التعاون والتكاتف، والتكافل والتناصر والتواصي، وما أدى هذا المعنى من الألفاظ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة، وما فيه إصلاح أمر الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك تعليم الجاهل، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم، ورد الظالم عن ظلمه، وإقامة الحدود، وحفظ الأمن، والأخذ على أيدي المفسدين المخربين، وحماية الطرق بين المسلمين داخلا وخارجا، وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية، والاتصالات السلكية واللا سلكية بينهم، لتحقيق المصالح المشتركة الدينية والدنيوية، وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحق، ويقيم العدل، وينشر الأمن والسلام في كل مكان.
ويدخل في التضامن أيضاً الإصلاح بن المسلمين، وحل النزاع المسلح بهم، وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، عملا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
ففي هذه الآيات الكريمات، أمر الله المسلمين جميعاً بتقواه سبحانه، والقيام بالإصلاح بينهم عموما، وبالإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين منهم خصوصاً، وقتال الطائفة الباغية، حتى ترجع عن بغيها، وأن يكون الصلح على أسس سليمة قائمة على العدل والإنصاف، لا على الميل والجور، وفيها التصريح بأن المؤمنين جميعاً إخوة وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم، وتناءت ديارهم، فالإسلام يجمعهم ويوحد بينهم، ويوجب عليهم العدل فيما بينهم، والتضافر والكف عن عدوان بعضهم على بعض، ويوجب على إخوانهم الإصلاح بينهم إذا تنازعوا.
وتدل أيضاً على أن هذا النزاع والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة، ولهذا قال سبحانه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال وهكذا جميع المعاصي لا تخرج المؤمن من دائرة الإيمان ما لم يستحلها، ولكنها تنقص الإيمان وتضعفه. ثم ختم سبحانه هذه الآيات بالأمر بالتقوى، وعلق الرحمة على ذلك فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، فدل ذلك على أن تقوى الله في كل الأمور، هي سبب الرحمة والعصمة والنجاة، وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة.
ويدخل في التضامن أيضاً تبادل التمثيل السياسي، أو ما يقوم مقامه بين الحكومات الإسلامية، لقصد التعاون على الخير، وحل المشاكل التي قد تعرض بينهم بالطرق الشرعية، واختيار الرجال الأكفاء في عملهم ودينهم وأمانتهم لهذه المهمة العظيمة. ويدخل في التضامن أيضاً توجيه وسائل الإعلام إلى ما فيه مصلحة الجميع، وسعادة الجميع، في أمر الدين والدنيا، وتطهيرها مما يضاد ذلك، ومما ورد في هذا الأصل الأصيل - وهو التضامن الإسلامي، والتعاون على البر والتقوى - قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
أمر الله سبحانه في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقاته، ويستمروا على ذلك، ويستقيموا عليه حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك، وما ذلك إلا لما في تقوى الله عز وجل من صلاح الظاهر والباطن، وجمع الكلمة، وتوحيد الصف، وإعداد العبد؛ لأن يكون صالحا مصلحا، وهاديا مهديا، باذلا النفع لإخوانه، كافا للأذى عنهم، معينا لهم على كل خير، ولهذا أمر الله المؤمنين بعد ذلك بالاعتصام بحبله، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحبل الله سبحانه هو: دينه الذي أنزل به كتابه الكريم، وبعث به رسوله الأمين، محمداً صلى الله عليه وسلم.
والاعتصام به: هو التمسك به، والعمل بما فيه، والدعوة إلى ذلك، والاجتماع عليه، حتى يكون هدف المسلمين جميعاً، ومحورهم الذي عليه المدار، ومركز قوتهم هو اعتصامهم بحبله، وتحاكمهم إليه، وحل مشاكلهم على نوره وهداه، وبذلك تجتمع كلمتهم، ويتحد هدفهم، ويكونون ملجأ لكل مسلم في أطراف الدنيا، وغوثا لكل ملهوف، وقلعة منيعة، وحصنا ضد أعدائهم. وبهذا الاجتماع، وهذا الاتحاد، وهذا التضامن، تعظم هيبتهم في قلوب أعدائهم، ويستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل، ويحفظهم سبحانه من مكايد العدو - مهما كانت كثرته - كما وقع ذلك - بالفعل - لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، وأتباعهم في صدر الأمة، ففتحوا البلاد، وسادوا العباد، وحكموا بالحق، وحقق الله لهم وعده الذي لا يخلف، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} - وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئاً وقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
ففي هذه الآيات الكريمات حث المسلمين وتشجيعهم على التمسك بدينهم، والقيام بنصره، وذلك هو نصر الله، فإنه سبحانه وتعالى في غاية الغنى عن عباده، وإنما المراد بنصره هو نصر دينه وشريعته وأوليائه، والله ناصر من نصره، وخاذل من خذله، وهو القوي العزيز.
وفي هذه الآيات أيضاً البشارة العظيمة بأن الله عز وجل ينصر من نصره، ويستخلفه في الأرض، ويمكن له، ويحفظه من مكايد الأعداء.
فالواجب على المسلمين جميعاً أينما كانوا هو الاعتصام بدين الله، والتمسك به، والتضامن فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، ومناصحة من ولاه الله أمرهم، والحذر من أسباب الشقاق والخلاف، والرجوع في حل المشاكل إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتواصي في ذلك بالحق والصبر عليه، مع الحذر من طاعة النفس والشيطان، وبذلك يفلحون وينجحون، ويسلمون من كيد أعدائهم، ويكتب الله لهم العز والنصر، والتمكين في الأرض، والعاقبة الحميدة، ويؤلف بين قلوبهم، وينزع منها الغل والشحناء، وينجيهم من عذابه يوم القيامة، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم}.
ومما ورد في التضامن الإسلامي قوله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذه الآية الكريمة من أصرح الآيات في وجوب التضامن الإسلامي، الذي حقيقته ومعناه التعاون على البر والتقوى كما سلف بيان ذلك، وفيها تحذير المسلمين من التعاون على الإثم والعدوان لما في ذلك من الفساد الكبير، والعواقب الوخيمة، والتعرض لغضب الله سبحانه، وتسليط الأعداء وتفريق الكلمة، واختلاف الصفوف، وحصول التنازع المفضي إلى الفشل والخذلان. نسأل الله العافية من ذلك.
وفي قوله سبحانه في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، تحذير للمسلمين من مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فينزل بهم عقابه، الذي لا طاقة لهم به. ومن الآيات الواردة في التضامن أيضاً قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذه الصفات العظيمة هي جماع الخير، وعنوان السعادة، وسبب صلاح أمر الدنيا والآخرة، ولهذا علق سبحانه وتعالى رحمتهم على هذه الصفات الجليلة فقال: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فتبين بذلك أن الرحمة والنصر على العدو، وسلامة العاقبة، كل ذلك مرتب على القيام بحق الله وحق عباده، ولا يتم ذلك إلا بالتناصح والتعاون والتضامن، والصدق في طلب الآخرة والرغبة فيما عند الله، والإنصاف من النفس، وتحري سبيل العدل، وفي هذا المعنى يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ويقول عز وجل في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وفي هاتين الآيتين أمر المؤمنين أن يقوموا لله بالقسط، وأن يشهدوا له بذلك في حق العدو والصديق، والقريب والبعيد، وتحذيرهم من أن يحملهم الهوى أو البغضاء على خلاف العدل، وأوضح سبحانه أن العدل هو أقرب للتقوى، فدل ذلك على أنه لا صلاح للمسلمين فيما بينهم، ولا استقامة، ولا وحدة لكلمتهم، إلا بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه.
نشرت في مجلة التوحيد المصرية ص 15 - 22، وفي مجلة البحوث الإسلامية العدد الثالث ص 1052 - 1061 عام 1397 ه. المجلد الأول، ونشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد الثالث السنة الأولى سنة 1388 ه.
ومما ورد في وجوب التضامن الإسلامي قول الله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا} فأوضح سبحانه في هذه السورة القصيرة العظيمة، أنه لا سبيل إلى النجاح والربح والعاقبة الحميدة والسلامة من أنواع الخسران إلا بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر عليه. والواقع من حين بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، شاهد ودليل على ما دلت عليه هذه السورة الكريمة.
ولما أخل المسلمون بهذا الأمر العظيم بعد الصدر الأول حصل بينهم من الشحناء والفرقة والاختلاف ما لا يخفى على أحد، ولا علاج لذلك ولا دواء له إلا بالرجوع إلى دين الله، والاعتصام به، والعمل به، وتحكيمه، والتحاكم إليه في كل ما شجر بينهم، كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
ومما ورد من الأحاديث الشريفة في التضامن الإسلامي الذي هو التعاون على البر والتقوى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة, قيل لمن يا رسول الله قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه" وقوله صلى الله عليه وسلم "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين، والتراحم والتعاطف، والتعاون على كل خير، وفي تشبيههم بالبناء الواحد، والجسد الواحد، ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم، وينتظم صفهم، ويسلمون من شر عدوهم، وقد قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وإمام الجميع في هذه الدعوة الخيرة وقدوتهم في هذا السبيل القيم، هو نبيهم وسيدهم وقائدهم الأعظم، نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أول من دعا هذه الأمة إلى توحيد ربها، والاعتصام بحبله، وجمع كلمتها على الحق، والوقوف صفا واحدا في وجه عدوها المشترك، وفي تحقيق مصالحها وقضاياها العادلة، عملا بقوله تعالى خطابا له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وقد سار على نهجه القويم، صحابته الكرام، وأتباعهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم فنجحوا في ذلك غاية النجاح، وحقق الله لهم ما وعدهم به من عزة وكرامة ونصر، كما سبق التنبيه على ذلك والإشارة إليه في أول الكلمة.
ولا ريب أن الله عز وجل إنما حقق لهم ما تقدمت الإشارة إليه بإيمانهم الصادق، وجهادهم العظيم، وأعمالهم الصالحة، وصبرهم ومصابرتهم، وصدقهم في القول والعمل، وتضامنهم وتكاتفهم في ذلك، لا بأنسابهم ولا بأموالهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" أخرجه مسلم في صحيحه.
فمن سار على سبيلهم ونهج نهجهم، أعطاه الله كما أعطاهم، وأيده كما أيدهم، فهو القائل عز وجل في كتابه المبين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ} وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ وهو القائل عز وجل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
والله عز وجل المسؤول أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى، وأن يفقههم في دينه، وأن يصلح ولاة أمرهم، ويهديهم جميعاً صراطه المستقيم، وأن يمنحهم الصدق في التضامن بينهم، والتناصح والتعاون على الخير، وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف، ومضلات الفتن، وأن يحفظهم من مكايد الأعداء، أنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.