مرة أخرى تثبت السلطة المغربية "حكامتها" في إدارة الصراع مع الخصوم السياسيين، "حكامة" صمت أداننا بها الأبواق الرسمية السياسية والإعلامية حتى توهم البعض أنها منهج جديد بعيد على الأقل عن إكراه "الآخر" في بعض من حقوقه الأساسية كالحق في التعبير. "" غير أنه، ويا للغرابة، لم تحافظ "حكامة" الدولة المغربية على منهجها الإقصائي والقمعي، بل أضافت إليه لمسات غير قليلة من العبث والتخلف بما يرسم صورة كاريكاتورية لسلطة جمعت الكثير من النقائص. هذه النقائص المتكاثرة، والتي لشدة سلبيتها، لا تستوجب المعارضة والنقد فقط، وإنما تثير السخرية والاستغراب –اللذان يفرضان نفسيهما عليك مهما حاولت استبعادهما- من سلوك صناع القرار وطريقة تفكيرهم المغرقة في التخلف الإعلامي والعبث السياسي. هذا على الأقل ما تقول به القراءة الأولية لحجب السلطة المغربية للمواقع الرسمية الأربعة لجماعة العدل والإحسان منذ السبت ا 17-1-2009. السلطة والتخلف الإعلامي.. الإنترنيت وأزمة الرقابة "المستفيد الأول من الأنترنيت في العالم العربي ستكون هي الحركات الإسلامية".. قد تكون هذه الملاحظة التي أبداها وزراء الداخلية العرب وهم يُبدون "قلقا مشروعا" من "خصم عنيد"، في أحد اجتماعاتهم التنسيقية في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، صحيحة جدا. وجهة النظر "الأمنية" هذه تستمد شرعية تخوفها من خصوصية تتميز بها الشبكة العنكبوتية، وهي صعوبة الرقابة السلطوية على المنابر الإعلامية الإسلامية التي ستستفيد من فضاء جديد، إمكانيات الإنتاج الإعلامي فيه كثيرة ووسائل التحكم فيه قليلة. لم أتمكن، كغيري، من الاطلاع على الوسائل "السرية" التي اقترحها وزراء الداخلية العرب لمواجهة هذه الكلفة العالية لواحد من منتجات العولمة التي فرضت نفسها على الجميع. لكن الأكيد أن الوسائل السلطوية التي تم اقتراحها استفادت منها وزارتنا في الداخلية، وهنا إما أن الحجب إحداها وحق لنا في هذه الحالة الاستغراب، ليس لكلفة هذه الوسيلة حقوقيا وسياسيا فحسب، ولكن لصعوبتها تقنيا وعمليا. أو لربما قد يكون الوزير الأسبق، إدريس البصري، لم ينقل الأرشيف كاملا لخلفه "الميداوي" أو سقطت أوراق "التشاور الأمني" وهي تتنقل بين الأخير و"جطو" و"الساهل" و"بنموسى"، ومن تم ما زالت السلطة المغربية تتعامل مع عالم الإنترنيت بوسائل الجرائد الورقية. منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي ظهرت وسائط ووسائل إعلام مغربية كثيرة جدا على شبكة الإنترنيت، منتديات ومدونات ومواقع إعلامية وسياسية واقتصادية ودينية، وإعلام مسموع ومرئي ومكتوب ومختلط، ووسائط للنقاش المباشر بمختلف الوسائل... وهلم جرا من التطورات الإعلامية الكبيرة تقنيا على الأقل. لكن سلطاتنا لم تواكب هذا التطور إلا بقيامها بدورَي الراعي السلبي والرقيب القمعي، فهي ترعى الوسائط التي خربت الشباب ولم تر في ذلك أي خطر على نسيج الوطن الاجتماعي والثقافي، وفي المقابل تشوش بين الفينة والأخرى على بعض المواقع الجادة بسبب مواقفها السياسية أو تحجبها إذا استدعى أمر القمع ذلك. ولعل المتتبع لمسار مواقع العدل والإحسان، خاصة الموقع الرسمي للجماعة، يلحظ أنها تتعرض بين الفينة والأخرى للتشويش المخزني بل والمنع السلطوي. فموقع الجماعة تم حجبه أكثر من مرة وانتقل بين عناوينcom وorg وnet في دلالة واضحة لحجم المنع الذي يطاله. لكن هذا المنع لم يوقفه من الاستمرار في النشر والعرض والتطوير في الشكل والتقنيات. وفي حالة المنع القائم الآن، فمعروف أولا أنه شمل المغرب فقط-ربما لقلة ذات يد النظام!-، ومن تم فمواقع الجماعة معروضة أمام الزوار في كل الأصقاع، وبالتالي ضآلة مردودية المنع في الجملة. وثانيا توجد من الإمكانيات والوسائل التقنية ما يتيح حتى للزوار من داخل التراب المغربي الوصول إلى هذه المواقع. وثالثا استطاعت بعض المواقع المحجوبة أن تقوم بعملية التحديث وعرضت مواد جديدة حتى خلال هذه الأيام التي اتخذت فيها الداخلية قرار المنع. في الخلاصة، يجمع الجميع، ويمكن للسلطة أن تستشير مع أصغر متعاط مع عالم الإنترنيت، بأن عملية المنع والرقابة والحجب على شبكة المعلوميات عف عليها الزمان، وكُلفتها السياسية والحقوقية وصعوباتها التقنية والإجرائية أكبر بكثير من حجم المردودية المتوخاة من هذا الأسلوب المغرق في السلطوية والماضوية. ولهذا حق لنا أن نصف سلوك السلطة هنا بالمتخلف عن ركب التقدم التقاني والتكنولوجي والمعلومياتي. السلطة والعبث السياسي.. السياسة وقواعد الصراع لا شك أن لوسائل الإعلام دور كبير في تبليغ رؤية أي مكون سياسي كان أو مدني، ولا غرو في أن دور الإعلام تعاظم إلى الحد الذي تجاوز فيه أدوار الإخبار والتثقيف والترفيه إلى صناعة الرأي العام والتأثير في مجمل الحياة المجتمعية، غير أن الأكيد هو تداخل هذه الأدوار مع التوجهات السياسية والحراك العام وبالتالي اشتباك الإعلامي بالسياسي. القصد أنه إذا كان الإعلام أحد "الأدوات السياسية" للفاعل السياسي، أي أنه يتجاوز الوظائف التقليدية إلى محاولة الإقناع بوجهة النظر المجتمعية والسياسية التي يؤمن بها، فإنه في النهاية يبقى رقما مهما من أرقام التدافع السياسي وليس أهمها. فالرهان الأكبر في العمل السياسي يرجع إلى القدرة على الانغراس في الواقع والحراك في الميدان والتأثير المباشر في المجتمع وغير المباشر في خيارات الدولة وقراراتها. إذا كان يراد، والحالة هذه، من حجب مواقع الجماعة التأثير في خيارات العدل والإحسان السياسية والحد من حجم حراكها الاجتماعي والسياسي، فإنه العبث الذي ينم عن ضحالة في فهم من يقررون للدولة ويزينون لها صنيعها. فعناوين مجلة "الجماعة" وجرائد "الخطاب" و"الصبح" و"رسالة الفتوة" و"العدل والإحسان" تؤكد أن الجماعة واصلت مسيرتها الدعوية وراكمت تأثيرها الاجتماعي وجدَّرت مواقفها السياسية، رغم حرمنها من حقها الشرعي في الإعلام. إن الخطوة التي اتخذتها السلطة، ناهيك كما أوضحنا أعلاه عن محدودية مردودها الإعلامي، ليست عديمة التأثير على أداء العدل والإحسان السياسي وموقفها المبدئي من النظام فقط، بل إنها تؤكد صوابية تقدير الجماعة وقراءتها لطبيعة نظام الحكم وتكرس منهجها التغييري المعتمد. وفوق هذا تُسجل نقاطا إضافية في سجل الجماعة بالنظر لمظلوميتها المستمرة منذ 30 سنة، وفي المقابل تُُفقد الرصيد الرسمي للدولة ما يتم ضخه فيه بين الفينة والأخرى من خطوات يُدَّعى بأنها ترسخ مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان. قد تكون غزة، كما ترجح التقديرات، هي السبب في حجب مواقع العدل والإحسان، أي أن حجم الاحتجاج الاجتماعي والحراك السياسي الذي أحدثته الجماعة في المجتمع-حيث نظمت وشاركت في أكثر من 1000 نشاط احتجاجي- من أجل دعم غزة ضد الهولوكست الصهيوني الأخير وتنديدها الواضح بالتواطؤ المكشوف لكثير من أنظمة الحكم العربية، هو ما دفع النظام السياسي إلى الإقدام على هذه الخطوة، قاصدا أن يبعث رسالة إلى الجماعة مفادها أنها قد تجاوزت الحدود المسموح بها رسميا للاحتجاج، وراغبا في أن يمنع النشر الإعلامي لتلك الوقفات والمسيرات. إذا كان الأمر كذلك فإنه قد أخطأ مرة أخرى في إدارة "المعركة السياسية" وفي اختيار الوسيلة المناسبة لتبليغ الرسالة، ف"غزة" ليست المساحة الأمثل لتقليص نفوذ الخصم، إذ سيسجل في سجل الدولة وقوفها ضد دعم غزة وهو ما يثير سؤالا عريضا: لصالح من تفعل الدولة ذلك؟. وسيستحيل على النظام فك الارتباط بين "الدعم الرسمي" لغزة-ونلحظ هنا أنه بقي في حدود الدواء والغذاء والمواد الإغاثية وكأنها ليست دولة بل جمعية طبية- و"الدعم الشعبي" الذي كانت العدل والإحسان أهم الفاعلين فيه، سيستحيل عليه ذلك لأن قرائن كثيرة ليست في صالح الدولة المغربية. وأنوه هنا إلى أن الأسلوب المنتهج-حجب المواقع- لم يخضع بدوره لحساب دقيق في قواعد الصراع السياسي والتدافع مع الخصم. وفي المقابل لا أظن أن العدل والإحسان تبخل في دعمها لأبناء القطاع المحاصر، ناهيك عما قدمته وتقدمه، أن يحجب المخزن المغربي مواقعها، بل لربما اعتبرته ثمنا بخسا في معركة تاريخية-حرب غزة- لها ما بعدها في مسيرة تحرر الأمة من أقفال النظم الحاكمة ومواجهة العدو الصهيوني. أما إذا كانت خلفيات السلطة من منع مواقع الجماعة هي الرغبة المحتومة في وأدها تماما و"حرمان" الجماعة من التواصل مع الرأي العام الوطني، فقد أبرزنا في المحور الأول محدودية هذا المنهج من الناحية الإعلامية والتقنية، كما أكدنا، بل أكد تاريخ الجماعة، أن المنع والحجب لا يحرمها من تبليغ رؤيتها وتصورها ولا يؤثر في حجم وجودها السياسي والاجتماعي. كيفما قرأناها فهي إذن "معركة" خاسرة بالنسبة لنظام الحكم، وهي خطوة لا تنسجم مع الاختيار الذكي لقواعد التدافع والصراع وما تفرضه بالتبع من احترام يفرضه عليك الخصم الشريف. إخفاق في التقدير الإعلامي يؤكد تخلف المخزن عن مواكبة التطور التكنولوجي والتقاني، وخسارة في الحساب السياسي وسوء اختيار الوسيلة يرسخ عبث الدولة المغربية. [email protected]