كثيرة هي الأمور المثيرة في مجتمعنا التي تجعل الإنسان يقف عندها وقفة الحائر المندهش، و يبقى جامدا أمامها، مصدوما عاجزا عن فهمها، أو تفسيرها.. عاجزا عن إدراك كنهها. مواقف غريبة قد نراها رأي العين في لحظة من لحظات يومنا الطويل، و قد نكون نحن أبطالها أو شهود عليها.. أحداث أصبحت عادية جدا ككثرة الكلام الفارغ، أو حفر الشوارع، أو غدر الأخ بأخيه.. عادية جدا رغم ما فيها من غرابة و قلة عقل. و ما لها من عواقب وخيمة تغيب عن بالنا و قد تحضرنا فلا نبالي بها... في أي مكان و في أي لحظة قد يصادفك شخص ما يركل قنينة معدنية أو بلاستيكية، أو يرمي بعلبة حلوى فارغة.. يرمي بها في قارع الطريق دون مبالاة منه أو اهتمام من طرفنا، و الغريب في كل هذا و الذي يطرح الكثير من التساؤلات، أن سلة النفايات لا تكاد تبعد عنه إلا بأمتار معدودة.. و كأنه يتحدى نفسه و يتحدى من حوله.. يتحدى القوانين الأخلاقية، و يتحدى كونه إنسان. أو أنه يخاف وحشا مرعبا فتاكا يسكن صندوق القمامة فيهرب منه هروب الكلب من ذيله كي لا يفتك به فتك الأسد الضاري بقطيع الغزلان.. ينتابك إحساس بالإشمئزاز و التقزز و رغبة جامحة في الغثيان و أنت ترى كومة من الأزبال في ركن أو قرب جدار أحد البيوت، أو تدخل حديقة فتجد أكياس البلاستيك، و قنينات الليمونادا، و علب المعلبات و ما تعرف و ما لا تعرف من أنواع النفايات في كل زاوية من زوايا الحديقة و في كل مكان، فيتهيأ لك أنه عوض الأشجار و الورود وألوان الأزهار أنبتت الأرض نفايات... حدائق لم تعد كالحدائق.. شوارع تحولت إلى مزابل.. و قمامة أينما أدرت رأسك.. و كأننا نحن بني البشر نحب أن نبقى قريبين من نفاياتنا و أزبالنا و نعشق رؤيتها في كل لحظة و كأنها أحفادنا أو فلذات أكبادنا... وإن أنس لا أنسى حدثين عاينتها و طبعا بلا إرادة مني في الذاكرة إلى الأبد، الأول و أنا أتجول في أحد شوارع سلا، فقد وجدت لافتة أنيقة منتصبة أمام الملأ وكأنها عروس في ليلة فرحها، كتب عليها بحروف منمقة " النظافة من الإيمان" لكن مباشرة تحتها تكومت أطنان من النفايات المنزلية، و كأني بمفهوم النظافة قد لبس ثوبا آخر غير الذي تشبعنا به في طفولتنا من خلال الأناشيد و الحكايات و قصص الأطفال التي قضينا جل طفولتنا نقرأها.. وكأني بالأمور انقلبت رأسا على عقب و فقدت معانيها و دلالاتها و أضحى الشيء كضده.. لا فرق... و الحدث الثاني و هو أغرب و أدعى للعجب، جعلني أقف أمامه وقفة احترام و تعظيم و إكبار، فقد رأيت بالصدفة قطا يتبرز. قلت لنفسي سأنظر ماذا هو فاعل؟ وكم ضحكت من نفسي عندما انتهى، و كم احتقرت كثيرا من بني جلدتي، بني البشر. حتى هذا القط يعرف أن عليه ألا يترك نفاياته ظاهرة للعيان، و لو كان ذلك بفعل الغريزة، المهم أنه خجل أن يطلع الآخرون على فضالاته.. و تساءلت ساعتها: ماذا سيحدث لو أن كل واحد منا اعتنى بقمامته مثلما يعتني بهندامه..؟ هل سيقلل هذا من كوننا بشرا.؟ بالطبع لا، بل إنه سيؤكد و بالملموس أن هذا العقل الذي وهبنا إياه الله لم يكن عبثا وأن هذا الحيوان الذي يرفض أن يبقى برازه فوق الأرض ليس أفضل منا في شيء.. بل أدنى وأقل..هو فعلها بدافع الغريزة ونحن بدافع العقل.. أكيد أن هذا الأمر له من المحاسن الشيء الكثير: بيئة نظيفة بدون نفايات أو روائح كريهة أو حشرات متطفلة، صحة جيدة وأمراض لا وجود لها.. كثيرة هي الأمراض التي يرتبط وجودها بوجود الأزبال... لكن من يفهم هذا، وحتى إذا فهم أحدهم هل سيطبق ذلك ويكون النموذج بين أصدقائه و القدوة التي يحتدا بها..؟ بلا شك سننتظر كثيرا حدوث هذا. الحقيقة التي لا يتجادل عليها اثنان وهي أن لامبالاتنا و سلوكياتنا النشاز تقتلنا ببطء.. فأن ترمي القمامة في الشارع أو في غير الأماكن المخصصة لها عموما فكأنما تدق مسمارا في نعشك.. تصور الآن كم بقي لك حتى يكتمل نعشك.. وجودنا فوق هذه الأرض رهن بسلوكياتنا.. فإذا كان الجمال وسحر الطبيعة ينعش الحياة و يطيل العمر كما زعموا فإن التلوث بكل معانيه ودلالاته، وكل أشكاله وألوانه يسرق منا كل دافع من أجل العيش بالشكل الذي يليق بنا كبشر... إذا ماتت الأحاسيس وانعدمت المشاعر فقل علينا السلام.. إذا ماتت الأشجار و ذبلت الورود و الأزهار فقل علينا السلام.. إذا تلوث الماء و تلوث الهواء فقل علينا السلام.. إذا تلوثت أنفسنا فقل علينا السلام.. أما إذا ماتت الأحاسيس و ماتت الأشجار و الورود و انتحرت الأزهار و تلوث الماء و الهواء وتلوثت أنفسنا فانظر ماذا سيحدث...؟ بلا شك سنكون قد حكمنا بأنفسنا على أنفسنا بالموت و عجلنا بوضع نقطة النهاية.