أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    الأزمي يتهم زميله في المعارضة لشكر بمحاولة دخول الحكومة "على ظهر العدالة والتنمية"        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل هناك أمازيغية واحدة ؟
نشر في السند يوم 28 - 04 - 2011

يمر المغرب في الآونة الأخيرة بمرحلة حسّاسة من تاريخه الحديث، ارتبطت بالتحولات العامة التي تعرفها المنطقة العربية وبلدانها عقب اندلاع الثورة التونسية وما أعقبها من ثورات شعبية في عدد كبير من بلدان المنطقة، وكان لسقوط النظام المصري دور كبير في إعطاء زخم كبير لهذه الثورات،
والتي وصلت امتداداتها إلى جميع تلك البلدان مع اختلاف مستويات وأشكال التحركات الشعبية والاتجاه الذي سارت فيه الأحداث وتطوراتها المختلفة. وبما أن المغرب جزء من هذه المنطقة ولا يختلف النظام السياسي والاقتصادي فيه عن غيره من البلدان الأخرى التي اندلعت فيها الثورة، حيث الزواج المقدس بين المال والسياسة، والذي يشكل العمود الفقري للنظام السياسي ونخبه المرتشية والانتهازية، باختلاف انتماءاتها السياسية والأيديولوجية، في ظل نظام اقتصادي يعتد على الريع الذي تتحكم السلطة السياسية في توزيعه على شكل هبات ورشاوى لشراء ذمم النخب التي تتنازع للحصول على أكبر قطعة من كعكة النظام.
وإذا كان المغرب يختلف في شيء عن بقية تلك البلدان سواء في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط، فإنه يختلف في ضعف حدّة الاحتقان السياسي فيه، وهو ما يمكن أن يضمن انتقالا ديمقراطيا سلميا وسلسا دون الحاجة إلى إراقة دماء. وإذا كانت الحركة الاحتجاجية في المغرب والتي اندلعت في 20 فبراير قد دفعت النظام السياسي إلى تقديم عدد من التنازلات السياسية خاصة في موضوع الدستور الذي ظل لزمن طويل منطقة محرمة وشأنا خاصا بالمؤسسة الملكية لوحدها. هكذا أدى الخطاب الملكي الأخير الذي تضمن وعودا بإجراء إصلاحات دستورية في المغرب وإعلان بدء المشاورات السياسية بهذا الشأن، إلى فتح نقاش واسع في المجتمع المغربي حول الدستور وتعديله وعن الكيفية المثلى لانجاز دستور ديمقراطي، يضمن تأسيس دولة مدنية بنظام ملكي برلماني تكون السلطة فيه للشعب مع فصل كامل للسُّلَط، وبناء دولة القانون والمؤسسات.
وفي غمرة هذا النقاش ذي البعد السياسي عاد موضوع الأمازيغية إلى واجهة الأحداث مجددا، مع تضمن الخطاب الملكي الأخير لوعود بدسترة الأمازيغية والاعتراف بها رسميا، ومع تزايد الجدل حول دلالات هذه الخطوة التي تتجاوز البعد السياسي إلى المجال الثقافي والاجتماعي للمغاربة. ويبقى السؤال الأهم في هذا الموضوع هو عن معاني ودلالات هذه " الأمازيغية " التي يراد دسترتها في الدستور الجديد للمغرب ؟ وهذا السؤال يفتح الباب أمام أسئلة عديدة أخرى من قبيل : هل هناك أمازيغية واحدة وموحدة بلهجات متعددة ؟ أم أن الأمر يتعلق بلغات مختلفة ومتعددة ؟
التعددية في مسألة اللغة : اللهجات الأمازيغية أم اللغات الأمازيغية ؟
يعتقد كثير من الذين يتعاطون مع المسألة اللغوية في شمال إفريقيا أنهم يدركون جيدا ماذا تعني مصطلحات من قبيل " لغة " و " أسرة لغوية " و " لهجة " و " لكنة " ... وغيرها من المفردات التي تستخدم في كثير من الأحيان دون تحديد المعنى المقصود منها بالضبط. و في الواقع يبدو أن هذه المصطلحات ليست سهلة التعريف والتمييز عن بعضها أو عن غيرها من المصطلحات الأخرى المتعلقة بميدان اللسانيات، وذلك لوجود خلط كبير في استخدام هذه المفاهيم سواء عن غير قصد بسبب الجهل بالقواعد المعرفية لعلم اللسانيات، أو عن قصد لتحقيق أغراض أخرى مبنية بالأساس على اعتبارات سياسية وأيديولوجية أكثر منها معرفية.
ومن أجل التمييز بين اللغة واللهجة، يعتمد علماء اللسانيات – عادة - على مقياس أساسي ومهم يطلقون عليه اسم " معيار التفاهم المتبادل " ( إضافة إلى اعتمادهم على مقاييس أخرى ذات طبيعة لسانية محضة أقل أهمية ). وهذا المعيار ينبني على تحقيق اللغة للوظيفة الأساسية من وجودها وهي التواصل. ومضمون هذا المعيار هو أننا نستطيع القول بأنه إذا لم يتمكن متحدثان من تحقيق الدور الرئيسي للغة أي تحقيق التواصل ( بمعنى أنهما لا يستطيعان فهم بعضهما البعض )، فهذا يعني أنهما يتكلمان " لغتين " مختلفتين ومستقلتين حتى لو وجدت بين تلك اللغتين قواسم مشتركة معجمية ونحوية. أما إذا استطاعا التواصل رغم وجود اختلافات معينة في المعجم أو في طريقة النطق أو اللكنة أو حتى في بعض القواعد النحوية، فإن ذلك يعني أنهما يتكلمان " لهجتين " مختلفتين ولكنهما تنتميان إلى نفس اللغة المشتركة والتي غالبا ما تسمى باللغة المعيارية، أي لغة القراءة والكتابة والتعليم.
إذا فمسألة التفاهم المتبادل وإمكانية التواصل، شرط أساسي للحديث عن لغة موحدة و مشتركة. و بدون تحقّق هذا الشرط اللازم لا يمكن الكلام عن وحدة اللغة، لأن في ذلك تناقضا صارخا مع أهم ما في اللغة نفسها وهي وظيفة التواصل والتفاهم. أما اللهجات فهي بذلك – وبحكم تعريفها - مجرد تنويعات مختلفة من اللغة نفسها : تنويعات على مستوى المعجم والنحو وطريقة النطق، لكن دون المساس بجوهر اللغة في هذه المستويات المختلفة مما يحافظ على دورها الأساس في التفاهم (Dessalles, Jean-louis. Aux origines du langage : une histoire naturelle de la parole. Paris Edition Hermés 2000. ). ويمكن إعطاء المثال عن هذا الفرق في ظاهرة القلب والحذف في الحروف والتغييرات في الصياغة والعبارات وفي بعض الأحيان في القوالب النحوية نفسها والتي تعرفها بعض اللهجات التي تختلف باختلاف مناطق انتشارها، لكن دون أن تؤدي كل تلك التغييرات إلى المساس بجوهر اللغة أي معيار التفاهم المتبادل والتواصل المشترك بين الناطقين بها. ولعل أفضل مثال لذلك هو الصورة التي تقدمها اللهجات العربية المختلفة والمنتشرة على رقعة جغرافية شاسعة مما أدى إلى ظهور اختلافات عديدة من هذا النوع على تلك اللهجات، لكن هذه الاختلافات لا تؤدي إلى القطيعة التواصلية وغياب التفاهم المتبادل بين الناطقين بها ما دام المشترك أكبر بكثير من عوامل الاختلاف والتمايز. إذاً فحينما يمسُّ الاختلاف والتمايز الجوهر التواصلي للغة أي معيار التفاهم المتبادل، فإن ذلك يعني أن الأمر لا يتعلق بلهجات مختلفة وإنما بلغات متمايزة.
هذا على المستوى العام، أما فيما يخص الوضعية اللغوية في منطقة شمال إفريقيا فإن الخلاف كبير جدا حول استخدام هذه المصطلحات ما بين النخب القومية على اختلاف انتماءاتها عروبية أو أمازيغية، حيث ينظر دعاة القومية العربية لواقع لغوي يتميز بوجود لغة عربية موحدة مع وجود بعض اللهجات الأمازيغية محدودة الانتشار والتي لا ترقى إلى مستوى اللغة، في حين يذهب دعاة القومية الأمازيغية إلى وجود واقع لغوي يتميز بالصراع ما بين لغتين رئيسيتين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، وذلك في إطار تصوراتهم عن الصراع الوجودي الشامل ما بين الثقافتين الأمازيغية ( الأصيلة ) والعربية ( الدخيلة ) على أرض شمال إفريقيا...
وإذا كان موضوع اللغة العربية ( الفصحى ) كلغة معيارية موحدة لا يثير الكثير من النقاش حوله - رغم واقع الانتماء المبهم للعربية الدارجة في المغرب والجزائر وعلاقتها بالعربية المعيارية ( العربية الفصحى ) - فإن الذي يثير الكثير من النقاش والجدال هو ما يتعلق بالواقع اللغوي الأمازيغي بين حدود مفهوم اللغة ومفهوم اللهجة. فالنخب القومية ذات التوجه العروبي واضحون في موقفهم من هذا الواقع، حيث يعتبرون أنه لا يوجد هناك شيء اسمه لغة أمازيغية ( أو لغات أمازيغية ) وإنما يتعلق الأمر فقط بلهجات مختلفة " ما يزال يحتفظ بها البعض " من سكان شمال إفريقيا في مناطق نائية لم يصل إليها التعريب بعد، والتي ينظر إليها كعنصر مشوش للنقاء اللغوي والوحدة اللغوية داخل الوطن العربي يجب تهميشه وإقصائه - في انتظار انقراضه - متذرعين بكونه عنصرا متخلفا وغير مؤهل للتطور أو التقدم. ولطالما رفعوا شعارات التعريب والدفاع عن اللغة العربية في مواجهة هيمنة اللغة الفرنسية ( لغة الاستعمار ) وهم محقون في ذلك بلا شك، لكن أحدا منهم لم يدافع في يوم من الأيام عن بقية اللغات الأخرى المنتشرة في شمال إفريقيا وعن حقها هي الأخرى في الحصول على مكانتها اللائقة. فكما أن اللغة العربية مكون أساسي من مكونات الهوية اللغوية في منطقة شمال إفريقيا فإن بقية اللغات الأمازيغية الأخرى هي مكونات أساسية من تلك الهوية ولا يجب تهميشها أو إقصاؤها.
بل أكثر من ذلك دعا بعضهم وفي غمرة الانفعال العاطفي إلى إماتة تلك اللغات وتصفيتها نهائيا، كما ذهب إلى ذلك ذات مرة مفكر كبير من طراز محمد عابد الجابري حين قال بأن : " عملية التعريب الشاملة يجب أن تستهدف ليس فقط تصفية اللغة الفرنسية كلغة حضارة وثقافة وتخاطب وتعامل، بل أيضا - وهذا من الأهمية بمكان – العمل على إماتة اللهجات المحلية البربرية ( الأمازيغية ) منها والعربية ( الدارجة ). ولن يتأتى ذلك إلا بتركيز التعليم وتعميمه إلى أقصى حد في المناطق الجبلية والقروية، وتحريم استعمال أية لغة أو لهجة في المدرسة والإذاعة والتلفزة غير العربية الفصحى..." ( محمد عابد الجابري، مواقف : إضاءات وشهادات. الطبعة الأولى مارس 2003). هكذا يراد للغات الأمازيغية التي قاومت لقرون طويلة وبقيت موجودة رغم كل تقلبات الدهر، يراد لها أن تموت وتختفي. لماذا ؟ لأن بعض النخب ترى فيها عنصرا مشوشا لشعارات أيديولوجية عن الهوية الواحدة، الخاصة والموحدة.
هذا فيما يخص موقف نخب القومية العربية من واقع التعدد اللغوي في منطقة شمال إفريقيا، أما موقف نخب القومية الأمازيغية فلا يختلف كثيرا عن سابقه في الإستراتيجية التي يتبعها وفي النتائج والخلاصات التي يصل إليها رغم اختلافهما في الشعارات، حيث يجري الحديث كثيرا في أوساط الحركة الأمازيغية عن وجود " لغة أمازيغية موحدة " يتحدث بها الشعب الأمازيغي في منطقة شمال إفريقيا، على أساس أنها مسلمة غير قابلة للنقاش، وأنها أمر واقع لا جدال فيه، بل أن موضوع الدفاع عن " وحدة اللغة الأمازيغية " هو من أولويات هذه الحركة. ويلخص هذا الموقف في الشعار القائل بأن " الحركة الأمازيغية لازالت صامدة من أجل وحدة وطنية باعتبار الهوية واللغة الأمازيغية وحدة واحدة غير قابلة للتجزيء أو التقسيم أو الإدماج أو الاستيعاب أو الإبادة " ( أحمد أرحموش، الهويات، الحقوق الثقافية واللغوية، مسار رهان و تحديات. ندوة المنتدى الاجتماعي المغربي الثانية 2004). إذا ففي نظر أصحاب هذا الطرح فإن اللغة الأمازيغية وحدة واحدة لا يمكن تقسيمها أو تجزيئها.
لكن هذا الطرح المغالي في اللاواقعية، يصطدم بصخرة الواقع التعددي - ليس فقط لإنسان شمال إفريقيا بل وأكثر من ذلك للغات الأمازيغية نفسها - وهذا ليس فقط على مستوى منطقة شمال إفريقيا عامة، وإنما أيضا على مستوى كل بلد من بلدان هذه المنطقة على حدة، حيث تنقسم هذه اللغات إلى ما بين 11 إلى 42 فرعا لغويا مختلفا حسب الدراسات المختلفة، وتنتشر على امتدادٍ جغرافي شاسع. وعلى سبيل المثال تنتشر في المغرب لوحده ( حيث يوجد أكبر عدد من الناطقين بتلك اللغات : فأكثر من نصف الناطقين باللغات الأمازيغية في منطقة شمال إفريقيا كلها يحملون الجنسية المغربية ) حوالي 3 لغات مختلفة هي – حسب ترتيبها من حيث عدد الناطقين بها - السوسية ( تاشلحيت ) والزيانية ( تامازيغت ) والريفية ( تاريفيت ) ، وفي الجزائر أيضا تنتشر حوالي 5 لغات مختلفة هي – حسب ترتيب الناطقين بها - : القبائلية ( منطقة القبائل ) والشاوية ( منطقة الأوراس ) والمزابية ( منطقة المزاب ) والتواركية ( الطوارق في الجنوب ) و الزناتية ( في عدة مناطق متفرقة خاصة في الواحات )، وفي ليبيا توجد حوالي 4 لغات مختلفة هي : الزواغية وسكنة وأوجلة بالإضافة إلى التواركية في الجنوب... إلخ.
إن هذا الواقع اللغوي التعددي يتناقض بشكل فاضح مع هذا النوع من الأطروحات، لذلك كان لا بد لأصحابها من محاولة تجاوز هذه التناقضات الصارخة عن طريق الحديث - بصورة مكثفة - عن تعدد " اللهجات الأمازيغية " في إطار وحدة " اللغة الأمازيغية " ، بدل الحديث عن تعدد " اللغات الأمازيغية " نفسها. وفي هذا الإطار ينظّر الباحث المغربي محمد شفيق لهذا الخطاب بالقول : " إن الأمازيغية ليست لهجة بالمفهوم العربي وليست ديالِكت ( لهجة ) بالمفهوم الأوروبي، بما أنها لا تنحدر من أية لغة ولا تنتمي لها، إنما هي قائمة بذاتها لها قوانينها ولها أسسها اللغوية كجميع اللغات. وكما هو الحال بالنسبة لسائر اللغات الأخرى فللأمازيغية لهجات محلية كالقبائلية والريفية وتامازيغت الأطلس وتاشلحيت وتاماشقت، إلخ ... وتوجد بين هذه الانجازات المحلية فوارق واختلافات لا تمس جوهر النحو الأمازيغي وإنما تطفو على مستوى البنيات الظاهرية وخصوصا على مستوى النطق " ( محمد شفيق، استقراء الأمازيغية الفصحى من الأمازيغية المتداولة. أعمال الدورة الأولى للجامعة الصيفية بأكادير. 1980، ص 191). ويستمر هذا الطرح بالادعاء بأن : " الفوارق التي تميز اللهجات بعضها عن بعض فوارق فونولوجية بالدرجة الأولى، أحدثها طول عهد الأمازيغية بالوجود أولا وضعف عمل التدوين ثانيا. ومن هذه الزاوية يمكن القول من الممكن إرجاع النطق باللفظ إلى أصله الأول... وقد أشرت سابقا إلى أن وحدة اللغة الأمازيغية أمر واقع ملموس تحجبه أحيانا فوارق فونولوجية لا ينخدع لها إلا الجاهل لأبسط قواعد اللسانيات..." ( محمد شفيق، حول المعجم الأمازيغي. الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، أيام الثقافة الأمازيغية 1990. ص 58 ).
إذا - فحسب هذا الطرح – الفوارق والاختلافات في الأمازيغية هي فوارق شكلية وتقتصر على طريقة النطق فقط دون أن تمس جوهر النحو الأمازيغي. لكن الواقع يقول غير ذلك لأن الاختلافات بين اللغات الأمازيغية لا تقتصر على طريقة التلفّظ فقط بل تتعداها إلى جميع المستويات الأخرى المعجمية وحتى النحوية. وتجدر الإشارة هنا إلى الفوارق الكبيرة الموجودة بين لغة واحة سيوه في مصر - والتي تصنف بأنها لغة أمازيغية – مع بقية لغات شمال غرب إفريقيا، بسبب التأثر الكبير لتلك اللغة بروافد مصرية قديمة سواء على المستوى المعجمي أو النحوي أو الصرفي. وحتى داخل المجموعة اللغوية الواحدة توجد فوارق بنيوية عديدة كما هو الحال بين اللغات التواركَية المنتشرة في منطقة الصحراء الكبرى والمتأثرة بشكل كبير باللغات النيجرية والمالية ( بسبب القرابة الجغرافية والوراثية الكبيرة للتواركَ بهؤلاء ) أكثر من تأثرها ببقية اللغات الأمازيغية في شمال غرب إفريقيا والتي تعرف هي الأخرى تأثرا مشابها بالبنيات اللغوية العربية وبالمعجم العربي بدرجة كبيرة. وعلى سبيل المثال يبلغ هذا المشترك المعجمي إلى حوالي 38 % بين القبايلية ( شمال الجزائر ) والعربية، وحوالي 35 % بين الشاوية ( شمال شرق الجزائر ) والعربية، وهي نسبة عالية جدا تجعل هذه اللغات أقرب إلى العربية منها إلى بعض اللغات الأمازيغية الأخرى خاصة تلك البعيدة جغرافيا. وتبلغ نسبة المعجم العربي في لغة تاشلحيت ( جنوب المغرب ) حوالي 25 % ، وهي نسبة مهمة لا يستهان بها، رغم البعد الجغرافي الكبير بين منطقة انتشارها بسوس والأطلس الكبير والمنطقة التي جاء منها هذا التأثير العربي (Gabriel Camps. L'origine des berbères. Anthropologies du Mahgreb, sous la direction de Ernest Gellner. Les Cahiers C.R.E.S.M, Editions CNRS, Paris, 1981. ).
وحتى تلك اللغة الليبية القديمة التي عثر على نقوش لها منذ أزيد من قرن ونصف ( منذ سنة 1842 م )، لم يستطع أحد فك رموزها تماما وما تزال مستعصية على الفهم إلى الآن رغم العثور على نصوص مرافقة لها بالبونية ( الفينيقية القرطاجية ) واللاتينية. ولو كان ما قاله الأستاذ شفيق صحيحا من أن الفوارق بين اللغات الأمازيغية هي شكلية فقط لتم فك رموز تلك اللغة القديمة بسهولة تامة، ما دام - هو نفسه - ينقل عن الباحث الفرنسي أندريه باسيت قوله بأن : " بنية اللغة الأمازيغية وعناصرها وأشكالها الصرفية تتسم بالوحدة إلى درجة أنك إن كنت تعرف حق المعرفة لهجة واحدة منها استطعت في ظرف أسابيع أن تتعلم أي لهجة أخرى. تدلك على ذلك التجربة، إذ اللغة هي اللغة نفسها... وتتجلى وحدة اللغة الأمازيغية في الزمن أيضا، لأن بطء التطور الحضاري ساعد على استقرار المعطيات اللغوية " ( محمد شفيق، لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين. دار الكلام الرباط، 1989. ص 59 ). فلو كان ذلك صحيحا لما استعصت تلك اللغة عن الفهم رغم مرور حوالي قرن ونصف على اكتشافها، ما دامت اللغة هي اللغة نفسها وما دام بطء التطور الحضاري أدى إلى استقرار المعطيات اللغوية... فلماذا إذاً هذا العجز عن الفهم وفك رموز تلك اللغة ؟ رغم الادعاءات الكثيرة بأن هذه اللغة ربما كانت هي أصل اللغات الأمازيغية الحالية.
وحتى لو قبلنا مع الأستاذ شفيق بأن الفوارق في اللغات الأمازيغية هي فونولوجية بالأساس وأنها كلها تشترك في البنيات النحوية ذاتها، حتى لو قبلنا بكل ذلك – رغم اعتراضنا الشديد عليه - فمن قال بأن " النحو " هو جوهر اللغة وأساسها ؟ فكما بيّنّا - في ما سبق – أن جوهر اللغة هو مقياس " التفاهم المتبادل " أي قدرة اللغة على لعب وظيفتها الأساسية والأولى كأداة للتواصل المشترك بين جميع الناطقين بها وليس أي شيء آخر، فكيف يمكن إذاً أن نقول بوحدة لغة لا يستطيع الناطقون بها أن يتفاهموا فيما بينهم إلا إذا استخدموا لغات أخرى ؟!
وعلى سبيل المثال فمعظم المغاربة الناطقين بلغة " تاشلحيت " أو" تاريفيت " أو " تامازيغت " لا يستطيعون التواصل فيما بينهم باستخدام هذه اللغات المختلفة، وفي غالب الأحيان ما يلجأ هؤلاء إلى العربية الدارجة كلغة مشتركة للتواصل والتفاهم. ومن الأمثلة الشخصية على ذلك أنني ( كاتب هذه السطور ) و بالرغم من كوني أتكلم لغة " تاشلحيت " بطلاقة على اعتبار أنها لغتي الأم ولغة أمي، كنت - وما أزال - عاجزا عن فهم اللغتين الريفية ( تاريفيت ) والزيانية ( تامازيغت ) رغم القرب الجغرافي الكبير معها، وحتى محاولاتي العديدة لفهم القبائلية - بسبب إعجابي الكبير بمغنيها الكبار ( إيدير، الحسناوي، سليمان إزم ...) وبموسيقاها ذات الطابع المتوسطي الغني والمتنوع - باءت كلها بالفشل، وذلك رغم قدرتي المتواضعة على استيعاب معاني بعض الكلمات المشتركة والتي - وللمفارقة – جزء مهم منها هي كلمات ذات جذور عربية. وما أزال أتذكر إلى الآن ذلك اليوم الذي تعرفت فيه إلى أحد الزملاء في الجامعة والذي بدا لي من لكنته وهو يرد التحية أنه أمازيغي فحدثته بتاشلحيت لكنه صمت قليلا قبل أن يرد علي بلغة غير مفهومة لم أستوعب منها شيئا، اتضح لي من نبرتها أنها ريفية ( علمت فيما بعد أنه من منطقة الريف شمال المغرب )، فما كان منا إلا أن صرنا نتحدث بالعربية ( الدارجة ) بعد أن اتضح لكلانا بأن لغتينا الأمازيغيتين " المختلفتين " غير قادرتين على القيام بدورهما الأساسي في إنجاز عملية التواصل. لقد جعلتني تلك الحادثة أفتح عيني على حقيقة اختلاف اللغات الأمازيغية المتقاربة جغرافيا داخل نفس البلد وضمن نفس المجموعة البشرية، ناهيك عن اللغات الأخرى المتباعدة جغرافيا كتلك المنتشرة في الصحراء الكبرى أو في أقاصي مصر وليبيا وباقي مناطق شمال إفريقيا الشاسعة. كما أنني ما زلت أتذكر رد فعل والدتي السلبي جدا على قرار إلغاء نشرات الأخبار التي كانت تعرض باللغات الأمازيغية الثلاثة في التلفزيون المغربي والمعروفة بنشرة اللهجات، وتعويضها بالنشرة الأمازيغية " الموحدة " والتي انتهى بها الأمر بأن تحولت إلى خليط عجيب وغريب من اللغات المختلفة ( أو " سَلطَة " اللغات كما يحلو للبعض تسميتها ) والتي يتوه المرء وهو يتابعها فلا يكاد يخرج منها بمعلومة واحدة مستقيمة.
وفي الواقع، فقد أدت الأبحاث العديدة في علم اللسانيات التي أجريت في منطقة شمال إفريقيا إلى تزايد الاقتناع بعدم وجود شيء اسمه لغة أمازيغية موحدة، وأن الفرع اللغوي الأمازيغي من الأسرة اللغوية الآفروآسيوية ينقسم بدوره إلى عدة لغات مختلفة تنتشر على امتداد منطقة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى. وقد ذهب " براس " Prasse K.G في السابق إلى أن التواركَية يمكن اعتبارها لغة مستقلة وليست مجرد لهجة أمازيغية، وبنا هذا الطرح على أساس معيار التفاهم المتبادل بين التواركَية وبقية لغات شمال غرب إفريقيا، حيث اكتشف أن غياب هذا المعيار يجعل من مسألة التفرقة اللغوية بينها أمرا لا مناص منه. كما لاحظ أيضا أن التواركَية تنقسم بدورها إلى عدة وحدات لغوية فرعية هي " تاماهيغت " المنتشرة في جنوب الجزائر وجنوب ليبيا، و " تاماجيغت " في النيجر، و " تاماشيغت " في مالي (Prasse K.G. Manuel de grammaire touarègue (Tahaggart) : Phonétique, Ecriture, Pronoms. Copenhague Akademisk Forlag, 1972 ). في حين اقترح " ويلمز " منذ سنة 1980 تقسيما يطغى عليه الطابع الجغرافي، حيث اعتبر الأمازيغية مقسمة إلى أربع وحدات كبرى : تتكون الأولى من الشلوح ( أو أمازيغ الجنوب المغربي ) وزيان ( الأطلس المتوسط ) وزمور. وتتكون الثانية من بني يزناسن وصنهاجة وبني سنوس والريف. أما الثالثة فتتألف من مزاب وورغلة ونفوسة والشاوية وسيوه والتوراكَ. في حين تتألف المجموعة الرابعة من القبايل لوحدها (Willms. Die dialektale Differenzierung des Berberischen, Berlin, Verlag von Dietrich Reimer. 1980. ). ويلاحظ على هذا التقسيم أنه لا يشمل جميع اللغات الأمازيغية حيث يقصي لغة زناغة ( صنهاجة ) في موريطانيا وتلك المنتشرة في الجنوب التونسي في جربة فلا يذكرهما أصلا، كما أنه أثار جدلا كبيرا في أوساط علماء اللسانيات، حيث رفض كثيرون اعتبار القبايلية مجموعة مستقلة لوحدها واعتبروها جزءً من الزناتية المنتشرة بين ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، في حين رأى فيها البعض الآخر إحدى تنويعات الزناغية ( الصنهاجية ) المتأثرة بالزناتية. في حين جرى رفض دمج التواركَية مع باقي لغات المجموعة الثالثة على اعتبار وجود تنوع كبير في صفوف التواركَ، إضافة إلى أنهم لا ينحصرون فقط في منطقة الهكَار في الجزائر بل ينتشرون في منطقة شاسعة من الصحراء الكبرى (Louali N. (1992). Le système vocalique touareg. Pholia 7 (CRLS-Université Lumière Lyon 2) : p 83-115. ). ويناقش الباحث عمور تقسيما آخر مختلفا مبنيا على أسس إثنية وراثية مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الخصائص الأخرى ذات الطابع السوسيو- ليساني والفونولوجي والمرفولوجي والنحوي لتلك اللغات المدروسة (Ameur, M. À propos de la classification des dialectes berbères, Etudes et Documents Berbères, 7, 1990. P. 15- 27 ). وأخيرا يقترح " أيخنفالد " Aikhenvald A.Y تقسيم اللغات الأمازيغية إلى أربع وحدات كبرى على أساس مورفولوجي ( الضمير و الصفة والنوع ) ونحوي ( ترتيب مكونات الجملة والمميزات البنيوية للفاعل والمفعول به ) وقد جاء هذا التقسيم كالآتي : تتكون المجموعة الأولى من أمازيغية الغرب ( الزناغية في موريطانيا )، والثانية من أمازيغية الجنوب ( التواركَية في الصحراء )، والثالثة من أمازيغية الشرق ( ليبيا ومصر )، والرابعة من أمازيغية الشمال في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ( زواغة ) (Aikhenvald A.Y.A Structural and Typological Classification of Berber Languages, Progress Tradition in African and Oriental Studies Special Issue, n° 21, 1988. P. 37-43. ).
وانطلاقا من كل ذلك يمكن أن نقول بأن مشكل تقسيم اللغات الأمازيغية وتصنيفيها لا يزال بعيدا عن الحل ما دامت كل تلك المحاولات غير مكتملة، حيث يجري غالبا اعتماد معطى واحد وإقصاء معطيات أخرى عديدة، مما يؤدي إلى نتائج متباينة وحتى متناقضة في بعض الأحيان.
وأياّ كانت الأمور سواء اتفقنا مع تلك التصنيفات أو لم نتفق، فإن هناك شبه إجماع بين علماء اللسانيات والدارسين للغات الأمازيغية على عدم وجود شيء اسمه " لغة أمازيغية موحدة " إلا في أذهان البعض، فقد اتفق الجميع على أن الفرع اللغوي الأمازيغي ينقسم إلى عدة لغات مستقلة ومختلفة، ورغم أنهم اختلفوا بدورهم في عدد هذه اللغات وفي المجموعات الفرعية التي تنتمي إليها كل لغة على حدة، لكنهم لم يختلفوا أبدا في عدم وجود لغة أمازيغية موحدة لأن القول بذلك يتعارض مع أبسط الحقائق الواقعية الواضحة للعيان.
ولأن نخب القومية الأمازيغية تعي جيدا عمق هذه الاختلافات بين اللغات الأمازيغية المتعددة والتي تصل إلى درجة القطيعة التواصلية بينها، فإنها – شأنها شأن بقية النخب القومية الأخرى – تلجأ إلى الاحتيال للقفز على واقع التعدد اللغوي ومحاولة تجاوزه، كما قامت بذلك من قبلها نخب القومية العربية في شمال إفريقيا، حيث ادعوا جميعا بأن اللغات الأمازيغية القائمة ليست سوى " لهجات " لا ترقى لمستوى اللغة، لتبرير واقع تهميش وإقصاء هذه اللغات وتعويضها بلغة أخرى " أسمى " . وإذا كان موقف نخب القومية العربية في شمال إفريقيا تجاه اللغات الأمازيغية مفهوما على اعتبار أن الاعتراف بها كلغات قائمة بذاتها يشكل تهديدا للشعارات القومية عن " عروبة شمال إفريقيا " وعن " وحدة اللغة العربية والوطن العربي من المحيط إلى الخليج "... فإن من غير المفهوم تماما أن تقوم نخب الحركة الأمازيغية ( التي تحولت هي الأخرى إلى نخب قومية ) بمحاولة استهداف تعدد تلك اللغات وهي التي كانت ولزمن طويل ترفع شعارات التعددية اللغوية والدفاع عن اللغات الأمازيغية من خطر الانقراض حينما يتعلق الأمر بالعلاقة مع اللغة العربية، لكنها ترفض تلك التعددية حينما يتعلق الأمر بالواقع اللغوي الأمازيغي ذاته، وتدافع بغرابة عن لغة أمازيغية موحدة لا توجد إلا في أذهان بعض النخب!!! فما الذي تغير الآن حتى صارت هذه النخب تعيش التناقض الصارخ وتطالب بإعدام هذه اللغات تحت مسمّيات وحدة اللغة الأمازيغية ؟ وهي التي لطالما رفعت ذلك الشعار الشهير عن " الوحدة في التعدد ". الجواب بسيط للغاية : إنها النزعة القومية ذاتها والتي ترى في أي تعدد أو تنوع خطرا عليها وعلى مقولاتها عن وحدة اللغة والعرق والثقافة والتاريخ.
ومن بين المشاريع العديدة لاستهداف واقع التعدد اللغوي الأمازيغي، ما يعرف باللغة الأمازيغية " المعيارية " ( أو الأمازيغية الفصحى !! ) التي تعرف بأنها اللغة الأمازيغية " الموحدة " ، والتي يراد منها تجاوز هذا التعدد مادام أن : " الأمازيغية كيان لساني موحد ومشترك يتجاوز اللهجات المحلية..." ( أحمد بوكوس، في اللغة الأمازيغية. الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، أيام الثقافة الأمازيغية 1990)، على حد تعبير أحمد بوكوس ( رئيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في المغرب ) والذي يرى أن تقسيم الأمازيغية إلى عدة لغات مختلفة - كما هو واقع الحال منذ ألاف السنين وحتى اليوم – يحول دون تعييرها وبالتالي يؤدي إلى إضعافها. و من تم يجري الدفاع عن لغة معيارية موحدة تحت غطاء ضرورة التنميط والتقعيد اللغوي للأمازيغية حتى يسهل تدريسها ودمجها في الحياة العامة وفي جميع أنشطة المجتمع.
لكن هذا الرأي وإن كان يتضمن جانبا من الحقيقة فيما يتعلق بنقل اللغات الأمازيغية من مستوى الكلام ( الثقافة الشفوية ) إلى مستوى اللغات المقعّدة التي تعبر عن حاجات المجتمع والتي تواكب تطوراته ( اللغة المدونة ) خاصة وأن معظم هذه اللغات ما تزال في مستوى التعبير عن الأشياء ولم تخضع بعد لعملية انتقال إلى مستوى التعبير عن المفاهيم المجردة وذلك بسبب استمرار ارتباطها بالواقع الاجتماعي في مستوياته الدنيا واستمرار إقصائها عن المجالات الحيوية التي ستضمن تطورها ورقيها كالتعليم والاقتصاد والقضاء والإعلام ( والتي تسيطر عليها للأسف الشديد اللغة الفرنسية تزاحمها في ذلك وباستحياء شديد اللغة العربية، وهو واقع موروث عن الفترة الاستعمارية خاصة في المغرب والجزائر وتونس...)، إلا أن هذا الرأي يحمل مضامين خطيرة أخرى على اللغات الأمازيغية نفسها. فبدل محاولة تطوير هذه اللغات المتعددة وتعييرها انطلاقا من المعطيات الموجودة على الأرض والتي يتداولها الناس في حياتهم اليومية، يراد تصفية تعددية تلك اللغات التي ظلت حية لزمن طويل ومقاومة لكل الظروف المعادية، وتذويبها في لغة واحدة معيارية توصف بأنها اللغة الأمازيغية الفصيحة في مقابل اللهجات الأمازيغية العامية. هذه اللغة الافتراضية التي لا وجود لها في الواقع ولا يفقهها أحد، لغة اخترعتها قلة قليلة من نخبة ذات نزوع قومي لا لشيء سوى لتعبر عن أوهام نفسية مرتبطة بإرادة الاستعلاء النخبوي واحتقار لغة العامة التي ليست سوى " لهجة " لا ترقى إلى مستوى اللغة، رغم أن تلك النخب نفسها تستخدم تلك " اللهجات " في التواصل مع بعضها البعض. ومن المفارقات العجيبة ما قاله أحمد عصيد ذات مرة وهو ينتقد العلماء الأمازيغ في سوس - وعلى رأسهم المختار السوسي - الذين كانوا يحرصون على تعلم العربية والكتابة بها، ووصفهم بأنهم كانوا يحتقرون لغتهم الأم وأنهم إنما فعلوا ذلك بحثا عن " امتياز ورفعة مقام تمنحها إياه المعرفة بلغة سرية لا يعرفها العوام " ( أحمد عصيد، الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي. منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، الطبعة الأولى 1998 )، فصار هو نفسه ومعه بقية النخب الأمازيغية الجديدة القابعين في أروقة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يدافعون عن لغة سرية ( يسمونها الأمازيغية المعيارية والموحدة ) لا يفهمها العوام من أبناء شعبهم والذين يتداولون مجموعة من اللغات المتعددة والمختلفة التي تعلموها عن آبائهم وأجدادهم على امتداد آلاف السنين، في موقف من التناقض المؤسف والذي يفضح المستور في أذهان هؤلاء الذين يبحثون كغيرهم عن امتيازات نخبوية ورفعة مقام.
ولو قبلنا بمنطق اللغة الموحدة فسيكون على الناطقين باللغات الأمازيغية أن يتعلموا " لغة جديدة " لا يفهمونها لأن لغتهم الأم لا قيمة لها في نظر النخب القومية من أبناء جلدتهم الذين طالما رفعوا شعارات الدفاع عن التعدد اللغوي من خطر الإبادة العروبي، فصاروا هم أنفسهم يشكلون خطرا كبيرا على ذلك التعدد وعلى إمكانية استمراره مستقبلا.
وليس موضوع التعددية هذا في اللغات الأمازيغية وليد اليوم بل تعود جذوره إلى قرون طويلة مضت كما تشهد بذلك كتب التاريخ القديم، فقد لاحظ المؤرخون منذ القديم وجود تعددية لغوية لدى سكان شمال إفريقيا سواء منهم الناطقين باللغات الأمازيغية أو العربية، وفي هذا السياق يتحدث ابن خلدون ( القرن 13 ميلادي ) في تاريخه ( ج 7 ص 3 ) عن " لغة زناتة " المميزة عن غيرها من اللغات الأخرى في المنطقة، والذي يعد أقدم إثبات تاريخي على واقع التعدد ضمن الأسرة اللغوية الأمازيغية، حيث يقول : " وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر...". وبعد ذلك بعدة قرون لاحظ المؤرخ والرحالة الأوروبي مارمول كربخال ( القرن 16 ميلادي ) في كتابه عن إفريقيا ( ج 1 ص 115 ) ملاحظات مهمة عن واقع التعددية اللغوية في منطقة شمال إفريقيا حيث يقول : " ... واللغة التي يتكلمون ( سكان شمال إفريقيا ) بها حاليا مكونة من العربية والعبرية واللاتينية واليونانية والإفريقية القديمة ( الفرع اللغوي الأمازيغي ) التي كانوا يستعملونها لدى مجيئهم إلى البلاد ( شمال إفريقيا )، لأنه لا أحد يخالف في وجود لغة طبيعية خاصة بإفريقيا مختلفة عن لغة العرب. وتحمل اللغة التي يتكلمون بها الآن ثلاثة أسماء وهي الشلحة ( تاشلحيت ) وتامازيغت والزناتية، تكاد تدل على نفس الشيء، مع أن البرابرة الأقحاح يختلفون في النطق وفي مدلول كثير من الكلمات. فأقربهم جوارا للعرب وأكثرهم اتصالا بهم يمزجون كلامهم بالعديد من الكلمات العربية... ويمزج الأعراب كلامهم كذلك بعدد كبير من الكلمات الإفريقية ( الأمازيغية ). ويتكلم أهل غمارة وهوارة الذين يعيشون في جبال الريف لغة عربية فاسدة ( العربية الدارجة )، وكذلك جميع سكان مدن البربر المقيمين بين الأطلس الكبير والبحر. لكن سكان مراكش وجميع أقاليم هذه المملكة يتكلمون اللغة الإفريقية الصافية المسماة الشلحة ( تاشلحيت ) وتامازيغت وهي اسمان قديمان جدا. أما سائر الأفارقة البرابرة القاطنين في الجهة الشرقية المتاخمة لمملكة تونس وطرابلس الغرب إلى صحاري برقة فإنهم يتكلمون جميعهم لغة عربية فاسدة، وكذلك الذين يعيشون بين جبال الأطلس الكبير والبحر سواء كانت لهم منازل قارة أم لا، بالإضافة إلى زواوة ( منطقة القبائل شمال الجزائر ) ولو أن لغتهم الرئيسية هي الزناتية بحيث إن الذين يتكلمون اللغة العربية الفصحى بإفريقيا ( شمال إفريقيا ) قليلون، لكنهم جميعا ( سكان شمال إفريقيا باختلاف لغاتهم ) يستعملون في كتابتهم الأصلية العربية ( حروف الأجدية العربية ) التي تقرأ وتكتب عادة في كل بلاد البربر ونوميديا وليبيا...".
إذا فعلى امتداد التاريخ – منذ القديم إلى اليوم - عرفت منطقة شمال إفريقيا تعددية لغوية زاد من غناها اندماج المكون اللغوي العربي في هذه التركيبة اللغوية التعددية، ولم يحصل في تاريخ المنطقة أن تحدث أحدهم عن وجود " لغة معيارية موحدة غير قابلة للتقسيم أو التجزيء في كل شمال إفريقيا..." كما تبشرنا بذلك النخب القومية على اختلاف انتماءاتها.
ومن بين الأشياء العديدة التي ينتهجها منظرو الأمازيغية الموحدة محاولة تصفية الكلمات العربية من المعجم الأمازيغي المتداول باعتبارها كلمات " دخيلة " وغير أصلية، فيما يسمونه بمنهج " طرد الكلمات العربية " والتي يعبرون عنها بعبارة فرنسية أقل ما يمكن أن توصف به أنها كريهة وعنصرية وهي : la chasse aux mots arabes ( معناها طرد الكلمات العربية أو اقتناصها )، وهو ما يعني محاولة التخلي عن جزء مهم من المعجم اللغوي الأمازيغي الذي يبلغ نسبا مهمة تصل في حدها الأقصى إلى حوالي 38 % ( أزيد من الثلث ) في القبائلية في الجزائر وفي حدها الأدنى إلى حوالي 25 % ( حوالي الربع ) في لغة تاشلحيت بالمغرب، ومحاولة تعويضها بكلمات أخرى توصف بأنها " أصلية " رغم أنها اخترعت حديثا في مختبرات الأكاديمية البربرية في باريس أو المعهد الملكي في الرباط أو في أروقة بعض الجمعيات والمنتديات الأخرى، والتي لا علاقة لها باللغات الأمازيغية المتداولة لدى الناس في حياتهم اليومية، حيث يعد المعجم العربي مجالها الحيوي للاقتراض منه كلما لزم ذلك. إن هذا النوع من الانحرافات الأيديولوجية يعبر فقط أعراض مرضية لدى النخب القومية الجديدة التي تبحث عن " النقاء اللغوي " عن طريق تصفية جزء مهم من الموروث اللغوي الأمازيغي الذي نتج عن عملية تفاعل لغوي مع العربية امتدت لأزيد من عشرة قرون مضت.
لقد صارت معركة " توحيد الأمازيغية وتعييرها " التي تخوضها النخب ذات النزوع القومي داخل الحركة الأمازيغية معركة حياة أو موت بالنسبة لواقع التعددية في الهوية اللغوية لسكان شمال إفريقيا وأيضا للغات الأمازيغية المتعددة التي يراد لها أن تبقى مقصية دائما عن حقها في الوجود وأن يستمر تهميشها وإبعادها عن واقع الحياة الاجتماعية، تحت شعارات كونها مجرد لهجات وأنها ناقصة ولا ترقى إلى مستوى اللغة...إلخ. لذلك صار من الضروري الدفاع عنها وعن حقها في الوجود والتطور الطبيعي ورفع التهميش والإقصاء عنها والذي تمارسه النخب القومية جميعها باختلاف ولاءاتها وانتماءاتها الأيديولوجية سواء العروبية منها أو الأمازيغية.
ولعل من المفيد أن نختم هذا الموضوع بموقف واحد من أهم الباحثين الجادين في المسألة الأمازيغية هو الباحث الجزائري سالم شاكر والذي يقول بأن : " فكرة اللغة الموحدة في مجموع التراب الشاسع التي تنتشر فيه، وعند جميع متكلميها هي مجرد سراب، وأن من الخطورة بمكان التفكير في إنشاء أمازيغية كلاسيكية والتي ستكون بلا شك بعيدة كل البعد عن الاستعمال اليومي " ( سالم شاكر، الأمازيغ اليوم. لارمتان باريس 1989 ص 131).
باحث بجامعة فيليبس ماربورغ ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.