بسبب مقترح يتضمن حزمة توصيات على رأسها أن تكون الدارجة كلغة وسيطة للتعليم و بالنظر إلى أن الجهة التي بلورته و رفعته كملتمس ، لها شبكة علاقات خاصة يُشاع أنها قوية التأثير في إقناع مصادر القرار، انتفض كثيرون في وجه مؤسسة جمعوية ، كانت من وراء المشروع، باعتبار من يتزعم حملتها شخص يثير الحنق و التوجس مقدوح في كفاءته و لا يتوفر على أهلية خبير في مجال الاختصاص اللساني ، فيُناظر و يُصغى له ، في مثل نوعية هذه القضايا الحسّاسة التي بإمكانها تقويض الهوية الأصيلة، حسب زعمهم. و كان من البين ، بداية ، أن هذه الأوساط الغاضبة ، لا تريد أن ترى فيه فقط ، مجرد عنصر فاعل ينتمي إلى المجتمع المدني و يبادر مثله مثل الآخرين بمقترح مشروع إصلاحي يتوخّى من ورائه ، ربما توسيع دائرة النقاش و إخراج تدبير السياسة اللغوية من قلاع تلك الحلقات النخبوية المغلقة فهو يُصوّر على انه الشخص الذي يشتغل لصالح السياسة الفرنكفونية وتابع لدواليبها ، نيابة عن جهات خفية أخرى ، تتربّص بسياسة التعريب مند عقود و تحديدا مند المواجهة التي أقامها الفقيه علال الفاسي و النخبة المحافظة القريبة منه ، ردا على الخطة التي قررها أنداك يوسف بلعباس لإدخال التعليم الفرنسي في مراحل الابتدائي ..الشيء الذي حصل فعلا كما خبرته أجيال متوالية. و أنه ، إضافة ، لا يفعل إلا نقل توصيات و ترجمة أفكار شريحة من نوعية خاصة ، رابضة بثقلها المالي فوق مرافق الحياة العامة ، و جد مؤثرة بحكم قدراتها الاقتصادية ، و قوة اللوجيستيك الماسك بمفاصل المجتمع المغربي الحديث. فبالنسبة للبعض منهم، هنا تكمن الخطورة و من هذه الزاوية يأتي التهديد الفعلي ، بغض النظر عمّا يمكن أن تحمله اقتراحات إصلاحية مثل هذه حتى لو كانت ذات نوايا حسنة ، و تصب في الاتجاه التربوي. فالمبادرة تبدو مُمَأْسسة بامتياز ، مدرجة في جدول الحسابات و التوقعات المستقبلية المحسوبة النتائج و القائمة على استطلاعات و احصاءات بيانية ( كما كشفها مستثمر الإشهار نور الدين عيوش أمام إحدى القنوات) لا يأتيها باطل الارتجال لا من بين يديها و لا من خلفها. و بوسعنا أن نخمن ماذا تصبو إليه ، في المدى القريب ، خصوصا و أنها مُوجّهة عن عَمَد ، لتعبئة الوسط العريض من مستعملي "الدارجة" المقصيين ، عَرَضاً ، من نعيم امتلاك ناصية اللغة الفصحى ، و من دائرة متقنيها المتعجرفين ، المُحَصّنين خلف عصمتها ؛ مع أن الأخيرة رغم دسترتها رسمياَ ، تعرف حضورا هزيلا في التسويق و في أروقة الإدارة و زبناءها من المحتمل أنهم في تناقص مع الأسف. فمن الممكن أن الأمر ، من منظورنا ، لا ينمّ إلا عن نزوع تجاري محض ، يحوم حول اهتمامات وسائطية لها صلة مباشرة باقتصاديات اللغة. فخلف ذريعة تبسيط التواصل اللغوي بيداغوجيا، بإقحام "الدارجة" ( حصان طروادة الجديد) ثمة من يُخطط ربما - بحسّ حيتان البورصة المُولَعة بلُعْبة رفع المردودية حيثما - لتوسيع قاعدة الزبناء المفترضين ، و ضمان الوصول إلى أرباح مُعَيّنة في السوق ؛ ستنمو مستقبلا و تصير مُستقرّة ، عبر استثمار ما سيرسب في قاع لغة المعيش اليومي ، من تعبيرات و مفردات ، كوسيلة لاستدراج مستهلكين جُدد و إعدادهم كفئران تجارب لطاحونة الإشهار. و بما أن الآراء حول المسألة اللغوية و اعتماد الدارجة لغة للتدريس لم تكن متباينة نسبيا ، بما أن معظمها سار في اتجاه معارضة هذا الطرح ، مع اعتبار أن العملية كلها سيشوبها ضرب من الخلل ، بحكم أن تنوع "الدارجة" لا يسمح لها بمعيارية مُقعّدة ، تُوحّدها في وضع لغوي منسجم يسهّل تقنينها ؛ خرجت أصوات قومجية عُروبية ، مُتَشنّجة إيديولوجياً ، من وسط مجريات نقاش لغوي عام ،- كان سينتهي تَوافقيا و يُحسم أمره سلفاً – تُندّد (..بماذا يا ترى ؟...) بمؤامرة جديدة ضد هويتنا اللغوية التي هي حسب منظورهم ، لُحمة نسيج المجتمع و كانت دوما تستقي شرعيتها أصلا من القرآن .. مؤامرة تغريبية تروم القضاء على قيم المشترك المغربي من لغة و دين .. فهرولت في هيأة وفد خاص ، يمثل ائتلافا جمعويا للدفاع عن حرمة اللغة الفصحى ، للقاء رئيس الأغلبية الملتحية ، شخصيا. الأمر الذي تم فهمه من هذا الأخير على أنه حملة مضادة جاءت في سياق الجدل الدائر حول دور "الدارجة" و حول المذكرة المصاغة بشأنها المرفوعة إلى الجهات العليا. فكان من جهته أن رحب بالخطوة، مساندا إياها بقوة معتبرا أن اللغة العربية هي الدين ، و مؤمنا بقضيتها كلغة للهوية و للانتماء الديني ،كما ورد حرفيا في بعض المصادر.. فتضخمت القضية إذن ، في عُرف هؤلاء ، و تحولت إلى أخطر من مجرد مسألة استعمال اللغة الدارجة في التدريس ، باعتبارها حيلة بارعة ، تم الاهتداء إليها ، لتسهيل المأمورية على الصغار لاستيعاب المواد الدراسية في المراحل الأولى من العمر. و أخطر كدالك من مجرد قصد برغماتي في استخدامها كأداة للشرح و التلقين . مع أن هذا حاصل ليس في التعليم الابتدائي فحسب بل بلغ في انتشاره حتى أرجاء المُدرّجات الجامعية. ( فممارسة التدريس في المغرب ، و كما هو معروف ، تستعين عمليا بالهامش المتاح لها في استخدام الدارج من القاموس اللغوي اليومي ، لتوصيل و تقريب المعلومة أكثر ، و دون حرج). و هذا لسبب معلوم ، وهو أن منطلقهم ، طبعا ، مُسوّر بفكرة قبلية جاهزة تبقى هي المبتدأ و المنتهى ، لصيقة بالمعيارية الدينية أولا و غير بعيدة عن أحكام التغريب و الإيمان. فالفصحى ليست منظومة رمزية مرنة تُثرى بالتفاعل و مفتوحة على حقل الدلالات و المعاني المتشعبة المبتكرة ، بل لسان عربي مبين حامل لقيم و موروثات مثقلة بالمقدس ، كلها تَشرّبَت في فترة التدوين ، مضامينَ نصّ واحد ، فقهاً و روايةً و نحوا و بلاغة . فمُحال أن يُقاس الأصل على الفرع أو ينقلب الثاني على الأول. فاللغة من هذا المنطلق تتحول إلى صَنم مُحدّد للانتماء الهَوياتي ، حيث بالضرورة ناطقها يستنبط المرجعية القديمة و يلْتحفُها ، مستكينا لإلزاماتها ، مستظهرا قواعدها التراثية . و حتى لا نستفيض كثيرا فالسجال حول العامية كان إشكالا قديما . فمنذ ما يسمى ببداية النهضة العربية كان تجديد اللغة و إحياءها من الهموم المألوفة وقتها، فتم الشروع مبكرا في مراجعات دقيقة لما تقدر عليه تصاريف اللغة في توسيع وعاءها و تنويع تراكيبها من خلال استقبال و دمج ما يخترقها و يأتيها من كل الجهات، كانت شريفة أو خسيسة ، مادام الأهم هو أن تقترن التدفقات اللفظية و تنصهر تاركة فسحة كبيرة لضم الجدولين : الدارجة و الفصحى و ما يسبح في فلكهما ... لكن صراحة ، ما يصدم في هذه الحملة الانتفاضية المضادة هو خصيصتها الإرتكاسية العقائدية المتشنجة أكثر من اللازم ، النابعة حتما من داك اللاشعور العُصابي الجماعي الأصمّ . كأن شيئا بدائيا غريزيا قد أخذ يعتصر بالداخل و يتحرك في كل الاتجاهات ، بحثا عن مجرى لرغبة ارتدادية قوية في إعادة غطاء القداسة إلى مكانه الرمزي الأصلي ، حماية لبيضة الهوية اللغوية الموهومة ، من خدش التحولات الخارجية و تشابك الصيرورات التاريخية على تعددها ، كروافد و مكونات أساسية فاعلة في مصير الثقافات و الحضارات و الألسن .