يبدو أن النقاش الذي احتدم خلال هذه الأيام بين دعاة إدماج الدارجة في المنظومة التربوية وبين دعاة التعريب وتعزيز مكانة اللغة العربية في التعليم أكثر مما هو قائم، هو نقاش يكتنفه الكثير من اللبس ويخفي بقدر ما يظهر في خلفياته وأبعاده الرهانات التقليدية لبعض الإطارات السياسية والجمعوية والجماعية، ولبعض المثقفين والباحثين الذين تشكل وعيهم الثقافي والهوياتي وموقفهم اللغوي والتربوي في ظل سياقات سابقة. فليس من الصعب على المتتبع الفطن لمختلف الردود والآراء التي أثارها هذا النقاش، وأخرها الحوار المطول الذي أجرته جريدة الأحداث المغربية مع المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي والحوار الذي أجرته جريدة الاتحاد الاشتراكي مع الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي، أن يدرك أن أصل اللإشكال والصراع الإيديولوجي واللغوي الذي يطرحه هذا الموضوع يعود إلى غموض النقاش ورهاناته، ومحاولة توظيفه في إطار الصراع القيمي والإيديولوجي والسياسي التقليدي الذي يعرفه المجتمع وتغذيه تناقضاته. ويكفي لتبيان مدى هذا اللبس وما ترتب عنه من نقاشات تفحص مضامين ورأي الأستاذين العروي وحمودي القابلين للعديد من التأويلات، وطرح السؤال إن كان الأمر أصلا يتعلق بمشروع ومطلب إدماج الدارجة المغربية ضمن المتن التواصلي واللغوي للمدرسة المغربية بشكل واضح ومؤطر بيداغوجيا، أم يتعلق الأمر بمقترح حذف اللغة العربية الفصحى وتعويضها بالدارجة كلغة للتدريس والكتابة والإنتاج المعرفي والعلمي والفني والأدبي؟ سوء الفهم الأول الذي يغذي صراعية هذا النقاش، وهو لا يخفي في قصديته وتحريفه رغبة بعض الأطراف في اغتنام الفرصة لتكريس خيارها اللغوي والإيديولوجي وسعيها إلى تأحيد لغة التدريس وتقديسها، يتجلى في عدم التمييز، أو بالأحرى عدم الرغبة في فهم هذا التمييز، بين موضوع الحاجة إلى إدماج الدارجة المغربية بشكل نظامي في فضاء التواصل الدراسي والتعلم خاصة في المستويات الأولى من التعليم الابتدائي، وبين موضوع اعتماد الدراجة لغة للتعليم وإنتاج المعارف ودراسة العلوم والتكنولوجيا والأدب...، وما يقتضيه ذالك من وجود لغة معيارية منمطة وحرف كتابة، وما يطرحه من صعوبات كبيرة غير قابلة للتجاوز في الوضع الراهن والزمن المنظور. فالمطلوب إذن ليس تعويض اللغة العربية والفرنسية بالدارجة المغربية كلغة تدريس، وهو أمر غير ممكن في الوضع والشروط الراهنة، بل إدماج هذه التنويعات اللسانية بدورها في النسق التواصلي للمدرسة، أي الإقرار بذلك بشكل واضح وتقنينه وتطويره بيداغوجيا، لأنه أمر حاصل مند سنوات، وهو في ذالك يتجاوز حدود النقاش التقليدي بين القبول أو الرفض، والإدراج والإقصاء، وبالأحرى تضخيم الموضوع واستغلاله مطية لعودة هواجس وأحكام ومقولات المؤامرة والتخوين والوحدة الوطنية والأصالة والدين والجنة...كما حاول البعض أن يقحم النقاش في ذالك. ونعلم أن بعض اللسانيين المدافعين عن العربية أنفسهم طالبوا مند سنوات بضرورة تطويع المتن اللساني واعتماد لغة وسيطة في التعلم تستحضر تحولات المجتمع والانتشار الكبير للدراجة في وسائل الإعلام، وضرورة نزع الطابع الأسطوري عن لغة التدريس. كما أن العديد من الخبراء والمتتبعين نادوا عدة مرات بضرورة إعادة النظر في لغة تدريس العلوم، باستحضار نتائج التعريب الذي عرفه هذا التدريس بالمغرب، والتطور الذي يعرفه تدريس العلوم والتكنولوجيات والكفايات المنتظرة منه في العالم. فمن المؤكد أن ولوج الدارجة المغربية بمختلف تلاوينها إلى الفضاء المدرسي لم يكن ينتظر سلطة القرار السياسي والإداري ولا موافقة أو رفض الإطارات والأحزاب والجمعيات ولا رأي المثقفين والباحثين. فهذا الولوج تم ومند زمن ليس بيسير عبر دينامية الحياة الاجتماعية بما فيها المدرسية، ونتيجة لمختلف العوامل التي تؤثر في هذه الدينامية بما في ذلك انتشار مصادر المعلومة والمعرفة وتحول الوظائف اللغوية وسيادة منطق التواصل، وتوسع شبكة الانترنيت ووسائط التواصل الاجتماعي، وما ارتبط بذالك من رهانات تربوية وتعليمية جديدة، بل ومن مسائلة لدور المدرسة ووظائفها التقليدية. فالمؤكد أن تحولات المجتمع ودينامية اكتساب اللغات ووظائفها خلال السنوات الأخيرة لم يعد يسمح بالحديث عن لغة التدريس الواحدة، بل أنه سيكون من الغرائبي والمثير للاستفهام والجدوى أن نطلب من الجيل الجديد من المتعلمين والمتعلمات المغاربة الذين يضلون يتواصلون فيما بينهم شفاهيا وعبر وسائط الاتصال الحديثة من رسائل الهاتف النقال ورسائل الشات والفيسبوك وغيره، ويتلقون بكثافة وعلى امتداد الفضاء العام والإعلام العمومي أفلام وبرامج ورسائل وملصقات وإشهارات وإعلانات مصاغة بالدارجة المغربية، أن نطلب أو نفرض عليهم التخلص من هذه اللغة بحمولتها وشحنتها التواصلية بمجرد ولوج الأقسام الدراسية، كما كان الأمر مع الجيل السابق الذي لا زال يتذكر بعضه تلك العبارة التي تتردد على ألسن بعض المدرسين وتكتب على جدران الفصول "ممنوع الحديث إلا باللغة العربية الفصحى"! وكل ذلك التصنع التواصلي والتضخم اللغوي الذي كانت تسبب فيه مثل هذه السلوكات اللغوية المتعالية، وما ترتب عن ذلك من مجهود زائد وتبذير للطاقة والزمن الدراسي، بل وانحراف أحيانا عن الأهداف المهمة للتكوين العلمي والثقافي والقيمي. ومن المنظور العلمي واللغوي ذاته، فلا يمكن فصل هذا النقاش عن التطور الذي عرفه موضوع البحث اللساني خاصة فيما يتعلق بتراجع الدرس اللغوي التقليدي الذي كان يعلي حد الأسطرة من وظيفة اللغة العالمة ووظائفها المدرسية، لصالح الدرس التواصلي الحديث الذي يركز على أهمية التواصل في تحديد وتطوير وظائف اللغات وفي بناء المعارف والتعبير الفني والجمالي وتحقيق الوظيفة الوساطية للغة. ويرتبط هذا التطور بالخروج من دائرة الاحتكار المعرفي والمعلوماتي الذي كانت تنفرد به المدرسة والمدرس والكتب واللغات العالمة، وبالتحول والانفجار التواصلي الذي عرفته المجتمعات المعاصرة، وبروز وسائط بصرية وأنظمه علامات وأنساق سيميولوجية أكثر قدرة على التأثير والتبليغ والتواصل سواء في الفضاءات العامة أو في المجال العلمي والفني والتعليمي نفسه. وبهذا المعنى سيكون من الجمود والسعي غير المجدي أن ينظر إلى هذه التحولات وأثرها في الفضاء التعليمي بنوع من الازدراء أو المحافظة، أو الإصرار على إبقاء التعلم ولغات التواصل الدراسي في خانة الفعل العالم النقي والفصيح والمتعالي عن واقع المدرسة وتحولات فضاء المجتمع وعلائق التواصل بين الأفراد. لكن، المثير أكثر في هذا النقاش، وخاصة في رأي الأستاذ عبد الله العروي، هو التعاطي مع موضوع إدماج الدارجة بنفس شكل التعاطي مع مشروع إدماج اللغة الأمازيغية، بل والجمع بينهما في المقارنة والحكم من أجل الإعلاء من شأن العربية الفصحى وقيمتها الحضارية ودورها التعليمي والثقافي. فإذا كان المرحوم المختار السوسي الذي استحضره عبد الله العروي كمثال نموذجي قد فضل أو بالأحرى "أرغم" على الكتابة باللغة العربية وهو السوسي الذي يتحدث "الشلحة"في بيته ومع أصدقائه، فإن هذا المثال الذي يعود إلى أكثر من نصف قرن خلت لا يمكن فصله عن السياق السياسي والثقافي الذي أنتج فيه السوسي مؤلفاته، والبنية الفكرية والثقافية السائدة حينها. وللحديث عن موضوع إدماج الأمازيغية في المدرسة المغربية في الزمن الراهن يجب أن يستحضر المرء تحولات السياقات والخيارات والبنيات، وتطور مشروع التقعيد الذي تعرفه هذه اللغة، بل ومئات الكتب والروايات والنصوص والدواوين الشعرية التي كتبت بهذه اللغة، أي الإبداعات المعاصرة وليس الألواح الفولكلورية، والتي تلقى انتشارا مقبولا سواء في المغرب أو في بعض دول شمال إفريقيا وأوروبا. في سياق هذا التوضيح، يبدو من الضروري التوقف عند مكانة ومدى استحضار أشكال إدماج اللغة الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين من خلال أبعاد هذا النقاش، والذي يبدو أن البعض يتناوله دون استحضار إطاره اللغوي والتربوي الشامل، بل أن بعض الخرجات الانفعالية والردود الإيديولوجية التي أثارها موضوع الدارجة أنست البعض وجود مشروع وملف لغوي آخر مند عشر سنوات، يقاوم العوائق والمناوئة وصعوبات الإرساء، ويتطلب بدوره الحزم والوضوح، كما أنه يمكن أن يفيدنا في تبيان حدود وإمكانيات إدماج الدارجة في المنظومة التربوية. عندما نتحدث عن إدماج الأمازيغية في التعليم، وكما أثير ذلك خلال الشهور الأخيرة، فيطرح سؤال التفرعات اللسانية والتعبيرات الجهوية، واللغة المعيارية المنمطة، أي الأمازيغية الفصحى إن شئنا حتى نقترب أكثر من موضوع العربية والدارجة. وبهذا المعنى يبدو من الموضوعي القول بأن إدماج الأمازيغية كمادة دراسية ولغة للتعلم يتطلب اعتماد اللغة المعيارية المنمطة بقاموسها المستحدث وغناها المعجمي وبحرف كتابتها تيفيناغ، وقد تحقق تراكم مهم في هذا الجانب خلال السنوات الأخيرة، ولكن مع الإبقاء على التفرعات اللسانية كلغة تواصل في المستويات الأولى من التعليم الابتدائي. وهذا ما ينطلق أيضا على الرأي القائل بإدماج الدارجة أيضا ضمن المتن اللغوي والتواصلي دون أن يعني ذالك تعويض العربية والفرنسية بالدارجة. فحتى لا يكون هذا النقاش مجرد موضوع عابر للاستهلاك العمومي، أو فرصة لبعث الشكوك والأحقاد كما عكس ذالك النقاش الذي عرفه البرلمان وتدخلات بعض النواب العنيفة والمثيرة للشفقة، ومناسبة لتكريس الجمود الإيديولوجي والرهان التقليدي لتدبير الشأن اللغوي والتعليمي، يتطلب الأمر تجاوز ردود التسطيح والتضخيم والخروج من النفق الذي ينظر من خلاله إلى كل تجديد وتطوير ودمقرطة للشأن اللغوي والثقافي والتربوي بعين المؤامرة والتهديد والهيمنة، وذلك بالإقرار بواقع التحولات الحاصلة والتي تتطلب أن تواكبها جرأة القرار السياسي والإداري والثقافي، ذاته.