في هذا الحوار مع عبد اللطيف محفوظ رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيك _ الدارالبيضاء، التابعة لجامعة الحسن الثاني المحمدية، بمناسبة مشاركته في الملتقى الدولي حول البحث السيميائي، الذي نطمه مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية، والذي انعقد يومي 26 و27 أبريل بفندق الأمير بالعاصمة الجزائر شدّد الباحث، على ضرورة الرقي بالتعاون العربي في مجال البحوث والدراسات الجامعية، عن طريق عقد اتفاقيات مشتركة، يتم تجسيدها على أرض الواقع. مؤكدا على عدم وجود تعاون عربي في مجال البحوث السيميائية. ومبديا أسفه على واقع اللغة العربية اليوم بين أهلها، مشيرا إلى أنها رغم كونها لغة غنية تمتلك كل المقومات اللازمة التي توفر مراقي تستحيب لمستويات التخاطب العادي والعلمي. وتسعف في إنتاج كل أنماط الخطابات المعرفية بشتى أنواعها. ومع ذلك تعاني التهميش.. - أولا في البداية حدثنا عن واقع السيمولوجيا في المغرب العربي؟ - أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لأن محتواها سيكون عاما، يقوم على وصف وضعيات دون أخرى، من جهة نتيجة غياب الاحاطة الدقيقة بكل الدراسات المنتمية إلى هذا الحقل المعرفي تلك الاحاطة التي لن تكون متاحة إلا إذا أصبح الكتاب - أينما صدر - متوفرا في كل البلدان المغاربية، ومن جهة ثانية لأن أغلب الدراسات الرصينة، هي بحوث أكاديمية لم تنشر بعد، ومن جهة ثالثة وأساسية لأن وصف الوضع محايث بالمقارنة مع وضعيتها في الغرب. ولذلك جوابي يحتمل أخطاء لأنه من الصعب أن نقارن وضعية علم ظهر في سياق ثقافي انطلاقا من تطور داخلي لحل أزمة أو استجابة لاكراهات داخلية، ووضعية تحققاته وهو ينتقل إلى سياق ثقافي آخر. هذه العلاقة دون شك تجعل المفترض في وضعية غير مريحة خاصة وأن خلق الانسجام، يقتضي محاولة استنباث العلم المقتَرض في تربة الثقافة المقتَرِضة، وهو ما يستوجب البعد الإيبيستيمولوجي.. ومن الملاحظ أن الوعي بهذه الشروط والحرص على تحقيقها، ولو في جدود الممكن، غالبا ما يظل غائبا، الشيء الذي ينعكس في شكل نقل ثلة من المفاهيم والمصطلحات وسيرورات مجردة وتقنية تسعف في تطعيم تحليل النصوص، ولكنها موسومة بالانفصال عن سياقاتها وعمقها الفلسفي، وشيئا فشيئا وتحت إرغام التراكم المتأثر بالمحاولات الأولى للاقتراض وللترجمات الجزئية لفصول بسيطة من كتب، لا تفهم في سياقاتها الأصلية إلا في ضوء توجهات ذات جذور معرفية بعيدة في الزمن ومتدرجة عبره ومن خلاله، تبدو هذه المفاهيم والمصطلحات والسيرورات الإجرائية المفصولة كما لو كانت هي الشكل الجوهري والحقيقي للعلم المقترض. وينتج عن ذلك خلل في التمثل وخلل في تمثيل المعرفة الموجهة من قبله. ومن ثمة يكون كل جهد نظري مهدد بالابتسار. إن هذه الحقائق تبدو لي قابلة لأن تصف عدا استثناءات نادرة ترتبط بأسماء جدية وضع السيميائيات في العالم العربي. ولذلك علينا نقادا ومترجمين أن نبدل حهودا حقيقية في سبيل تعرف الخلفيات والجذور حتى إذا ما قمنا بتغيير مقاصد وغايات كلية أو محدودة نكون مطمئنين إلى ما نقوم به. وهذا العمل لا يمكن أن يقوم به الأفراد وهم يمارسون نشاطهم تلبية لطموح ذاتي، بل مؤسسات مسؤولة تعي هذه الشروط وتحرص على الوفاء لها. تأسيسا على هذا المنطلق، فلا أعتقد أن السيميائيات بالعالم العربي هي السيميائيات بالعالم الغربي، إن السيميائيات عندنا تمتلك طابعها الخاص، يغلب عليها الطابع الإجرائي، لأنها اقترضت أصلا بوصفها منهجية وليس بوصفها علما. وربما لهذا السبب نلاحظ عزوفا متزايدا للباحثين عن اعتمادها، وهو عزوف يجد تفسيره الممكن في خفاء أصولها الفلسفية والإيديولوجية، ويترتب عن ذلك عدم فهم العديد من مفاهيمها. - كيف ترون البحث السيميائي المعاصر في الدول العربية والاسلامية؟ - لا أستطيع أن أتحدث عن الدول الاسلامية لأن لهذه الأخيرة سياقاتها اللغوية وخصوصيات ثقافية خفية عني، علاوة على أننا لسنا في تواصل حقيقي مع هذه الدول، بدون ذكر أسمائها. أما بالنسبة للعالم العربي فأعتقد أني أجبت عن السؤال سابقا. وأضيف فقط، أنه يبدو لي أن البحث في مجال السيميائيات يمكن أن ينظر إليه في مستويين: المستوى النظري والمستوى الإجرائي. أما البحث المرتبط بالمستوى النظري، فلا ريب أنه في أزمة حقيقة، لأن جهودنا في تمثل السيميائيات بوصفها نظرية عامة وفلسفية لفهم الظواهر المحيطة بنا على اختلافها يكاد يكون معدوما، وهو كذلك لأن البحث والاضافة المفيدة مشروطة بوعي خلفياته، وهذا عمل جبار ومضني ولن يتحقق ببساطة عن طريق ترجمات يتحكم بها وازع التجارة وسلطة العنونة البراقة، أو بدراسات تنحاز إلى البسيط و/الناتج عن.. وليس المؤسس ل../. أما المستوى الإجرائي الذي ربما كان هدفا للانفتاح على السيميائيات ، فقد أحالها إلى مجرد منهج من أجل البحث عن حقائق النصوص الإبداعية خاصة. وفي هذا المستوى أيضا، يبدو أن المشروع يحتاج إلى إعادة النظر، لأن الآمال التي كانت معقودة عليها، وتتمثل أكثر في محاولة كشف كل الدلالات السرية والخفية في الخطابات التي تحيطنا. فقد فشلت في ذلك، وأصبحت السيميائيات مثل أي منهجية أخرى، وأحيانا تداخلت معها حتى بدت في تجارب عدة غريبة عن جوهرها.. وعموما فإنها، وفق هذه الصفة، أضحت مثل كل المناهج المنبثقة عن النظريات التي وظفت في العلوم الانسانية، تؤدي وظائف مرحلية وظرفية. وبما أن كل نظرية إلا وتترك لنا بفضل النهج المؤسس عليها، إرثا كبيرا ومهما يظل مستمرا ويستفاد منه، فالسيميائيات مهمة وضرورية. وإذا كانت امكاناتها المستتمرة لحد الآن في العالم العربي بوصفها منهجا، تدعو إلى التأمل وإعادة النظر، فإنني أتصور أن التوجه نحو البحث في مستوى التفكير في كونها آلية نظرية ومجردة ووصفية لسيرورات التمثل والتمثيل لإدراك الأدلة طريق صحيح لإعادة توجيه البحث وضبطه قبل استثماره إجرائيا.. - كيف تقيمون التعاون العربي في مجال هذه الدراسات؟ - لا أعتقد بوجود تعاون بين السيميائيين العرب لحد الساعة، لكن هناك محاولات تحضر في شكل مبادرات فردية، هذه المحاولات أتت من ليبيا مؤخرا، ونأمل أن تنتقل من المبادرة الفردية إلى التبني المؤسسي. وتتمثل في مؤتمر تأسيسي للسيميائيين المغاربيين. ووجهت لي الدعوة ورحبت بها وآمل أن يسفر هذا المؤتمر، الذي سيلتئم في الشهر القادم، أن يخلق إطارا للتعاون بين الباحثين المغاربيين. وذلك على الرغم من عدم إمكانية تجاوز الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، والتي تتمثل في أن الاشتغال بالسيميائيات هو شأن فردي وأن ما يطوره ويبلوره ويعمقه هو وعي الباحث بحدود العلم وخلفياته وليس هو الارتياط بتوصيات إطار مؤسسي ما. - بناء على ما سبق ما هي في رأيكم ظروف الانفتاح على السيمياء في المغرب؟ - يبدو أن الاهتمام بالسيميائيات في المغرب العربي لم يستند بالضرورة إلى قناعات بقدر ما كان استجابة لإرغامات تحولات أساسية ثقافية وبيداغوجية شهدها الدرس الجامعي في المغرب خصوصا، بفضلها انفتح النقد المغربي بداية من الثمانييات على هذا المنهج الذي كان مزدهرا في الغرب وتحديدا بفرنسا. فقد تزامن ذلك مع إدماج مادة السيميائيات في المقررات الجامعية بشعب اللغات ومن بينها العربية (القسم يسمى الشعبة عندنا في المغرب) ومع إيفاد بعثات طلابية الى فرنسا لتغطية خصاص الكليات المتعددة التي دشنت في تلك الحقبة. وقد وجد الطلبة آنذاك السيميائيات في أوج سحرها وازدهارها بفضل التجديد الذي وفرته للدراسات الأدبية خاصة. البداية إذن لم ترتبط بحاجة ثقافية داخلية أفرزها التطور الطبيعي، ولم تكن منطلقة من قناعات مؤسسة على أسئلة أنتجتها المعرفة بنظريات ومناهج أخرى، بل انطلقت من صدفة أحدثها الزمن.. وأعتقد بأن هذا الارتباط بالحساسية الثقافية وليس بقناعات معرفية أو تطورات نسقية، هي التي أحدثت التفاوت الملحوظ بين العلم في الثقافة الأصلية والعلم في الثقافة المفترضة، التي تحدثت عنها في البداية.. - وماذا عن واقع اللغة العربية؟ - في الحقيقة يمكن لنا أن نتحدث عن واقع اللغة العربية آخذين في الاعتبار مستويين أيضا، يتمثل الأول في كونها لغة طبيعية قاومت الزمن وأثبتت القدرة على البقاء والتكيف مع الموضوعات الجديدة المختلفة. وفي هذا المستوى من النظر نستطيع القول إنها مزدهرة وقوية قادرة على أن تستجيب للتعبير عن كل أنواع الخطابات لأنها تمتلك كل المستويات االلازمة لأي لغة حية ومؤثرة، مستوى التخاطب التواصلي اليومي والمجازي ومستوى التفكير المجرد ومستوى القدرة على مفصلة لغات ثانوية تناسب الموضوعات.. أما المستوى الثاني بوصفها لغة التواصل العادي المكتوب بين أفراد المحتمع، أعتقد أنها أصبحت اليوم كما لو كانت لغة ثانوية، وأتحدث هنا عن بلدي (المغرب) فهي في تراجع مستمر، فالتواصل الإداري وأشكال التواصل الإشهاري وخطاب واجهات المؤسسات الحرة والمهنية ومرافق الترفيه، يكاد يكون باللغة الأجنيبة، والغريب أن المسؤولين عنها ذوي وعي بسيط باللغة الأجنبية ولا يتعاملون البثة بها، لأن عملاءهم من عامة الشعب، ورغم ذلك يعتقدون أن اللغة التي يجب اعتمادها هي اللغة الأجنبية. وربما يعود هذا إلى تأثير كون المعاملات الإدارية بالقطاعات شبه العمومية المؤثرة في التعاملات اليومية للناس مثل القطاع البنكي وغيره تتم باللغة الأجبية. أما بوصفها لغة التخاطب اليومي فتسود العربية المتداولة وهي العامية. - كيف تنظرون للمحاور المعدة للنقاش في هذا الملتقى الدولي الذي احتضنته الجزائر؟ - طبعا كل الملتقيات إلا وتؤدي وظيفة وتفتح نقاشا حول المنجز والمأمول، وبذلك تفيد البحث وتطوره وأحيانا تفتح آفاق جديدة للبحث. وأنا أعتبر هذا اللقاء مهما جدا لأنه يترابط مع سلسة من اللقاءات حول نفس الموضوع بالجزائر فبعد لقاء وهران جاء لقاء جامعة بسكرة الذي شاركت فيه، وكلها لقاءات تدرح أسئلة جدية . لكن ما يميز هذا اللقاء الدولي هو اهتمامه بتشخيص الواقع واستشراف المستقبل وربطه ذلك بالسيميائيات في كل مكان أي بوصفها علما كونيا. وأيضا بسماعنا لتشخيصات غربية قدمت من قبل باحثين غربيين لهم مكانتهم.. ولم ألمس فرقا بين فهمهم للموضوع وطرحهم له وفهمنا وطرحنا.. - ماذا تقصد؟ - بصراحة لديّ ملاحظة تخص موضوع السيميائيات. يبدو أنه لا زال ملتبسا في الأذهان. فالكثير من المداخلات بما فيها الأجنبية، إذا سحبنا منها ورودات كلمة السيميائيات ستصبح مداخلات متصلة بحقول معرفية أخرى، ويمكنها أن تقدم ضمن محاورها وأن تكون اكثر ملاءمة وهناك مقاربات تحليلية أيضا يمكنها أن تكون أكثر ملاءمة لمحاور تحليل الخطاب أو النقد ونقد النقد وإشكالات الترجمة.. وهناك أيضا بعض التحديدات النظرية التي جاءت موسعة جدا، وجعلت من السيميائيات أمبراطورية امبريالية اعتورها الوهن فبدت أطرافها مترابطة ومستقلة في آن عن مركزها، ومن ثمة وهي ترسم موضوع السيميائيات كانت ترسم موضوعا هو نفسه في حاجة إلى موضوع. وليست هذه الانطباعات الصريحة متولدة الآن، بل هي التي ترتسم في ذهني في كل مقام مشابه، ومن خلال ممارستي البحثية أيضا. ولعل شعوري بكل ما سبق ذكره، هو الذي جعلني بعد تدريسي مادة السيميائيات لأزيد من عقدين، وإشرافي على العديد من البحوث، وتأليفي كتبا في مجال السيميائيات بدأت قبل أعوام في الارتباط بالمستوى النظري للسيميائيات بوصفها علما وفلسفة للتمثيل والتمثل، وتخلصت من ضغطها بوصفها منهجا إجرائيا، وجعلتها مجرد خلفية للتحليل. وقد لاحظ قرائي أن أعمالي أصبحت أكثر عمقا ومقروئية. كما لاحظت أنا نفسي أنني أكثر وحرية وقدرة على التواصل مع القراء.. { ما هي في رأيكم سُبل ترقية التعاون العربي في مجال الدراسات السيميائية ومختلف المجالات الأدبية واللغوية؟ > التعاون يجب أن يكون مرتبطا باتفاقيات شراكة بين الجامعات العربية وبين المخابر المتواجدة في الجامعات المختلفة، وأن تقام ليس ندوات ولقاءات فقط، بل إجتماعات أيضا تحدد فيها المشاريع المشتركة وتنفذ وتطبق . وتناقش فيها المصطلحات والمفاهيم الأساسية لكل حقل معرفي وتوحد ويفرض استعمالها على الأقل في الملتقيات وبذلك نعمل شيئا فشيئا على توحيدها. وهكذا. غير أن ذلك ليس سهلا فمن جهة هناك حقيقة تتصل بعادات البحث في مجال العلوم الإنسانية وتتصل بالانحياز إلى العمل الفردي، ومن جهة ثانية حقيقة كون مثل هذه المشاريع هي مسؤولية المؤسسات الرسمية التي لابد أن تكون سياساتها تؤمن فعلا بالفعل الثقافي.. . { وماذا عن مداخلاتكم في الملتقى؟ > المداخلة التي شاركت بها في هذا الملتقى كانت حول الاتجاهات السيميائية وأشكال تصور المعنى، حاولت أن أطرح من خلالها أسئلة بخصوص التوجهات العامة الحالية للبحث السيميائي في المغرب، وقاربت ذلك انطلاقا من التركيز فقط على القضايا التي تتصل بالمعنى. وهكذا اقتصرت المداخلة على ثلاثة: أولها التساؤل حول الغموض الذي يلف شكل تعامل البحث مع موضوع السيميائيات الذي يتراوح بين كونه بحثا في مكونات الأدلة والإنساق وكيفية تشكل المعنى من قبل الأدلة المجردة والمعزولة، وبين كونه آلية لكشف معنى الخطابات المجسدة، الشيء الذي يعني التأرجح بين حضورها بوصفها علما وبوصفها منهجا. وتتمثل الثانية في التساؤل حول مدى حدود قدرتها على توفير آليات عملية للبحث عن المعنى وضبطه أو على الأقل ضبط شكله، أما الثالثة ففي التساؤل حول العلاقة بين تمثلات البحث السيميائي المغربي للمفاهيم النظرية وبين تجسيده لها إجرائيا.