الدارجة والفرنسية: لغتان وطنيتان؟ في مقاله المنشور على صفحات هسبريس الإكترونية: "عندما يسيء لساني إلى اللسان"، يطرح السيد محمد بودهان- بطريقة غير مباشرة - جدوى وجود الأمازيغية المعيارية للنقاش. لم يكن ذلك أبدا مقصوده ولا مبتغاه. لكن، وهو في خضم الدفاع عن شرعية الدارجة المغربية لتحتل مكانة العربية الفصحى، كان يطلق زخات من الرصاص القاتل على اللغة الأمازيغية. قد يعتبر هو هذا ادعاء باطلا لا يستند على أرضية صلبة. فليتروى قليلا ويتمعن فيما قاله هو وما سنقوله نحن، وسيكتشف بنفسه تبعات ما يدعو إليه و ما يحث عليه. هل الدارجة المغربية لغتنا الأمازيغية الوطنية الناجحة؟ يقول السيد محمد بودهان أن "الدارجة المغربية، التي تسمى خطأ وعامّيا "العربية"، هي في الحقيقة لغة أمازيغية، أولا في روحها وتركيبها ونحوها ومعانيها، وثانيا في نشأتها بالبلاد الأمازيغية بشمال إفريقيا"، ويقول: "لا أحد ينكر أن الدارجة لغة وطنية. ويجب هي كذلك تأهيلها لأن تكون صنوة للأمازيغية، التي هي في الحقيقة أمها التي أنجبتها واحتضنتها وربتها"، هذا الموقف يتضمن مما يتضمن، أن الدارجة المغربية باعتبارها لغة أمازيغية وباعتبارها الأوسع انتشارا واستعمالا في أغلب مناطق المغرب، هي المخولة لأن تكون ليس فقط لغة المغرب الوطنية، بل لغة من لغتينا الرسميتين أيضا. لسبب منطقي هو أن الناطقين بالعربية يعتبرونها لغة عامية عربية، وهي في نفس الوقت لغة أمازيغية، على حد قول السيد محمد بودهان. إذاًً، وبناء على هذا الطرح قد تكون الدارجة المغربية قد كسبت قبول جل الأطراف داخل الساحة المغربية. وللوضوح نقول أن السيد بودهان يطالب بأن تكون الدارجة المغربية لغة وطنية إلى جانب اللغة الفرنسية من جهة، واللغة الأمازيغية (المعيارية) من جهة أخرى. وهذا يعني أنه يطالب بلغتين أمازيغيتين وطنيتين اثنتين ولغة أجنبية (الفرنسية) أخرى إضافية بنفس الصفة وبنفس الدرجة من الأهمية! وهو بهذا المطلب لا يحارب شرعية وجود العربية الفصحى كلغة رسمية للبلاد فقط، وإنما يفقد الأمازيغية المعيارية شرعية وجودها أيضا، دون أن يفطن لذلك. إذا أصبحت الدارجة المغربية - كلغة أمازيغية - لغةً وطنية، فلن تكون هناك حاجة إلى إضافة لغة أمازيغية معيارية لم تنتشر بعدُ ولم تنضج. بمعنى آخر: لماذا نتعب أنفسنا في خلق لغة أمازيغية معيارية موحدة ونهدر المجهود والمال إذا كنا بالفعل نملك لغة أمازيغية بهذا الإنتشار وبهذا المستوى من القبول الشعبي؟ و حينما يضيف: "أما الأمازيغية فيجب التعامل معها كلغة الهوية، أي لغة الأرض والجغرافيا والانتماء. وهي قادرة بحكم وظيفتها التخاطبية أن تقوم بكل الأدوار والوظائف بشكل ناجح إذا تم تأهيلها بشكل جدي موفق لتكون لغة كتابة وتدريس"، فذلك ينطبق بالدرجة الأولى على الدارجة المغربية (بحكم 'أمازيغيتها' وبحكم وظيفتها التخاطبية الناجحة). فتنوع اللهجات الأمازيغية واختلافها عن بعضها البعض وعدم تحقيقها مهمة التواصل فيما بين الناطقين بها من أمازيغ المناطق المختلف، يقوي شرعية ومنطق تبوء الدارجة المغربية - "كدارجة أو كلغة أمازيغية"- المكانة الأولى بين كل اللهجات الأمازيغية، لأن الأمازيغ المغاربة الموزعين على مناطق جد متباعدة داخل المملكة، لا يتمكنوا من التواصل فيما بينهم إلا بواسطة الدارجة المغربية (وكاتب هذه السطور باعتباره ابن الريف أبا عن جد، تصدمه هذه الحقيقة كلما تواصل شفهيا مع أمازيغ الوسط أو الجنوب). فهل يقبل السيد بودهان أن تنوب الدارجة المغربية باعتبارها لغة أمازيغية، عن كل اللهجات الأمازيغية وتكتسب صفة اللغة الوطنية بل وتصبح بين عشية وضحاها لغة رسمية، إلى جانب اللغة الفرنسية؟ فإن كان هو يقبل ذلك فهذا شأنه وهو حر فيه، أما أكثرية المغاربة كما أظن - ناطقين بالأمازيغية أو غير ناطقين بها - فلن تقبل بذلك أبدا. هل هيمنة الفرنسية راجع لضعف العربية؟ يطالب السيد بودهان، ونحن نؤيده في ذلك كل التأييد، بتأهيل الأمازيغية المعيارية "بشكل جدي موفق لتكون لغة كتابة وتدريس"، وبالتالي "ستكون هي المنتظر منها منافسة الفرنسية وزحزحتها من عرشها بالمغرب"، ولكننا لا نسانده في تخوفه من عجز اللغة العربية الفصحى على منافسة الفرنسية وعلى زحزحتها من مكانها. يقول: "لأنها لغة كتابة وليست لغة تخاطب"، وكأن العربية الفصحى لا يمكن تبسيطها ولا يمكن النزول بها إلى الشارع من أجل التواصل اليومي العادي، كما هو الشأن لدى جميع اللغات. تطور من البسيط إلى المعقد: التطور من التخاطب والتواصل الشفوي إلى الكتابة والقراءة وإنتاج الفكر والمعرفة. فما هو الأسهل وما هو الأصعب يا ترى؟ الإتجاه الفوقي للغات أم الإتجاه السفلي؟ النزول إلى الشارع أم الصعود إلى القمة؟ هل الأسهل أن تجعل من لغة التواصل البسيطة لغة للأدب والعلم والمعرفة، أم الأسهل أن تبسط لغة الأدب والعلم والمعرفة لتصبح لغة التواصل والتخاطب اليومي، إلى جانب الإنتاج الفكري والمعرفي؟ يبدو أن الجواب واضح لمن أراد التعاطي بحياد مع اللغة العربية. يقول السيد بودهان أيضا: "فكل الأموال الطائلة والمجهودات الكبيرة والوقت الكثير الذي أنفق من أجل القضاء على الفرنسية وإحلال محلها العربية، كل ذلك ذهب سدى وبدون جدوى، مع تدنٍّ فضيع لمستوى تعليمنا، في حين أن الفرنسية لا تزال هي اللغة المهيمنة بالمغرب"، وكأني به يُحَمِّل مسؤولية الفشل هنا للغة العربية وليس للحكومة أو للحكومات المتعاقبة ولسياساتها الفاشلة. بهذا المنطق قد يقول قائل غدا، في حالة إذا ما فشل مشروع الأمازيغية المعيارية لاقدر الله، أن اللغة المعيارية هي سبب الفشل وليس الذين ينظرون لهذا المشروع ويؤسسون له. وهذا تحامل على اللغة وحدها ولا يحَمِّل المخططين والمنظرين مسؤولية فشلهم. إنه منطق يقف على رأسه بدل رجليه. ثم من أدرانا أنه لولا ذلك الجهد والاستثمار لكان الأمر أكثر سوء مما هو عليه الآن؟ . . . أنا وعدوي في مواجهة عدو ثان أكثر خطورة إن الحقبة الزمنية التي كان فيها نشطاء اللغة الأمازيغية يعتقدون أن قيام ونجاح اللغة الأمازيغية الموحدة لن يتم له التوفيق إلا إذا تم إضعاف اللغة العربية إضعافا أو تحطيمها تحطيما، هي حقبة ينبغي أن تكون قد ولت وانتهت بلا رجعة. فاللغة العربية واللغة الأمازيغية المعيارية يقفان الآن جنبا إلى جنب، كلغتين رسميتين للمغاربة جميعا. ينبغي الآن على الناطق بالأمازيغية والناطق بالعربية في المغرب، أن يضعا يدا في يد، من أجل التعاون الخالص والمخلص للنهوض باللغتين كليهما وإنجاحهما، بدل الطعن في صدور وظهور بعضهما البعض بالرماح الخفية والعلنية، ومحاربة بعضهما البعض إلى درجة الاستعانة والإستقواء بالغير (بالفرنسية) كما يفعل السيد بودهان حين يقول: "والتعامل الواقعي مع اللغة الفرنسية يقتضي الاعتراف بها كلغة وطنية، نعم كلغة وطنية لأنها هي كذلك". فالسيد بودهان يدافع عن وجود اللغة الفرنسية ليحارب بها بصراحة وجود اللغة العربية، وليس لسبب آخر. يبدو ذلك جليا في قوله: "الفرنسية لغة وطنية بالمغرب أكثر من العربية" ولا ندري على أي منطق عجيب يستند هذا الإدعاء! فلا شك أن السيد بودهان يعتقد أن اللغة الفرنسية كقوة لغوية غربية مدججة بسلاحها الاقتصادي الفتاك، هي الوحيدة القادرة على الانتصار وربما سحق لغة كتاب المسلمين المقدس. فهو يظن أن انهزام العربية أمام الفرنسية، سيسهل على الأمازيغية الانفراد بلغة قوية واحدة فقط كالفرنسية والانتصار عليها في آخر المطاف، بدل مواجهة لغتين قويتين كما هو الحال الآن حسب اعتقاده الغريب. هذا المنطق يتأسس على خدعة (أنا وعدوي في مواجهة عدو ثان أكثر خطورة، من أجل الانفراد النهائي بالعدو الأقل خطورة)، وهو منطق أقل ما يقال عنه أنه غير أخوي و أنه محفوف بالألغام. يضيف السيد بودهان: "إذا استحضرنا وظيفة التخاطب التي تتوفر عليها الفرنسية وتفتقر إليها العربية، فستكون الفرنسية لغة وطنية بالمغرب أكثر من العربية، لأن عددا كبيرا من المغاربة يتخاطبون بها عكس العربية، علما أن اللغة الوطنية هي اللغة التي يتخاطب بها المواطنون في بلد ما. فالفرنسية، حتى إذا كان الاستعمار هو الذي غرسها بالمغرب، إلا أنها أصبحت غنيمة حرب نافعة كما قال كاتب ياسين." فإذا كان السيد بودهان معجب بمقولة الكاتب الجزائري كاتب ياسين، الذي يعتبر اللغة الفرنسية غنيمة حرب، فإن الجميع يعرف أن الضعيف المغلوب على أمره لا يمكن أن يغنم من القوي المسيطر إلا ما يتكرم به السيد عليه عن طيب خاطر. (المغرب لم يتحرر لحد الساعة من تبعيته لفرنسا على المستويين الاقتصادي والثقافي، فكيف له أن يغنم شيئا من فرنسا؟). فلو سُميت اللغةُ الفرنسية هديةَ الهيمنة الفرنسية للشعب المغربي المغلوب على أمره، لكنا أقرب إلى الواقع وإلى الحقيقة من هذا التلاعب بالمساحيق لتجميل واقع مرفوض وبعيد كل البعد عن الجمال. وبهذا المنطق، منطق 'الغنيمة' يمكن للمدافعين عن الفرنسية والمحاربين للعربية كالسيد بودهان، أن يعتبروا العربية أيضا غنيمة حرب، وعليه بالتالي أن يدافع عنها وعن وجودها كما يدافع عن الفرنسية وعن بقاء الفرنسية، خاصة وأن اللغة العربية قد 'غنمها' المغاربة منذ قرون طويلة، وتجذرت في المجتمع بشكل يستحيل معه زحزحتها، في حين أن الفرنسية بعمرها القصير تعتبر من دخلاء الأمس فقط. ومع ذلك يدافع السيد محمد بودهان عن وجود الفرنسية في وطن آبائه وأجداده غير الفرنسيين، وفي أرض بدون سكان فرنسيين. بل ولا يلتزم حتى الحياد السلبي بين لغة فرنسا البعيدة ولغة الكتاب المقدس عند أبناء وطنه المسلمين. يواصل قائلا: "فاللغة التي لا تستعملها إلا نخبة محدودة هي بالتأكيد لغة قمع وليست لغة تحرر"، ويقصد بذلك اللغة العربية وليس اللغة الفرنسية! وكأن العربية (وليس الفرنسية) هي لغة النخبة القابضة بزمام الأمور في المغرب ومنذ عقود. فهل فعلا يصدق السيد بودهان نفسه كلاما من هذا القبيل؟ هل ينطبق ذلك فعلا على اللغة العربية وليس على اللغة الفرنسية التي يفتخر بها ويعتبرها 'غنيمة حرب'، 'غنيمة ' فرضت فرنسا عليه وعلينا جميعا أن 'نغنمها' شئنا أم أبينا. ثم ما كان على شخص نحترمه كثيرا أن ينقل هراء في مستوى هذا الهراء، عن كاتب جزائري أطلق على أحد أبنائه إسم: هانس، ولعله يعتبر هذا الاسم أيضا من غنائم حربه ضد فرنسا. قد يقول غاضب: اللغة الفرنسية لغة وطنية أكثر من الأمازيغية! إذا سمعتُ غاضبا يقول: 'اللغة الفرنسية لغة وطنية أكثر من الأمازيغية'، فإن ذلك سيؤلمني كثيرا ويثير أعصابي أكثر. قد أجيبه وقد أكظم غيظي ولا أجيب. وبالمقابل فإن الإدعاء جهرا أن "الفرنسية لغة وطنية بالمغرب أكثر من العربية"، هو ادعاء أيضا يؤلم الكثير من أبناء وطن السيد بودهان. فهل هو واع بهذه الحقيقة أم أعماه الغضب عن هذه الأمور البالغة الأهمية؟ فإذا كان السيد بودهان لايحب اللغة العربية ولا يقدرها فذلك أمر يهمه هو وحده، ولكن عليه على الأقل أن يحترم أبناء وطنه الذين لا يشاركونه نفس الرأي، ويحترم أذواقهم وأفكارهم وألسنتهم. فمن أسس وأخلاقيات المواطنة الحقة، احترام الأخ في المواطنة واحترام دينه كيف ما كان دينه، واحترام لغته كيفما كانت لغته، وعدم التقليل من شأنه ومن شأن الأشياء الغالية والثمينة عنده. وإلا أصبحنا أمة ضعيفة الأخلاق يسخر مثقفوها من تقاليد وعادات وألسن بعضهم البعض، وهذا ما لا يتمناه أحد. [email protected]