كنا لا نفترق... جماعة من الصبيان لا تنتهي ألعابهم ولا تنقضي أحاديثهم الصاخبة، كنت أحبها وهي الأخرى كانت تصر على أن نلعب لعبة الأسرة، فأكون الأب وتكون هي الأم... بينما يصبح الآخرون أولادنا.
نزداد انتشاءا بلحظاتنا المتفجرة بالغرابة حين نلعب بالوحل ونصنع منه خبزا لدارنا، حين نغمر رؤوسنا بالتراب الذي ملأ علينا أيامنا، حين نجري حفاة وأنصاف عراة، وعندما يأوي الناس وقت الظهيرة إلى بيوتهم يطمعون في استراق لحظة راحة من يومهم المرهون، نجلس معا تحت ظل يلقيه علينا رسم بيت قصير، أمد رجلي الصغيرتين أمامي ويدي لا تهدآن، وقد أقتفي بسبابتي المنتفخة القصيرة أثر نملة حتى مخبئها، ثم أهدمه وأبحث عن أشياء كانت تؤرق مخيلتي... هي الأخرى بجانبي لا تتوقف عن الكلام، كلام كلام، تقول أشياء كثيرة...
أيام طوال قضيناها ونحن نرسم على صفحة طفولتنا زهرات من البراءة والطلاقة، ولا أذكر كثيرا كيف زحفت السنين على تلك الطفولة المشرقة، كل ما أذكره أننا في يوم من الأيام أصبحنا طلبة في الجامعة، كل منا يدرس في شعبة منعزلا عن الآخر، وكذلك انقطع التواصل بيننا...
لقد أصبحت خديجة كثيرة الأصدقاء، ولا يمضي حديث بين طلبة دون ذكر خبرها، سمعت عنها كلاما كثيرا مخجلا وغريبا...
كيف استطاعت هذه الفتاة أن تفعل كل هذه الأشياء؟ سؤال ظل يشغلني، يمزق أعماقي... أختي زهرة تسألني دائما: لماذا تهتم بالناس وبمشاكلهم؟ انظر لنفسك ودع عنك الناس للناس...
ماذا سأفعل؟ لا أستطيع، فكرت كثيرا ثم كتبت إلى خديجة:
بعد تحية طيبة وسلام:
أخيرا أستطيع أن أكتب لك هذه الكلمات، خاصة وأن الأقدار لم تسمح بأن نتحدث معا... لا أخفيك أنني أكتبها والحزن والحسرة يأسرانني لما راح بعض الطلبة يحكونه عنك أو يخطونه على الجدران.
صدقيني إنك تسيرين في درب مظلم قاس ومسدود... أتذكرين يا خديجة يوم كنا أطفالا؟ أخالك الآن تبتسمين، يوم كنت أملأ الدنيا شغبا ولعبا وكنت أنت تتبعينني ولا تكلين من الكلام، تحكين شتاتا من أحداث أسرتك وتخلطينه بأوهامك وأحلامك، كنت تحبين النظر إلى السماء، وعن القمر والنجوم والأشباح، وعن النحل الذي سيأتي من الشمس...
أتذكرين حكاية الدجاجة؟ دجاجة أهداها إياك جدك.
أتخيلك الآن تبتسمين، الله وحده يعلم كم من الكلام والأوهام والأساطير نسجت حولها: >دجاجتي تطير، دجاجتي تتكلم، تبكي، وترقص، تهزم القطط والكلاب، وفي الليل تنام بجانبي...
أختي خديجة، ألا تحسين اللحظة بالحنين إلى الطفولة؟ حنين دافئ جياش يكتسحنا... يضم قلوبنا المتعبة إلى أن تفيض:
يا ليتنا بقينا أطفالا!
أتعرفين لماذا...؟
لأنها الفطرة يا أختاه، وعنها تكلم ربنا في القرآن، وكذلك نبينا عليه السلام.
الفطرة ما الفطرة؟
عبق تشمينه حين تذكرين أيام الطفولة، هي الطهارة، هي براءة الفكر والعواطف والحركات والسكنات، هي السعادة التي نغبط عليها الآن أولئك الذين تحفل بهم الدروب والأزقة، وحين تتأملين وجوههم الفرحة أو الحزينة تحسين وكأنها موصولة بعشق إلاهي يلهمها الانطلاق من أغلال هذه الدنيا الضيقة...! نعم يا أختاه ضيقة هذه الدنيا، المعيشة فيها ضنكة... أتعرفين عند من؟ عند الذين مالوا عن فطرتهم ميلا، بل عند الذين اتبعوا خطوات الشيطان، أختاه كل خطوة نخطوها وراء الشيطان تبعدنا عن ربنا عن فطرتنا بل عن طفولتنا...
ما رأيك في عرض مغر؟ إنه الرجوع إلى الطفولة.
أما الآن فيخيل إلي أن الدموع تغمر عينيك وتفيض على وجنتيك وقد تحجب عنك هذه السطور، دعيها تنبعث من أعماقك، دعيها تسيل وتغسل المقلتين، وهي تسيل تذكري ربك وانظري إلى ذنوب كنت تواقعينها... دعيها يا أختاه لا تحبسيها لا تمسحيها، أتركيها تجلي عن الوجه قناعا مضمنا وأليما.
تريدين فرصة الطفولة أليس كذلك؟
كي تكوني تلك الطفلة الغضة، ذات الوجه المدور، والأنف المكور، والعينين الواسعتين والشعر الأملس المسدول، تركض هنا وهناك، لا يتعبها الكلام، وتعشق الأحلام والحكايات والأشياء الغريبة.
كم أنت جميلة قبل أن تهرب منك الطفولة!!
لا محالة تشتاقين إلى إنابة طفولية، إذن فانظري إلى شيخ مسن يحرص على الذكر والصلاة والحديث عن الآخرة، شيخ يفوح منه طيب صوفي، تأملي قسمات وجهه، تأملي ثم تأملي، برهة ستكتشفين أنك تنظرين إلى طفل صغير...
تأملي كرم رب السماء وتفكري في سخاء الشتاء في قطرات المطر، في الرعد في البرق، إنه الله يمنحنا الحياة...
تأملي فرحة الربيع، بهجة النسيم وسعادة الأزهار جذبة الأشجار وتسبيحة الأنهار، إنه الله يمنحنا لذة الحياة...
انظري إلى شمس الصيف، إلى انبعاث الثمار، تدبري متعة الهواء وصفاء السماء، إنه ملك الوجود يعلمنا العطاء... انظري إلى أناملك، نفسك ما حولك...
أنظري إلى الناس... تأمليهم جميعا... ثم أحبيهم جميعا دون استثناء، لا تخافي... أحبيهم، ساميحهم إنهم عيال الله...
... ثم ختمت رسالتي بعبارة لطيفة.
وفي اللحظة التي قررت فيها أن أسلمها هذه الرسالة، وجدتها رفقة مجموعة من الطلاب يشكلون حلقة وهم غائبون في صخب الأحاديث المتقاطعة والمتعالية، ناديتها التفت نحوي فلمحتني أرقبها، في حركة سريعة رفعت يدها نحو شعرها لتصففه فوق أذنها، مشت بخطوات منتظمة تجاهي...
تبادلنا تحية خاطفة، حاولت أن أبقي عيني عالقتين بها، فاكتشفت أنها هي الأخرى لا تقدر أن تفعل ذلك، تبادلنا كلاما عابرا... سلمتها الرسالة ثم مضيت...