يمكن القول إن الشكل الذي تطرح وتناقش وتحلّ به المسألة اللغوية في بلد ما، دليل على مستوى التقدم أو التخلف الذي وصل إليه هذا البلد. ذلك لأن للغة ارتباطا سببيا ومباشرا بتكوين العقل وصنع الفكر اللذين سيكونان عاملي تقدم أو تخلف حسب نوعية التكوين "اللغوي" الذي تلقاه ذلك العقل، وشكل الصنع، اللغوي كذلك، الذي صاغ ذلك الفكر. ومن جهة أخرى، ونظرا للأهمية الكبيرة للغة كما أشرنا، فإن عدم الحسم النهائي في المسألة اللغوية ببلد ما، يعني أن هذا البلد لم يحسم في أي شيء مهمّ بعدُ، بل لا زال تائها يفتش عن ذاته وماذا يريد أن يكون، وأنه بدل السير إلى الأمام، ينفق الكثير من مجهوداته في البحث عن الطريق التي سيسلكها للسير إلى الأمام. وهذه هي حال المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، حيث أنفقت، تحت ذريعة حل مشكل اللغة، مئات الملايين على التعريب والنهوض المزعوم باللغة العربية. وهي مبالغ كان بالإمكان صرفها على المشاريع التنموية والاقتصادية لو أن مشكلة اللغة كانت قد حُلت فعلا ونهائيا. ولا زال النقاش، منذ أزيد من نصف قرن، يراوح مكانه ويكرر نفسه حول مشكل اللغة بالمغرب. "التقدم" الوحيد الذي عرفه هذا النقاش هو انتقاله من الجدال حول "تهديد" الفرنسية للغة العربية، إلى الجدال حول "تهديد" الأمازيغية لها بعد ظهور المطالب الأمازيغية، ليصل في مرحلة ثالثة (بدأت في 2010) إلى الجدال حول "تهديد" الدارجة المغربية للغة العربية بعد ارتفاع أصوات تنادي باعتماد هذه الدارجة كلغة بديلة عن العربية الفصحى. في كل هذا الجدال وعبر كل مراحله، هناك شيء ثابت لا يتغير، وهو أن العربية هي دائما ضحية ومستهدفة، وأن الآخرين، الفرنكوفونيين والمدافعين عن الأمازيغية والداعين إلى الدارجة، هم دائما دعاة فتنة وتفرقة، متآمرون وعملاء تحركهم جهات أجنبية معادية للوطن وللغته العربية وللدين الإسلامي. ابتداء من 2010 سينتقل إذن كما قلت هذا الخطاب "المؤامراتي"، الذي كان "مختصا" في مهاجمة الفرنكوفونية ومعاداة الأمازيغية، إلى إعلان الحرب على المطالبين باستعمال الدارجة بدل العربية الفصحى، والتصدي لهم، كالعادة، بالسب والشتم فيما يعتبره هذا الخطاب ردا على هؤلاء "المتطاولين" على العربية الفصحى. وهذا اللجوء إلى السب والشتم سمة ملازمة ومميزة لهؤلاء "المدافعين" عن الفصحى. فحتى عندما يكون الموضوع علميا ويعالج قضايا أكاديمية ولسنية بعيدا عما هو إيديولوجي، فإن "المدافعين" عن الفصحى لا يجدون ما يردون ويناقشون به سوى السب والقذف والتخوين والتعميل (تهمة العمالة) كما هي عادتهم. فقد سبق أن أثار مثلا أحمد رضا بنشمسي، المدير السابق لأسبوعية "تيلكيل" (Tel quel) ، مسألة لغوية هامة عندما قال بأنه لا يفهم المقصود بعبارة "منتدى السؤدد وحماه" التي يتضمنها النشيد الوطني. فما طرحه بنشمسي بملاحظته حول لغة النشيد الوطني، بغض النظر عن مقاصده المفترضة، يحتاج إلى تأمل وتحليل ونقاش علمي للمسألة بناء على معطيات ووقائع لسنية ومعجمية وتعليمية وثقافية كما يقتضي الموضوع ذلك. فكلمة "السؤدد" مثلا لم يعد بفهمها إلا القليل من المتعلمين، فبالأحرى أن يفهمها الأميون الذين يشكلون أزيد من 50% من المغاربة، فضلا على أنها من الألفاظ القديمة والمهجورة التي لم تعد مستعملة ومتداولة في اللغة العربية. وهذا ما يطرح سؤالا حقيقيا حول الغاية من نشيد وطني مصاغ بلغة لا يفهمها المواطنون. لكن "محبي" الفصحى اكتفوا باستعمال أسلحتهم التقليدية الصدئة الوحيدة التي يملكونها ويجيدون استعمالها، وهي سلاح السب والشتم واتهام بنشمسي بالخيانة والعمالة والولاء للأجنبي، إلى آخر الخطاب المعروف، المكرور والمملول. وهؤلاء، بلجوئهم إلى السب والشتم بدل الحجاج والاستدلال ولإقناع، لا يسيئون فقط إلى أنفسهم، بل يسيئون إلى اللغة العربية التي نصبوا أنفسهم "للدفاع" عنها، إلى الحد الذي يجعل المشكل الحقيقي والكبير الذي تعاني منه اللغة العربية، إلى درجة الإعاقة، هو أن من يحلل واقع هذه اللغة ويشخّص مشاكلها والصعوبات التي تعاني منها كلغة، يتهم بأنه يعاديها ويحاربها خدمة لجهات أجنبية! وهكذا تبقى العربية في منأى عن أي تحليل علمي وموضوعي لمشاكلها وصعوباتها وعوائق انتشارها وتعلمها، قد يساهم في اقتراح حلول لهذه المشاكل والتفكير في وضع منهجية ميسرة حديثة وملائمة تسهل تعلمها وانتشارها. فبدل التعامل الواقعي مع الواقع الصعب للغة العربية، يخفي "المدافعون" عنها هذا الواقع ويحجبونه باتهام من يكشف عنه ويناقشه ويطرح أسئلة حوله بأنه حقود على العربية وعميل لجهات أجنبية معادية. وهكذا تظل العربية، مقارنة بلغات أخرى أجنبية، متخلفة، تعرف تراجعا متواصلا لعجزها عن التكيف والتطور لأن "المدافعين" عنها يمنعونها من ذلك. فمن يحاول تشخيص عجزها وتخلفها، يتهمه هؤلاء "المدافعون" عنها بأنه عدو لها ويريد سوءً بها. لقد كانت الدعوة، ابتداء من سنة 2010، إلى استعمال الدارجة المغربية بدل العربية الفصحى ، منسابة لفتح ملف اللغة العربية وطرح ألأسئلة المقلقة حول مكانتها ووظيفتها بالمغرب ودورها في أزمة النظام التعليمي ببلادنا، وعلاقتها، انطلاقا من هذا الدور، بضعف التنمية الاقتصادية والفكرية بالمغرب، وبالنقص في تأهيل المواطن المغربي. إن تجنب هذه الأسئلة والقضايا التشخيصية، والاستعاضة عنها بخطاب التمجيد للعربية، وشيطنة من يطرح هذه الأسئلة والقضايا، يزيد من مشاكل العربية ويساهم في تراجعها وتخلفها. لأن معالجة هذه المشاكل وإيقاف هذا التراجع يشترطان أولا تشخيص هذه المشاكل ومعرفتها ووضع الأصبع عليها. وهذا ما يرفضه "حماة" الفصحى ويتهمون من يقوم بذلك بأنه عدو للعربية ومتآمر عليها. إنهم يحمون حقا العربية، لكن من التطور والحداثة. إنهم يحبون العربية إلى درجة تركها تموت دون تقديم مساعدة لها، أو قبول إجراء فحص "طبي" لحالتها "الصحية". فبئس الحب الذي يقتل الحبيب! وهذا هو المشكل الحقيقي الكبير الذي تعاني منه العربية، والمتمثل، كما سبق أن شرحنا، في أن "حماتها" يرفضون أية مناقشة ترمي إلى إعادة النظر في وضع اللغة العربية ووظيفتها بالمغرب. إنها دائما لغة الجنة، اللغة المقدسة، سيدة اللغات، اللغة التي فضلها الله على اللغات الأخرى، لغة الوحدة، لغة النبوة... المشكل الثاني الذي تعاني منه العربية الفصحى، أن كل الذين "يدافعون" عنها لا يجدون حرجا في اختيار اللغات الأجنبية لتعليم وتكوين أبنائهم. وهذه مشكلة كبيرة كذلك، صاحبت سياسة التعريب منذ الاستقلال إلى اليوم. ف"المدافعون" عن العربية لا يعطون المثال والقدوة بأنفسهم في رد الاعتبار للعربية التي لا يكلّون من المطالبة به. فمن يصدق إذن ما يتظاهرون به من "حب" و"غيرة" على العربية؟ إنهم يكذبون على العربية المسكينة أكثر مما يكذبون على غيرهم ممن يختلف معهم في الرأي حول المسألة اللغوية بالمغرب. فهل بالكذب يكون الدفاع عن القضايا المصيرية؟ المشكل الثالث للغة العربية، هو أن "حماتها" يردون، عندما يقال لهم بأن الفصحى لغة لا تستعمل إلا في الكتابة فقط وليس في التخاطب الشفوي، مما يجعل منها لغة نصف حية أو نصف ميتة، يردون، وبكل ثقة "علمية"، بأن هذه الوضعية عامة تعرفها كل لغات العالم المتقدمة كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية والصينية واليابانية، لأن كل هذه اللغات تتضمن، مثل العربية، مستويين من الاستعمال: المستوى العامّي أو "لارگو" L'argot الذي تقابله في حالة العربية الفصحى الدارجة، والمستوى المدرسي العالِم Savant الخاص بالكتابة والتدريس والإنتاج الأدبي. ويضيفون، ردا على دعاة الدارجة، أن لا أحد من الفرنسيين أو الإنجليز دعا إلى ترسيم لهجات " لارگو " العامية، مكان اللغة المدرسية والرسمية. وهذه مشكلة كبيرة وكبيرة جدا. لماذا؟ لأنها تجعل من النقطة الأضعف في العربية الفصحى شيئا عاديا وطبيعيا يوجد في جميع اللغات التي ارتقت إلى مستوى الكتابة. وهذا غير صحيح إطلاقا. ودون عرض كل الأدلة على أن علاقة الدارجة المغربية بالعربية الفصحى تنحصر فقط في الجانب المعجمي وبنسبة محدودة، ولا تشمل البنية النحوية والتركيبية التي تبقى أمازيغية، كما سبق أن شرحت ذلك بإسهاب في موضوع "هل الدارجة المغربية أداة للتعريب أم وسيلة للتمزيغ؟"، والمنشور ضمن كتاب "في الهوية الأمازيغية للمغرب"، (دون عرض هذه الأدلة إذن)، أكتفي هنا بالمعطى التالي: نحن في المغرب ندرس الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والألمانية، وغيرها من اللغات الأوروبية، في مستواها المدرسي الأكاديمي، مع جهل تام لمستواها العامي المفترض، والخاص بالشارع والبيت والتخاطب اليومي كما هو حال الدارجة المغربية. لكن عندما نكون في فرنسا أو إسبانيا أو بريطانيا أو ألمانيا، فإننا نستعمل اللغة المدرسية التي تعلمناها في المدرسة وليس في الشارع في التخاطب بها في الأسواق والقطار والشارع والمقهى والمطعم، فيفهم مواطنو ذلك البلد كلامنا ويردون علينا ويخاطبوننا بنفس اللغة التي تعلمناها في المدرسة. وهذا يعني أن لغة المدرسة، في هذا البلد، هي نفسها المتداولة كذلك في الشارع لأنها لا تختلف عن لغة التخاطب اليومي للسكان. أما العربية الفصحى التي نتعلمها في المدرسة فلا وجود لها إطلاقا في الشارع والأسواق وفي التواصل اليومي للسكان. بل أكثر من ذلك أن المتعلمين الذين يجيدون العربية الفصحى، لا يستعملونها في التخاطب فيما بينهم، في حين أنهم قد يستعملون للتواصل فيما بينهم الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية التي تعلموها في المدرسة. وهذا يعني ويؤكد أن العربية الفصحى لم يعد لها استعمال في التخاطب الشفوي حتى عندما يكون المتخاطبان متمكنين من هذه العربية الفصحى، فبالأحرى أن يستعملها السكان في التخاطب كما هو حال الفرنسية والإسبانية والإنجليزية مثلا كما سبق أن رأينا. فالدارجة المغربية إذن لغة قائمة بذاتها ومنفصلة عن الفصحى، عكس (لارگو) الفرنسي أو الإسباني الذي تربطه باللغة المدرسية علاقة اتصال واستمرارية. في الحقيقة، هذا هو المشكل الحقيقي والوحيد للعربية الفصحى لأن المشاكل الأخرى متفرعة عنه ومرتبطة به. إنه مشكل القطيعة بين لغة البيت ولغة المدرسة. هذه القطيعة التي يؤدي فاتورتَها نظامُنا التعليمي الذي لا يزداد إلا فشلا وإخفاقا بسبب هذا الانفصال بين لغة البيت ولغة المدرسة. المشكل الرابع للعربية الفصحى بالمغرب أن "المدافعين" عنها يقولون، ردا على من يتهمها بالعجز والقصور ويطالب بتعويضها بالدارجة، بأن العربية يتحدثها أكثر من ثلاثمائة (300) مليون شخص في العالم، متقدمة في ذلك على الفرنسية والألمانية والإيطالية. فكيف يعقل المطالبة باستبدال لغة بهذا الانتشار الواسع بلهجات عامية محدودة الانتشار؟ وهذه كذلك مغالطة كبيرة أخرى، بل هي كذبة حقيقية، ليس لأن عدد ثلاثمائة مليون من المتحدثين بالعربية غير حقيقي ما دام أن مجموع سكان الدول العربية الحقيقية أقل من ذلك بكثير، وإنما لأن لا أحد في كل الدنيا كلها يتحدث أقول يتحدث وليس يكتب العربية الفصحى كلغة تخاطب في الحياة اليومية. فالعربية الفصحى، على هذا المستوى الذي يخص استعمالها في التخاطب، لغة ماتت وانقرضت منذ زمان. فبدل الاعتراف بهذه الحقيقة قصد التعامل معها بما يلزم من واقعية وجدية وموضوعية، خصوصا في الجانب المتصل بلغة التدريس، يستمر "حماة" الفصحى في إخفاء ضعفها والكذب عليها بالقول بأن عدد الناطقين بها يتجاوز 300 مليون. وإذا كانت الفصحى بهذه القوة والنفوذ والانتشار، فلماذا الخوف عليها من الدارجة والأمازيغية؟ المشكل الخامس للعربية أن "حماتها" يقولون ويكررون، في ردهم على من يفضل اللغات الأجنبية بالمغرب على العربية الفصحى، أن كل الأمم المتقدمة، مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية وألمانيا، لم يتسنّ لها أن تتقدم إلا بفضل اعتمادها على لغة الأم الوطنية وليس على اللغات الأجنبية، كما يفعل الفرنكوفونيون بالمغرب. وهذه مغالطة أخرى توهم بأن العربية الفصحى هي لغة الأم التي يجب اعتمادها في التدريس والتكوين، مع أنه ليست بلغة أم لأي أحد في العالم كله. وهذه حجة عليهم وليست لهم: ففشل نظامنا التعليمي يرجع في أسبابه الرئيسية إلى اعتماد الفصحى في التدريس، التي ليست لغة أم لأي تلميذ في المغرب ولا في أي بلد آخر. وبالتالي فإن ادعاءهم بأن نهضة الأمم تقوم على لغة الأم، هو تأكيد وتأييد لموقف المطالبين باستعمال الدارجة، وكذلك الأمازيغية، كلغة تعليم وتدريس، لأن هاتين اللغتين هما وحدهما وليس الفصحى لغات أم بالمغرب. وارتباطا بتقدم الأمم ونهضتها، نذكّر هؤلاء المتباكين على الفصحى التي يرون أن رد الاعتبار لها واستعمالها، بدل الفرنسية المهيمنة بالمغرب، سيكونان من أسباب تقدم المغرب ونهضته، نذكّرهم أن النهضة الأوربية التي ابتدأت من القرن الخامس عشر، ما كان لها أن تحصل وتُخرج أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى نور الحداثة والعلم والتقدم، إلا بعد أن تخلت الأمم الأوروبية عن اللغة اللاتينية وتبنت لهجاتها العامية كلغات رسمية تستعمل في التدريس والقضاء والإدارة وكل مؤسسات الدولة. هذه اللهجات التي كانت عامية تستعمل في الأسواق والبيت والتخاطب اليومي بين المواطنين، هي التي تشكلت منها العديد من اللغات الأوروبية المستعملة اليوم مثل الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية. فاللاتينية، كلغة نخبة وكتابة لا تستعمل في الحياة اليومية للمواطنين، تماما كما هو حال العربية الفصحى اليوم، كانت عائقا حقيقيا أمام أية نهضة حقيقية. ولهذا فإن هذه النهضة لم تنطلق إلا بعد القطع مع اللغة اللاتينية واستبدالها بلغات الحياة، أي ما كان يطلق عليه باللهجات العامية أو الشعبية. ومن جهة أخرى، كانت اللغة اللاتينية في القرون الوسطى جزءا من الاستبداد الذي كانت تمارسه الكنيسة ورجال الدين على بقية الشعب. فرجال الدين هؤلاء، بحكم إتقانهم للغة اللاتينية التي كان يجهلها غالبية الشعب، كانوا وحدهم المؤهلين لاتخاذ القرارات السياسية والدينية (وهل كان هناك فرق بين الاثنين؟) وفرضها على الآخرين الذين لا يستطيعون مناقشتها أو الاعتراض عليها لأنهم يجهلون اللغة اللاتينية التي وحدها تُقبل لمناقشة تلك القرارات، وهو ما جعل تلك المناقشة تكون محصورة لدى نخبة محدودة من رجال الكنيسة والسلطة. وهكذا كان رجال الكنيسة والحكم يمارسون دكتاتوريتهم على البسطاء من أبناء الشعب لامتلاكهم سلطة اللغة التي تخوّل لهم التصرف في مصير غالبية الشعب باعتباره جاهلا وأميا وقاصرا لأنه لا يتقن لغة السلطة والمقدس الديني، ولأن كل ما يعرفه هو لغته العامية التي يستعملها في حياته اليومية. ولهذا فإن ثورة الشعوب الأوروبية على اللغة اللاتينية والتخلي عنها لصالح اللغات العامية، كان ثورة أولا على التسلط والاستبداد اللذين كانا يمارسان باسم هذه اللغة، ذلك أن تبني اللهجات العامية كبديل عن اللاتينية كان شرطا لنشأة الديمقراطية بأوروبا، لأن اللغة، العامية التي هي لغة الشعب وليس لغة النخبة من رجال الدين ورجال الحكم، لم تعد حكرا على طبقة معينة، بل أصبحت ملكا مشتركا يستعمله على قدم المساواة كل أفراد الشعب. وهو ما مكّن هؤلاء، الذين كانوا مبعدين عن شؤون السلطة والسياسة لأنهم لا يتقنون لغتها النخبوية، من أن يشاركوا في مناقشة شؤون الدين والدولة والسلطة والسياسة لأنهم أصبحوا يجيدون لغتها التي ليست سوى لغتهم العامية التي أصبحت هي لغة السلطة والسياسة والدين ومؤسسات الدولة. إن الديمقراطية اللغوية مقدمة ضرورية إذن للديمقراطية السياسية. وفي المغرب، نلاحظ نفس الوضع الذي كان سائدا مع اللغة اللاتينية: فبما أن العربية الفصحى هي لغة السياسة والسلطة، فإن الذي لا يتقن هذه اللغة يجد صعوبة في مناقشة هذه السلطة ونقد برامجها وطريقة تسييرها للشأن العام، لأن عليه، في كل الحالات، أن يستعمل لغتها الرسمية التي لا يجيدها. لهذا نجد أن الوجوه السياسية التي يحاورها الإعلام هي، في الغالب الأعم، تلك التي تتقن العربية الفصحى، في حين تقصي مثلُ هذه الحوارات أبناءَ الشعب من عرض مواقفهم السياسية والتعبير عن انتقاداتهم أو رفضهم للطريقة التي تسيّر بها الشؤون العامة، لأنهم لا يعرفون اللغة الفصحى. ففرض العربية الفصحى، كلغة نخبوية مقصورة على المتعلمين، يكرّس غياب الديمقراطية الذي لا يسمح لكل أبناء الشعب بالمشاركة السياسية والتعبير من مواقفهم لأنهم "مقطوعو" اللسان. أما إذا كانت الدارجة والأمازيغية لغتين رسميتين للسلطة والدولة ومؤسساتها، فإن كل المواطنين يصبحون متساوين في امتلاك سلطة اللغة التي تمكّن الجميع من التعبير والمناقشة والاعتراض والاحتجاج. وهذا ما سبق لكاتب ياسين أن شرحه عندما ربط سياسة التعريب بالجزائر برغبة الحكام المستبدين في منع الشعب من الاحتجاج عليهم ورفض سياستهم التسلطية لأنه يفتقر إلى لغة السلطة والسياسة التي بها وحدها تناقش شؤون الدولة والسياسة. فاعتماد لغات الشعب، مثل الدارجة والأمازيغية، كلغات رسمية تستعمل في الإدارة والقضاء ومؤسسات الدولة، ليس مطلبا لغويا ولسنيا فحسب، بل هو أولا مطلب ديمقراطي يؤسس للمساواة بين لغة المواطنين ولغة السلطة، بين لغة الشعب ولغة الدولة. من السهل أن يستنتج "المدافعون" عن الفصحى من هذا الاستعراض لمشاكلها، التي هي مشاكل يقف وراءها هؤلاء "المدافعون" عن هذه اللغة أنفسهم كما سبق أن شرحنا، أننا نعادي هذه اللغة ونحاربها، كما هو ديدنهم كلما نوقشت مشاكل الفصحى بالمغرب. مع أن المسألة هنا لا تتعلق ب"حب" أو "عداء"، بل بوقائع وحقائق عنيدة لا يمكن تغييرها بمجرد الأماني الجميلة والرغبات النبيلة. فالعربية الفصحى لم تعد اليوم لغة للحياة بعد أن فقدت الشرط الأول لهذه الحياة وهو استعمالها في التخاطب. وهذا الوضع غير "الحيوي" للعربية الفصحى لا يرجع إلى قصور فيها كلغة، وهي التي تتوفر على عبقرية لغوية فذة قلما تتوفر في كثير من اللغات الأخرى، متمثلة في طبيعة نظامها النحوي والاشتقاقي والمعجمي العجيب الذي يجعل منها لغة عظيمة ذات عبقرية خاصة . وإنما يرجع إلى أسباب تاريخية لا يمكن معها العودة إلى حالة العربية كما كانت قبل تلك الأسباب، والتي جعلت منها لغة لا تستعمل في الحياة اليومية مثلما حدث للاتينية نفسها. وهذا هو بيت القصيد. وهنا نستحضر أن "المدافعين" عن الفصحى يكررون دائما، للرد على من يدعون إلى استبدالها بالدارجة، بأنها لغة القرآن. إذن إذا كانت العربية لغة القرآن، وهي كذلك، فلماذا نريد أن تكون لغة الإشهار والأبناك والشركات والمراكز التجارية والإنتاج الاقتصادي والتكنولوجيا والمختبرات والأنترنيت والسينما...؟ لنتعامل معها إذن كلغة للقرآن ونتعلمها أولا من أجل فهم النص القرآني وما يرتبط به من شؤون فقهية ودينية وتعبدية، وثانيا من أجل الاطلاع والحفاظ على التراث الثقافي الإسلامي المكتوب بالعربية. وهذا لا يقلل شيئا من قيمتها ومكانتها، أو يهددها بالتراجع أو الانقراض ما دام أن القرآن لن يتراجع ولن ينقرض. وبهذا التحديد الوظيفي للغة القرآن، سنحترمها ونجلّها ونرد لها الاعتبار لأننا سنوفر لها شروط نجاحها وتفوقها في المجال الخاص بها، والذي هو المجال الديني والقرآني والتراثي. أما عندما نريد أن تكون لغة الحياة وتأهيل الإنسان وإعداده لسوق الشغل الذي يتطلب لغات أخرى، فإننا نضعف الفصحى ونسيء إليها ونخلّ بالاحترام الواجب لها لأننا نقحمها في مجالات ليست أهلا لها، فتظهر كلغة عاجزة وفاشلة لأن تلك المجالات ليست من اختصاصها ولا من مهامها، لأنها تفتقر إلى وظيفة التخاطب الشفوي كما سبقت الإشارة.