ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء » على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» شدد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أن الجهاد لا يجوز من أجل محو الكفر من العالم أو لإجبار الناس على الدخول في الإسلام، مؤكدًا أن ذلك ينافي سنن الله في خلقه، كما أنه لا يعتد بأي إيمان يفتقد إلى الإرادة الحرة. العلامة القرضاوي أشار كذلك إلى أن التوسع الاقتصادي أو فتح الأسواق يعد من الأهداف غير المشروعة للجهاد، موضحًا أن الإسلام أحل الغنائم، لكن الجهاد يبطل إذا أصبحت الغنائم هي الغاية الكبرى له. وفي المقابل فإن الجهاد المشروع يكون من أجل رد العدوان وتأمين حرية الدعوة ونصرة المستضعفين وتأديب النكاثين وفرض السلام داخل الدولة الإسلامية أو بين المسلمين. جاء ذلك خلال حلقة برنامج «فقه الحياة» الذي استضاف العلامة القرضاوي طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية ويقدمه أكرم كساب، ودارت الحلقة حول الأهداف المشروعة وغير المشروعة للجهاد. وقارن القرضاوي بين قواعد الحرب في القرآن وقواعدها في التوراة، منتهيًا إلى أن الإبادة الجماعية تعد فكرة توراتية، أخذها النصارى وطبقها البريطانيون ضد السكان الأصليين في أستراليا وكذلك ضد الهنود الحمر في أمريكا. - ذكرتم أن أهداف الجهاد منها ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ومنها المأمور به والمنهي عنه، ومنها ما جاءت به شريعة الإسلام وما جاءت به الشرائع الوضعية، لنبدأ بالأهداف غير المشروعة؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.. فمن الأهداف غير المشروعة للجهاد: محو الكفر من الأرض، فليس من أهداف الجهاد في الإسلام ألا يبقى كافر في الأرض، ولذلك رددنا على بعض المفسرين الذين فسروا قوله تعالى: (وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي حتى لا يكون هناك شرك، وقلنا كلمة فتنة ليس معناها شرك، إنما تعني محنة أو امتحانًا أو اختبارًا، وقوله (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي حتى لا يكون هناك اضطهاد من أجل العقيدة، بمعنى حتى تتاح الحرية للناس، ليؤمن من آمن ويكفر من كفر، ولا يجبر أحد على اعتناق عقيدة ولا على تغيير عقيدة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). كما أن هذا الهدف ينافي ما قرره القرآن فالله سبحانه وتعالى هو الذي أراد هذا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ولكن الله هو الذي أراد، وهو الذي خلقكم (فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) فمن يريد أن يبقى الناس كلهم على الإيمان يخالف ما أراده الله من عباده. - لكن ألا يحسب لهؤلاء حسن النية، فهم يقاتلون في سبيل الله تحت هذا الهدف؟ > لا، حسن النية لا يكفي، فكما قلنا لابد في قبول العمل من أن يكون خالصًا وصوابًا، إنما يكون خالصًا وليس صوابًا فهذا لا يصح، فلابد أن يكون المنهج سليمًا، وقد يتاب الإنسان على نيته إذا كان معذورًا لا يملك من المعرفة، ولا يملك من يرجع إليه ليصحح له ما فهم، والله سبحانه وتعالى أعلم بأعذار الناس بهذه القضية. الإيمان والإرادة - وماذا بعد ذلك؟ > الهدف الثاني غير المشروع، وقد يظنه بعض الناس مشروعًا، هو قسر الناس على الدخول في الإسلام، فبعض الناس يظن أن الجهاد شرع لجبر الناس على الدخول في هذا الدين، وهذا منفي بصريح القرآن المكي والمدني، والله تعالى قال: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) وللأسف بعض الناس يقول إن هذه الآية منسوخة، نسختها آية السيف، وهذا الأمر يحتاج لحديث طويل سنتناوله لاحقًا، لكن هذه الآية لا تنسخ لأنها معللة، ومعناها أنه ما دام الرشد متبين من الغي فلسنا في حاجة إلى أن نكره الناس على أن يتبعوا الرشد؛ لأنه واضح بطبيعته، كذلك الأمر بالنسبة للآية التي تقول (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) حيث قالوا هذه نسختها آية السيف، مع أنها لا تقبل النسخ لأنها تقول (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) فهل الله كان لا يحب المعتدين، ثم بعد نسخ الآية أصبح يحبهم؟! فلذلك الإكراه ممنوع في الإسلام، فالقرآن المدني يقول (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) والقرآن المكي يقول (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فالإسلام لا يقبل الإيمان ولا يعتبر له قيمة عند الله، إلا إذا كان عن إرادة حرة، وعن اقتناع كامل، دون أي شائبة للإكراه، ولذلك رفض القرآن إيمان فرعون، حينما أدركه الغرق حيث قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) فجاء الرد: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ) وأي أمة نزل بها عذاب الله وبأسه تقول آمنا بالله، وعن هذا يقول القرآن (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) فالإيمان الذي يقبله الإسلام هو ما كان عن حرية بالإرادة واختيار كامل، فلا يتصور أن يقبل الإسلام إيمان المكره. أيضًا من الأهداف المرفوضة للجهاد في الإسلام أن يكون هدف الإسلام اقتصاديًا، يعني يريد أن يتوسع، ويأخذ أراضي الناس للاستعمار أو كما يقولون لفتح الأسواق وتحقيق الكسب المادي. - لكن فضيلة الشيخ البعض قد يعترض ويقول إن الإسلام أباح الغنائم، وأحل الأنفال، وفي القرآن الكريم سورة تسمى «الأنفال»؟ > الإسلام أباح الغنائم، وأحل الأنفال، ولكنه لم يرض أن تكون هدفًا للمسلم، أو غاية لجهاده، وإذا كانت هي الغاية بطل الجهاد، والنبي عليه الصلاة والسلام سئل يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليرى مكانه، يعني الناس تقول إنه بطل من الأبطال، والرجل يقاتل حمية لقومه، أيهم في سبيل الله؟ فكان جوابه: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، ولا يحتسب غيره. بل ورد حديث صحيح بأن أي غازية تغزو في سبيل الله، وتصيب غنيمة فقد تعجلوا ثلثي أجرهم، فالفئة التي تذهب ولا تعود بغنيمة لها الأجر كله، والتي تغنم تأخذ ثلث الأجر. أهداف مشروعة - إذن لننتقل إلى الأهداف المشروعة التي لأجلها شرع الجهاد؟ > هناك أهداف للجهاد الإسلامي، ونقصد بالجهاد هنا المعنى المتبادر منه القتال، فأول هدف للمعارك والحرب في الإسلام هو رد العدوان، ومقاومة المعتدين، وهذا واضح في القرآن (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) فلا يمكن أن يترك هؤلاء يستبيحون حمى المسلمين، ويستبيحون أرض الإسلام، ومقدسات الإسلام، ولا يقاومهم أحد، فهذا عار على الأمة الإسلامية، ولذا فرد هذا الاعتداء هو الهدف الأول من القتال. - غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت في الغالب الأعظم من هذا النوع؟ > كلها كانت كذلك، وليس فقط الغالب الأعظم، إما ردًا للعدوان أو متابعة لذلك، مثلما حدث في غزوة تبوك فلم يكن هناك عدوان، وإنما هناك عدوان سبق هذا على المسلمين في معركة مؤتة، وحدث أن هؤلاء يهيئون لغزو المسلمين، فلابد هنا أن يستدرك المسلمون أمرهم ولا ينتظروا حتى يدخل العدو عليهم وهم نائمون. - ماذا عن الهدف الثاني؟ > الهدف الثاني هو تأمين الدعوة، حتى لا يفتن الناس في دينهم، وهذا معنى قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ)، (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ) فمعنى الفتنة هنا هو اضطهاد الإنسان من أجل دينه، أو لكي تخرجه عن دينه، ففي هذه الحالة نقاتل من أجل حرية الدعوة، ولكي يكون للناس الحق في أن يؤمن من يؤمن ويكفر من يكفر، ولماذا كانت الفتنة أشد وأكبر من القتل؟ لأن القتل هو اعتداء على الكيان المادي للإنسان، والفتنة اعتداء على الكيان المعنوي أو الروحي للإنسان، بكونك تحرمه من حريته في اختيار العقيدة التي يريدها، وبذلك فأنت تقتل الإنسان في داخله، وهذا أشد وأكبر من القتل المادي. نصرة المستضعفين - ماذا عن الهدف الثالث؟ > الهدف الثالث هو إنقاذ المستضعفين في الأرض. - بغض النظر عن دينهم وملتهم؟ > طبعًا المستضعفون من المسلمين هم في المقدمة، ولكن أي أناس مستضعفين استعانوا بالمسلمين لينقذوهم من ظالميهم، وكان لدى المسلمين قدرة على أن يساندوهم، فلا يجوز أن يتخلفوا عن ذلك، والقرآن الكريم يقول (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا). - لكن المقصود في هذه الآية هم المسلمون؟ > المسلمون نعم، لكن المسلم مطالب أن يكون عونًا لكل مستضعف، ولا يجوز للمسلم أن يرى إنسانًا يضرب إنسانًا بغير حق ولا يقول له: حرام عليك، وإذا كان يستطيع أن يمنعه، فيجب أن يمنعه سواء كان مسلمًا أو غير مسلم. والظلم يجب أن يمنع عن أي إنسان، بل حتى عن الحيوان، فلو رأى شخص أحدا يعذب حيوانًا فلا يجوز له أن يتركه يعذبه؛ لأنه مخلوق ضعيف ولا يستطيع أن يشكو، ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وهذا منكر يجب أن يغيره بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، وذلك أضعف الإيمان. - لكن أليس هذا الأمر هو ما تقوم به أمريكا الآن حيث تدعي أنها تريد أن تنصر المستضعفين وأن تنشر الديمقراطية في العالم؟ > ليس المهم هو الكلام، لكن المهم هل العمل يساند الكلام أم لا؟ وهل هناك معايير مزدوجة في هذا الأمر؟ لماذا لا ترد إسرائيل عن ظلمها؟ ولماذا لم تمنعها من الاعتداء على غزة؟ وقتل النساء والشيوخ والأولاد، وهدم البيوت والمساجد والمدارس، والإفساد في الأرض. فالمسألة ليست كلامًا وإنما العبرة بالعمل، وكل من يعمل لإقرار الحق في الأرض والوقوف ضد الطغاة والمفسدين، واستعمال القوة في هذا الأمر، فهذا أمر مشروع للمسلمين ولغيرهم.