يصدر قريبا للناقد والمترجم إبراهيم الخطيب كتاب يحمل عنوان «أوراق حاطب ليل»، ويتضمن فصولا مستقلة تتناول ذكريات الكاتب عن الأماكن والشخصيات والقراءات التي أثثت وجدانه وماضيه. وندرج في ما يلي الفصل المتصل بطفولته كهاوٍ للسينما إثر تشييد قاعة عرض قاب قوسين من منزله في خمسينيات القرن الماضي. خلال بضع سنوات من طفولتي، شكلت السينما عنصر جذب طبع وجداني في تلك الفترة بميسم لا يزول. أتذكر الدهشة التي اعترتني وأنا أسمع أبي يتحدث عن قرب تشييد قاعة للسينما بجوار بيتنا. كما أتذكر حيرتنا، أترابي وأنا، إزاء تلك الحيطان التي كانت ترتفع يوما بعد يوم على مرأى ومسمع منا، إلى أن استوى البناء على هيئة دودة عملاقة جاثمة : يتعلق الأمر بمعمار محدب، نحيل، تحاذي مؤخرته مارستان «سيدي فرج» فيما تقابل واجهته، التي كتب عليها بأحرف حمراء بارزة اسم القاعة، مبنى «المدرسة الأهلية» لا يفصل بينهما إلا شارع ينحدر من «باب العقلة» وقد اصطفت في جانب منه منازل آل اللبادي والفقاي والموفق وبنعبود والطريس، متوارية خلف أسوار تبدو فوقها ذؤابات الأشجار التي تزين حدائقها، وفي الجانب الآخر مدرسة الصنائع، والمدرسة التقنية، ومجموعة مدارس مولاي الحسن. أما بيتنا فكان شقة في الطابق العلوي من عمارة متواضعة يشغل طابقها السفلي معمل نجارة يملكه رجل بدين لا يكف عن التدخين . بين مارستان ومدرسة أتذكر أن الموقع الذي شيدت فيه «سينما المنصور» كان خلاء مهجورا، كنا نلعب فيه الكرة أحيانا، وأحيانا أخرى نستفز مجانين المارستان المسلسلين في أقبيته التي كنا نطل عليها عبر نوافذ كبيرة مسيجة بقضبان من حديد. وكانت نسوة بدويات، في يوم معلوم من أيام الأسبوع، يلجأن إلى ذلك الخلاء عند العصر صحبة دوابهن بعد التسوق في المدينة، فكن يفترشن الأرض للاستراحة وتناول الطعام، قبل الانطلاق عائدات إلى قراهن. ذات يوم لمحنا عمالا يمعنون في حفر الأرض، وشاحنات تفرغ الآجر وأسياخ الحديد وأكياس الإسمنت، ورجلا يرتدي جلبابا بني اللون يدعى الحاج محمد زيوزيو يترجل من سيارته «الشيفروليه» البيضاء، وهو يدخن سيجارة مثبتة في مصفاة معدنية، فيلقي نظرة عجلى على أعمال البناء، ويتحدث إلى رئيس العمال، قبل أن يركب سيارته من جديد وينصرف. ينتمي الحاج محمد زيوزيو إلى عائلة تطوانية عريقة، فيها الميسورون ومتوسطو الحال والفقراء. كان قد عمل منذ سنة 1943 ناظرا للأحباس وأوقاف المنقطعين، ومسؤولا عن الضرائب، قبل أن يحترف التجارة، ويقرر، في مستهل خمسينيات القرن الماضي، تشييد قاعة للسينما تختص بعرض الأفلام العربية. ويبدو أن الرجل، حينما عمد إلى ذلك، قرر تشغيل أفراد من عائلته في مهام تسيير القاعة، وهكذا أصبح بعضهم مكلفا بشباك التذاكر، والبعض الآخر بوابا، وغيرهم بائعا للمشروبات الغازية وراء منصة الغرانيت التي تقابل الباب الرئيسي، فيما صار صهره مسؤولا عن البرمجة والحسابات. وكان من بين العاملين، ممن لا يمتون بصلة قرابة إلى مالك القاعة، فتى قصير القامة، مفتول الذراعين والساقين، تتلخص مهمتاه في تثبيت ملصقات الأفلام في واجهة السينما على سبورتين كبيرتين: إحداهما مخصصة للفيلم المعروض، والأخرى للفيلم الذي سيعرض «عما قريب»، وكذا في التوجه إلى محطة الحافلات لإحضار الأكياس الخضراء التي تحشر فيها بوبينات الأفلام داخل أقراص معدنية ثقيلة، وذلك عشية عرضها على الشاشة. كان الحاج محمد يتردد على السينما بين يوم وآخر لتتبع شؤونها، فكان المستخدمون يستقبلونه باحترام بالغ، بل إن بعضهم لم يكن يتردد في الانكفاء على يده لتقبيلها اعترافا بجميله. أستثني من هؤلاء، بالطبع، أنطونيو مشغل آلة بث الأفلام الذي كان الحاج محمد يتحدث إليه بإسبانية طليقة، والذي كنا ننظر بذهول إلى أظافره الطويلة نظرتنا إلى ساحر شيطاني. أغاني وموسيقى كانت «سينما المنصور» تتألف من ثلاثة مستويات : «البهو»، وهو القاعة السفلى التي يتم الدخول إليها من الباب الرئيسي، و«الممتاز»، وهو القاعة الوسطى ذات المقاعد المنجدة التي تطل على «البهو» على هيئة شرفة ويتم الدخول إليها من باب جانبي بعد الارتقاء في سلم حلزوني؛ و«العمومي»، وهو القاعة العليا، زهيدة الثمن، التي تبدو من «البهو»؟ نائية، منحشرة، تكاد رؤوس مرتاديها تلامس السقف الذي كان مبلطا بالفلين لامتصاص الصدى. أتذكر أني كنت أرتاد «البهو» في غالب الأحيان، وأني لم أرتد «العمومي» قط انصياعا لوعيد أبي، والمرات القليلة التي استمتعت فيها بنعومة مقاعد «الممتاز» كانت بصحبة عمتي وأمي أثناء عرض أفلام دينية. لقد كان أعيان تطوان يفضلون الدخول إلى «الممتاز»، حيث ينفردون هناك كما لو كانوا في ناد خاص أو عرس عائلي، إذ كان بعضهم يعرف بعضا، نساء ورجالا وأطفالا، لذلك كانت أصواتهم تتعالى وهم يتبادلون التحايا والأخبار، ولا يكفون عن الحديث إلا عندما تنطفئ الأضواء. قبل انطلاق عرض الفيلم، كانت الأغاني المصرية تستقبل الوافدين إلى القاعة وحدانا أو جماعات : يتعلق الأمر بريبرتوار محدود من الأغاني والمعزوفات لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، أذكر من الأغاني «الخطايا» لمحمد عبد الوهاب، و«يازهرة في خيالي» لفريد الأطرش، بالإضافة إلى «حقابلو بكرة» لأم كلثوم. لم يكن أبي قد اقتنى بعد مذياعا لبيتنا في ذلك الوقت، لذا كنت حريصآ على الدخول مبكرا إلى القاعة قصد الإنصات إلى تلك الأغاني كاملة قبل بث الفيلم، مثلما كنت حريصا على الاستماع إلى القطع الموسيقية الصامتة المرة تلو الأخرى، إلى درجة أنها غدت تقترن في ذاكرتي بأفلام الأبيض والأسود، وبطفولتي كمتفرج منبهر بالشاشة الفضية. كنت أذهب إلى السينما في عروض ما بعد زوال يوم الخميس بعد استئذان أمي؛ أحيانا كنت أبتاع التذكرة بحصيلة المصروف الأسبوعي الذي يمنحني إياه أبي، وأحيانا أخرى كنت أكتفي بالوقوف جاثما لا أحوّل عينيّ عن البواب المكلف باستلام التذاكر، إلى أن يبتسم لي ويربت على رأسي شبه الحليق قائلا: «هيا أدخل، لكن حذار أن تحدث ضجيحا». لم أنس قط إنسانية ذلك الرجل، متوسط القامة، متهدل العثنون، ممشوط الشعر إلى الخلف، الذي طالما التقيته، سنوات بعد ذلك، وهو يخترق دروب المدينة القديمة في الطريق إلى عمله، وقد ارتدى زي البواب المميز، غير عابئ بنظرات المارة وتلميحاتهم. تسكع وسط القاعة تكون القاعة، في عروض ما بعد زوال يوم الخميس، شبه خالية، وحينئذ كان يلذ لي أن أغير مقعد جلوسي بكامل الحرية، متنقلا من صف إلى صف آخر، إلى أن أنفذ إلى دهليز يقع في مؤخرة «البهو»، حيث يكون بإمكاني التجسس على متفرجين لم يأتوا لمشاهدة الفيلم، وإنما للتحدث بهمس وتبادل نظرات والهة وسط العتمة. واقتحمت القاعة ذات مرة وقد انطلق عرض الفيلم منذ مدة، فلم أدرك من مجرياته شيئا: انتهى العرض الأول وتلاه العرض الثاني الذي يستمر حتى الساعة السادسة مساء، فقلقت أمي لغيابي وأرسلت خادمة جدتي تبحث عني. كانت القاعة مظلمة، والفيلم شغالا، عندما بلغني نداء الخادمة يعلو أصوات الممثلين والمتفرجين الذين تذمروا من صنيعها. تواريت وراء بعض المقاعد علها لا تراني، لكني سرعان ما فوجئت بشبحها القصير وهو يتقدم نحوي، فخجلت من نفسي، وتأففت من حرص أمي على تعكير صفو ملذاتي ومطاردتي دون هوادة حتى وأنا في قاعة سينما. أتذكر أيضا ذلك اليوم الذي هطلت فيه الأمطار مدرارا ونحن نلعب الكرة في ساحة «المدرسة الأهلية»، فابتل جلبابي وتوحل حذائي وسرت في جسدي قشعريرة منذرة بزكام. طرقت باب بيتنا دون جدوى : كنت أعرف أن أمي كانت بمنزل جدتي حيث اعتادت قضاء مساءاتها، غير أن خوفي من الكلاب الضالة التي تهيم في الدرب الذي يوجد به المنزل حال بيني وبين الذهاب إلى هناك، فوليت وجهي شطر السينما. أشفق البواب لمرآي وسمح لي بالدخول، فقصدت الصفوف الأخيرة : خلعت جلبابي وحذائي، وأرسلت ساقيّ العاريتين فوضعتهما على مسند المقعد المقابل لي، ثم حملقت في الشاشة برهة وجيزة، لم ألبث بعدها أن استغرقني سبات عميق. وحين أفقت ذهلت لفراغ القاعة، وهالني الوقت المتأخر، فهرعت إلى الخارج حافيا دون جلباب وأنا غير آبه. عنفتني أمي تعنيفا شديدا، ثم ذهبت معجلة لاستخلاص الجلباب والحذاء من أحد المكلفين بتنظيف القاعة، خوفا مما قد يقع لو اطلع أبي على الأمر. ألم يحدث أن كنت بصدد مشاهدة فيلم ذات يوم، فاقتحمت القاعة خادمة جدتي، داعية إياي إلى تناول العشاء، فرافقتها، وحين فرغت منه، عدت لإتمام بقية الفيلم ؟ استيهامات متفرج لقد كان حرصي على ارتياد السينما حرصا غريبا، محفوفا بدهشة لا تتوانى، إلى درجة أني لم أكن أميز بتاتا بين الأفلام التي أشاهدها والوقائع التي أحياها : هكذا كان يحدث أن أشاهد أفلاما عاطفية تنتهي نهاية سعيدة، فأتخيل مآل زواج خالي الذي كان وشيكا، مثلما كان يحلو لي مشاهدة أفلام تاريخية أو دينية أو أخرى ذات حبكات ترتبط بسياقات اجتماعية، وذلك حتى أتوهم لنفسي أدوارا فيها أتقمصها أياما متواصلة. لقد شاهدت في ذلك الوقت أفلاما أرعبتني بعض مواقفها، وشكلت كوابيسي ليالي عديدة، لكني كنت أصر على العودة إلى مشاهدتها كنوع من التحدي لنفسي. أتذكر في هذا الصدد أن فيلم «دموع الحب» (بطولة محمد عبد الوهاب ونجاة علي) هز مشاعري هزآ عنيفا، خصوصا عندما شاهدت بطل الفيلم وهو يتسرب ليلا إلى مقبرة، فينشد «أيها الراقدون تحت التراب» متحسرا على مصرع حبيبته، الأمر الذي جعلني أتخيل المقابر أماكن مخيفة، مظلمة، تغطيها سحب داكنة لا يخترقها أي كوكب منير. وشكلت الأفلام الكوميدية متنفسا لي من صرامة الحياة في بيتنا، ووزر المدرسة التي كان علي استظهار دروسها ومنظوماتها عن ظهر قلب بحضور أبي، مثلما مكنتني الأفلام الدينية والتاريخية من الإحساس بوجودي كفرد داخل جماعة تشترك في قيم متجذرة: لقد كان الإقبال على هذه الأفلام أشبه بواجب قومي وثيق الصلة بالأحداث السياسية التي عرفتها بلادنا في ذلك الوقت، لذا كانت «سينما المنصور» لا تكاد تفرغ أياما متواصلة. كان المرتادون للقاعة يتجمهرون عند شباك التذاكر ساعة أو بعض ساعة قبل انطلاق عرض الفيلم، فكانت أصداء زحامهم تصل إلينا عبر النوافذ المشرعة ونحن نتابع دروسنا في إحدى قاعات «المدرسة الأهلية»، وحينئذ كان حبل تفكيرنا ينقطع، فيما كنا نحاول تخمين ما يحدث هناك من تدافع وصياح. إنني أتذكر أنه أثناء مناسبة عرض فيلم «انتصار الإسلام»، شاهدت الكاتب التهامي الوزاني رفقة إحدى زوجاته واقفا في صف طويل، ينتظر فرصة لحجز تذكرتي دخول، وقد ارتدى جلبابآ أبيض مخططا بالرمادي، وعلق على صدره سبحة كبيرة من خشب، وترك شعره الغزير اللامع يغطي رقبته وينسدل سلسا على كتفيه. ألوان الخارج والداخل كانت أيام الاكتظاظ هاته مدعاة لحزني، إذ لم يكن البواب يسمح لي بالدخول كعادته، لذا كنت ألتمس من بعض الداخلين اصطحابي. تكون القاعة حينئذ مزدحمة عن آخرها، فأجد نفسي مرغما على الجلوس في أحد مقاعد الصف الأول أو الثاني، قاب قوسين أو أدنى من الشاشة وإطارها الأسود، مميلا رأسي إلى الخلف عساي ألتقط صور الفيلم التي تتراءى لي إزائي عملاقة ومبهمة. ترتفع حرارة القاعة بانحشار الأنفاس وأدخنة السجائر فيها، فتدخل إحدى العاملات وقد حملت آلة رش معقمة، تنفث في الجو رذاذا مصحوبا برائحة عطرة، فكانت بقايا الرذاذ تنهال ذرات فضية باردة على رؤوس المتفرجين، ويقشعر بدني، وأشعر ببعض الاختناق، لكني أتشبث بمكاني لا أبرحه إلى أن توقد الأضواء إثر انتهاء العرض. كانت الأبواب الجانبية للسينما لا تفتح إلا أيام الاكتظاظ، لذا كان المكلف بالقاعة يعمد إلى دفع المصاريف وجمع ذيول ستائر القطيفة الحمراء بسرعة، فتتسرب ألوان الخارج إلى الداخل، ويتبادل الذين يغادرون القاعة، وهم في حالة عمى مؤقت، وعابرو درب «سيدي فرج»، نظرات تنم عن إحراج غامض، كما لو أن الأمر تطفل أو فضول. أحيانا كنت أشعر بمرارة وندم وأنا أغادر السينما، متمنيا ألا أكون قد شاهدت الفيلم، حتى أتخيل إمكان مشاهدته مرة أخرى... غدا أو بعد غد. كانت «سينما المنصور» تعرض أفلاما مصرية ولبنانية، وأحيانا أفلاما هندية ناطقة بلغة عربية ركيكة. لكن السينما، بالنسبة إلي، كانت هي الإنتاج المصري بالدرجة الأولى: أفلام الحزن والمرح، والمنازل الفارهة، والأزياء الأوربية الأنيقة، وشوارع القاهرة الفسيحة التي يقطعها مارة «مطربشون» وتدب فيها ترامات قليلة الركاب. لم أكن حينها أهتم بالمخرجين، الذين كانوا أشباحا غير مرئية، بل كان الممثلون فقط هم مركز اهتمامي، خاصة أولئك الذين يؤدون أدوارا فكاهية أو يكونون فيها ضحايا مقالب شنيعة ومؤلمة، لكن السعادة سرعان ما تغمرهم في النهاية. إنني أتخيل أن سينما تلك الأيام كانت سينما نجوم بارعين، وأن القصص والحبكات التي يقومون فيها بأدوار البطولة إنما كانت آليات معدة سلفا لإثبات مواهبهم. إنه من المحتمل ألا تكون الأفلام التي شاهدتها في طفولتي وثيقة الصلة بمجتمع مصر، لكنها بسبب ذلك، ربما، كانت محببة إلي، رغم أني لم أكن لأدرك حينها نوازع ذلك الاغتراب الذي صنعته السينما المصرية لنفسها، والذي غدا، مع مرور الأيام، أشبه بمرآة مهشمة تعكس وقائع مستمدة من مجتمعات لا علاقة لها بالمجتمع المصري. من سينما إلى عمارة سكنية في أواخر سنة 1958 حصلت على شهادة الدروس الابتدائية، فالتحقت بالمعهد الرسمي الواقع على بعد كيلومترين من بيتنا: على هذا النحو أخذت علاقتي ب«سينما المنصور» تعرف تغيرات جوهرية متلاحقة، بموازاة انفتاحي على آفاق أشد رحابة، وتعرفي على أصدقاء جدد، ومروري، في جيئتي وذهابي، بقاعات سينمائية أخرى تعرض أفلاما أمريكية وأوربية ناطقة باللغة الإسبانية التي لقنت إياها في «المدرسة الأهلية» منذ نعومة أظافري. وعندما انتقلنا من بيتنا في «باب العقلة» إلى شقة بالطابق الأول من عمارة تقع على ناصية شارعي مولاي العباس وطارق بن زياد، على بعد أمتار قليلة من ساحة «مولاي المهدي»، ازدادت المس افة بيني وبين سينما طفولتي عمقا واتساعا، إلى درجة أني لم أعلم بنبأ وفاة صاحب القاعة الحاج محمد زيوزيو (سنة 1963) إلا بعد مرور أيام على ذلك. في أواخر السبعينيات أغلقت «سينما المنصور» أبوابها بصفة نهائية، فعملت الأمطار ولفحات الشمس المتعاقبة على فقدان البناية المهجورة ألوانها بصورة تدريجية. ذات يوم تحول الباب الرئيسي إلى محلبة، أما بقية المبنى، الذي حافظ على شكله الأصلي، فقد غدا حماما عموميا، وعمارة سكنية بالغة الغرابة. على ذلك النحو اختفى مكان ثمين من ذاكرتي. لقد ارتدت قاعات سينمائية أخرى لا حصر لها، سواء في تطوان أو فاس أو الرباط أو بروكسيل، لكني لم أشعر قط بها كفضاءات وثيقة الصلة بوجداني.إنني أحس حاليا باغتراب كبير حيال ذلك الطفل الذي كنته في خمسينيات القرن الماضي، لكني أدرك أيضا أن علاقتي بالسينما تغيرت بدورها على نحو لا رجعة فيه.