لا يوجد في البلد علمانيون. العلمانية ليست مذهبا أو عقيدة. إنها قناعة من ضمن قناعات تغذي سبل التفكير والتأمل والاقتراح في صياغة نموذج واقعي لطبيعة الدولة والقوانين والمؤسسات، وهي أيضا نسق من أنساق ممكنة تسعى الى دراسة المجتمع وتحليله من داخله للكشف عن الخلل الذي تعانيه أنظمة ممارسة السلطة المادية والرمزية معا وهي تشغل نظام القيم لمصلحتها الخاصة سواء منها القيام الاخلاقية والروحية والدينية أو القيم السياسية والثقافية والجمالية وغيرها. لا يوجد في البلد علمانيون. يوجد أشخاص، ربما فئات أو نخب تؤمن بضرورة جعل الخطاب الديني، وليس النص الديني أو الدين حرفيا، مدنيا يرتبط بالفرد والجماعة في حدود العبادة والإيمان وممارسة الشعائر والطقوس التي يشترطها الدين، أما الاستغلال المؤدلج لهذا الدين أو ذاك، فإن من حق الاشخاص والفئات والنخب المتنورة، حتى من داخل الدين نفسه، أن تنتقده وتناهضه وتكشف عن عورته: ناهيك عن الفئات والنخب التي تتخذ هذا النقد الفكري والمعرفي بالأساس، إمكانا من إمكانات تغيير الذهنيات والعلائق بين الحاكمين والمحكومين. هكذا تتحول العلمانية الى عقلانية وليست إلحادا أو تفكيرا مضادا للدين أو كفرا، حتى بالإحالة على علمانية الغرب بالتحديد وإلا سقطنا في المقايضة والحشو والحبسة النظرية والمنهجية. العقلانية تعني جعل ما لله لله وما لآدم لآدم، أما سوى ذلك فمجرد سفسطة وهرطقة وادعاء لطهرانية ملفقة عمادها الاقامة في الدين لأجل الدين دون فك الارتباط بين الإلهي والنبوي والبشري على الأرض، دنيا الله الواسعة، في انتظار يوم القيامة. هذا يستدعي مزيدا من الجهد والإجهاد والاجتهاد دون مراوغة أو تضليل وادعاء أن الامر يتعلق بابتغاء مرضاة الله في الآخرة، في الوقت الذي يتضح للجميع، خاصة لدى مجموعة من «العلماء» أن نسبة كبيرة من المتحكمين في الدين ينعمون بالاموال، الكثير من الاموال الطائلة، يكنزونها بعد تلقيها من هنا وهناك نظير ما يقدمونه من خدمات كهنوتية لا علاقة لها لا بالله ولا بالنبي (ص) ولا بالدين. صحيح: إنهم يخدمون الشريعة، لكن الشريعة ليست هي الدين. إنها تصور لأحكام هي نفسها، حين نتجاوز الأركان، مطروحة للجدل، أقول الجدل وليس الجدال، والجدل غائب كليا أو جزئيا في الثقافة العربية وأحرى في الثقافة الاسلامية. أتحدث عن الجدل الديني ليس في الألوهيات وما يحيط بها، بل فيما يتعرض له الانسان ككائن في الحياة المادية التي لا تثبت على حال ولم تكن يوما ما ثابتة على حال. أتحدث عن الجدل بقدر الحديث عن الاختلاف وليس الخلاف، لأن الخلاف اعتراض، فيتو، وهو تعارض، أما الجدل فهو معارضة متولدة عن حد أدنى أو أعلى من الوعي بشروط الاجتماع والمجتمع مرتبطة بما يتطلبه الدين وما هو عليه وكيف ينبغي أن يكون في ظل إكراهات الفساد بشتى أصنافه، خاصة الفساد السياسي والفساد القانوني والفساد القضائي والفساد البيئي والفساد الاداري وقس على ذلك، ولا دخل للدين هنا بالمعنى المطلق لأن المفسد مفسد ولو قضى ليله ونهاره ناسكا ومتعبدا. أما الفساد الاخلاقي، مثلا، فهو فساد مترتب عن أحوال الناس وهم عرضة للتمزق بين مرجعيات متقابلة ليس أبسطها تقابل المقدس والمدنس (الدنيوي كما يقال)، حتى حين يُلتمس الدين. الجدل يخصِِِب ويخصِّب (بكسر وتشديد الصاد) النسق المعرفي بالدين وليس «الفكري» فقط، لأن هذا الاخير تناوبت على القول فيه عدة قراءات ومساهمات بالمعنى التأريخي. أما النسق المعرفي فلا أعتقد أن المسلمين، ومعهم من هم عرب يدينون بالاسلام، مستعدون، بما يلزم من الحكمة واللزوم والوجوب، للخوض فيه، خاصة فئة العلماء المتشددين ممن يحتلون المواقع في إبداء الرأي والفتوى، إذ أنهم، أولا، لا يريدون ذلك وإلا فقدوا هاته المواقع لما تجنيه عليهم من أرباح، وثانيا، لأنهم يفتقدون الى الوازع العلمي الذي يتطلب التسلح بغير علوم الشرع وحدها، ولعل هزيمة المسلمين، وليس الاسلام، نابعة من هذا العجز، عجز العلماء المسلمين عن بلورة نسق معرفي بالدين خارج الاحكام. أتحدث عن المسلمين في المطلق وليس عن المسلمين هنا والآن، لأن المسلمين الذين يروعهم ما يجري الآن، في غزة مثلا، أو في العراق، وربما في أفغانستان، ليسوا وحدة متجانسة، وهذا ما اهتُدي (بضم التاء) إليه من قبل أمثال صمويل هنتنغتون المحسوب على العلم والفكر السياسي، وتروج له المحافل والأبواق الاعلامية، الغربية عموما، وبعض المحافل والأبواق المحسوبة على ليبرابية عربية جافة تتنطع لكسب ثقة غرب ممعن في إتلاف ما تراكم من وعي قومي سليم لا يصب بالضرورة في بركة القومية العربية التقليدية ولا يداهن هذا النظام أو ذاك على حساب هذه المرحلة أو تلك، قبل نازلة العراق وبعدها، الى جانب محافل وأبواق توهم الناس بأنها ديمقراطية أو حداثية وهي تعلي من نبرة خطاب نقدي نيهيلي مداره استحلاب الوضع المركب الذي يطبع هذه المرحلة في العالمين الاسلامي والعربي على السواء مما يمنح الآلة الامريكية، ومعها الصهيونية، «مشروعية» التواجد والتغلغل والتوغل لمزيد من السيطرة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والاعلام والفن.لكل هذا ولغير هذا مما لا يظهر من جبال الثلج والصخر والطين والسخام، يفضل من كان علمانيا أن يتحاشى الكلام عن الدين لأجل الدين رغم حقه في ذلك، لإدراكه أن الدين في العالم الاسلامي والعربي يستغل أكثر من اللازم وعلى أكثر من واجهة، ليس فقط من طرف أحزاب أو جماعات أو علماء أو باحثين (عن الرزق!) أو مؤسسات أو دولة وأنظمة في النهاية، بل حتى من قبل منظرين، في العالمين معا، وفي الغرب أيضا، بصيغ مختلفة، لمزيد من الايقاع بالبسطاء والمتحذلقين وشذاذ آفاق التحليل المسطح في دوامة الحيص بيص النظري ثم المعرفي: الدين أمر، السياسة شأن، كما أن الأصولية شأن والتطرف شأن والارهاب شأن والليبرالية شأن والديمقراطية شأن والحداثة شأن والنسق المعرفي شأن، وعلى من يسعى الى اقتحام التفكير والتنظير والكتابة حول هذا كله، مجتمعا أو متفرقا، ألا يخلط بين «الحصان» و«العربة»، أو بين المطرقة والسندان ويكتفي، بالعاطفة والوجدان. وما يتعرض له العالم الاسلامي، ومعه العالم العربي، ليس هجمة صليبية وإن أصابت لسان أحدهم زلة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر فقال ما قال ثم ذهب حافي القدمي للاعتذار، وليس صراع أديان أو صدام ثقافات. إنما هو وجه لعملة معتادة هو الاستعمار الذي تحول في فترة ما، الى استعمار جديد، ثم عاد الى تقليديته شأنه في ذلك شأن حليمة التي لا تنظر أبعد من أنفها. أما علماؤنا الابرار ومنظرونا الاخيار وكتابنا وصحفيونا الاحرار (كما أرادت ذلك المحافل والابواق)، فإنهم ينظرون الى الأصبع ويتجاهلون السماء.