عندما بدأت نيران الثورات الشعبية تشتعل في بيوت حكام العرب المكابرين والمتجبرين وقف المسؤولون الجزائريون وقادة الأحزاب المقاولة ينادون في الناس أن اعلموا أن الجزائر ليست كأي بلد آخر، الجزائر ليست تونس وليست مصر وليست ليبيا وليست سورية وليست اليمن ولا السودان، الجزائر هي الجزائر والثورات التي ترونها الآن في العالم العربي كانت الجزائر سباقة إليها قبل اثنين وعشرين عاما. كان هؤلاء الدجالون يؤكدون لكل من يستمع إليهم أن الشعب الجزائري صنع ثورته في أكتوبر 1988 وأن المسيرات والاحتجاجات التي تملأ الجزائر عرضا وطولا إنما هي تعبير عن مطالب اجتماعية واقتصادية لا تشوبها أية ذرة من السياسة. كلام هؤلاء لم يغادر آذاننا بعد حتى أطل علينا رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يوم الجمعة الماضي ليبشرنا أنه قرر عددا من الإصلاحات السياسية يستكمل بها مسيرته وإنجازاته في المجالات الأخرى، ولم يكد الرجل ينهي كلامه حتى خرج علينا الدجالون يملأون الدنيا تهليلا وتسبيحا بهذه الإصلاحات السياسية التي أعلن عنها فخامة الرئيس في خطابه (التاريخي الهام)، بل ومنهم من بلغت به الوقاحة حدا جعلته يبارك للجزائريين ميلاد الجمهورية الجديدة، لم ينتظر هؤلاء على الأقل إلى حين تكريس هذه الإصلاحات في الميدان أو على الأقل التعرف عليها، بل قالوا (ومنهم أساتذة جامعات وإعلاميون بارزون وقادة أحزاب) إن الجزائر دخلت العهد الجديد بمجرد انتهاء فخامة الرئيس من إلقاء خطابه. الخطاب تابعه معظم العالم العربي لأن جميع الفضائيات الإخبارية العربية نقلته في نفس الوقت الذي كان التلفزيون الحكومي الجزائري يبثه، ولا أبالغ إذا قلت لكم إنني أصبت بحالة من الذهول والوسواس بعد أن سمعت ما كان يقوله أساتذة جامعيون وقادة أحزاب سياسية ومسؤولو صحف محلية من كلام عن العهد الجديد والجمهورية الجديدة والبرنامج الطموح لفخامة الرئيس والخطاب التاريخي والخطاب الذي لامس كافة طموحات ورغبات الشعب على جميع الأصعدة. كنت أستمع إلى هؤلاء وأسأل من حوالي هل كان هؤلاء القوم يستمعون إلى خطاب غير الذي كنا نسمع أم تراني فقدت القدرة على الفهم والاستيعاب؟ حتى على صفحات الفايسبوك لم أجد تعليقا أكتبه عن مضمون الخطاب لأنني لم أجد فيه شيئا يستحق الكتابة واكتفيت بتعليقات على الشكل. الرئيس الذي عرف بتمرده لسنوات على النصوص التي تحرر له جلس هذه المرة يتابع ما كتب له على الورق الموضوع أمامه ولم يرفع عينيه أمام الكاميرا إلا في ثلاثة مواضع، المرة الأولى في بداية الخطاب والثالثة في نهايته والثانية بينهما عندما قال إن دماء كثيرة سالت ودموعا غزيرة ذرفها شعبنا من أجل صون الجزائر موحدة وشامخة، أما ما عدا ذلك فلم تفارق عينا فخامته سطح مكتبه. الخطاب قرأه بصوت خافت وبسرعة فائقة وكأنه كان يقول كلاما مفروضا عليه أو يضايقه الخوض فيه ولا أدري لماذا استعدت وقتها صورة عادة ما كنا نراها ونحن صغار، صورة ولد أو تلميذ ينهره والده أو معلمه أو يضربه فيأمره بقراءة سورة أو قصيدة تهاون في حفظها فتراه يتمتم بكلماتها دون أن يلقي بالا لما يقول. ليس هذا هو بوتفليقة الذي عرفه الجزائريون عندما جاءهم رئيسا سنة 1999. الجزائريون صاروا شبه مجمعين على أن رئيسهم في حالة ضعف وهون، رغم تأكيد وزير الخارجية قبل أسابيع أن حالة الرئيس بوتفليقة الصحية ممتازة. قد لا يكون مرد ذلك إلى مرض يعاني منه مثلما يصر على ذلك كثير من الملاحظين ووثائق الويكيليكس، لكن الذي يبدو عليه فخامته من فشل وارتخاء لا يمكن أن يخفى عن العين. بعض الذين عرفوه أو اقتربوا منه في الأشهر الأخيرة يؤكدون أن الرئيس بوتفليقة في حالة نفسية صعبة، فقد فقد في فترة وجيزة والدته وشقيقا عزيزا عليه، والذي يعرفون تفاصيل ومدى تعلق الرئيس بوالدته وعائلته الصغيرة يفهمون بسرعة سبب تردي حالته النفسية التي وصلت حد الاكتئاب، وهي حالة طبيعية عند البشر بغض النظر عن أعمارهم ومراتبهم ولا أحد يلومه عليها. لكن الذي يمكن أن يعاتَب عليه الرئيس بوتفليقة هو أنه لم يلتزم بعهد قطعه على نفسه أمام الملأ في تشرين الثاني/نوفمبر 2006، وقد فعل ذلك ردا على سؤال أحد الصحافيين الفرنسيين الذين رافقوا نيكولا ساركوزي (كان وقتها وزيرا للداخلية) في زيارته إلى الجزائر، السؤال كان عن مدى تطور الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة بعد الوعكة الشديدة التي ألمت به واستدعت تحويله إلى أحد المستشفيات الفرنسية لإجراء عملية جراحية. سؤال الصحافي الفرنسي لم يعجب فخامة الرئيس لكن الذي كان يتضايق منه أكثر هو الشائعات التي لا تتوقف عن طبيعة مرضه وعن حالته الصحية، الرئيس اعترف أن مرضه كان شديدا وقد شفي منه بأعجوبة، ثم قال هاتين الجملتين (يجب التوقف عن الحديث عن صحتي) و(من الواضح أنني عندما أعاني من مشاكل صحية، سأعود إلى بيتي نهائيا). كلام معقول ما دام منصب الرئاسة في الجزائر يفترض أن يكون تكليفا لا تشريفا أو توريثا لأحد حتى الموت، كما أن بلدا كالجزائر يقتضي أن يكون على رأسه رجل قادر على إدارة دفة الحكم بطريقة بارعة ويقظة خاصة في الظروف التي نعيشها الآن، والحق أنني كنت لسنوات أحاول عدم التركيز على تطورات الوضع الصحي للرئيس رغم كثرة الخوض فيه، إلا أنني اندهشت بعد الخطاب الأخير أن معظم الجزائريين (ولا أتحدث هنا عن الدجالين) كانوا منصرفين عما قاله الرئيس إلى التعليق على الحالة التي ظهر عليها والطريقة التي كان يلقي بها خطابه المكتوب، الجزائريون صاروا شبه مجمعين على أن رئيسهم يعاني من شيء ما وأنه ليس في كامل قواه البدنية والنفسية لمواصلة مهامه. ومع ذلك فإنني لن أقف الآن في صف المطالبين برحيله، ليس حبا فيه ولا إيمانا بعبقريته أو بإنجازاته رغم أن هناك من يحاول أن يظهره وكأنه المخلّص الوحيد للبلد، بل إن أحد قادة أحزاب ما يسمى بالمعارضة بدل أن يقول (إن خطاب الرئيس...) أسرع لسانه فقال في زلة ذات دلالة (إن خطاب الرسول..). إن شاء الرئيس أن يرحل ويفي بوعده الذي قطعه على نفسه قبل أزيد من أربع سنوات فله أن يفعل، أما إذا أراد أن يستمر إلى نهاية فترة ولايته الحالية في 2014 أو حتى إن أراد أن يكمل عهدة رابعة وخامسة فله ذلك ما دام الدستور الذي عدله لهذا الغرض يسمح له بذلك. ومرة أخرى أكرر أن عدم اعتراضي على بقاء الرئيس في منصبه ليس معناه أنني أدعم الفكرة، بل لأنني أرى أن رحيله ليس هو الحل، بل حل معضلة الجزائر هي في رحيله هو ورحيل كل طبقات النظام الذي جاء به وتحالف معه طيلة اثني عشر عاما. لكن الذي أريد أن ألح عليه الآن وأناشد فخامته أن يسمعه هو أنه ليس من حقه أن يفكر أو يضع أية خطة لجزائر جديدة. إن أعجبتك الجزائر التي نحن فيها فاستمر في نفس منهج حكمك الذي اخترته منذ 1999، أما إذا رأيت أن هناك حاجة للتغيير فعليك أن تعلم أنك لست صاحب حق في إجراء أي تغيير، لا أنت ولا الذين يطبلون لك ولا حتى الذين تطبل لهم ويرقصون لك. من حقك أن تظل مصرا على أنك رئيس منتخب بطريقة شرعية وديمقراطية وأنك نذرت نفسك لخدمة بلدك، لكن رجاء لا تترك أي أثر لك في جزائر الغد، الجزائر التي لا تكون فيها أنت على رأسها. أكمل فترتك الحالية والتي تليها إن أردت أو استطعت بنفس وتيرة عملك ودع الجزائريين وحدهم يفكرون ويخططون لجمهوريتهم القادمة. رضيت أن تبدأ عهدك الأول وتستمر في الحكم بمنطق الذين يديرون دفة النظام منذ استقلال الجزائر، فلا تتحرج الآن من أي شيء فعلته أو لم تفعله وأكمل مسيرتك وفق نفس النهج لأنك حتى لو حاولت تغيير شيء فإنك غير قادر، فاتك القطار كما يقولون! كثير من الجزائريين كانوا يترقبون أن يقول فخامته في خطابه الأخير كلاما من قبيل اتخاذ قرار بحل البرلمان بغرفتيه أو إعلان فتح المجال أمام الخواص للاستثمار في الإعلام السمعي البصري أو فتح المجال للعمل السياسي أمام جميع الجزائريين دون إقصاء، لكن شيئا من ذلك لم يكن، بل إن فخامته أصر على أن يقدم (حزمته الجديدة) من الإصلاحات على نفس الطبق، وإلا فقولوا بربكم ما معنى أن يقول الرئيس في آخر خطابه أنه سيظل (حريصا كل الحرص) على تحقيق تلك الأهداف، بالارتكاز على المؤسسات الشرعية للدولة، وفقا لأحكام الدستور وقوانين الجمهورية)؟ إنه يخاطب صراحة كل الذين يراهم الشعب غير شرعيين للاستمرار في حكمه ويقول لهم اطمئنوا فأنتم شرعيون مثلي تماما وسنشد أيدينا جميعا لبناء الجزائر القادمة. ماذا تغير إذن يا صاحب الفخامة أو ماذا سيتغير؟ لا شيء بطبيعة الحال لأن التغيير الذي تنوون فرضه على الجزائريين هذه المرة أيضا ستكون غايته الأولى والأخيرة بقاؤكم واستمراركم في الحكم وتهميش الشعب لسنوات قادمة وتكميم فمه وتقييده. لست متحاملا على أحد، لكن قولوا لي فقط ما معنى أن يستمر الرئيس طيلة اثنتي عشرة سنة مصرا على أن الشعب لا يستحق أن يحصل على حريته في التعبير والتجمع والاحتجاج، وأن الجزائريين لا يحق لهم أن يؤسسوا أحزابا توافق تطلعاتهم وقناعاتهم السياسية، وأن المعارضين للنظام لا يحق لهم الظهور في وسائل الإعلام العمومية بل لا حق لهم في التحدث أصلا، ثم يأتي اليوم ليقول إنه يريد تغيير هذا الواقع؟ وما معنى أن يعدل الرئيس الدستور فقط من أجل أن يستمر في الحكم ضد قوانين الطبيعة ثم يأتي اليوم ليقول إنه يريد تعديل الدستور لأنه كان يرى ذلك ضروريا؟ علما أن وعده بتعديل أشمل للدستور كان قبل ثلاث سنوات. وما معنى أن يأمر الرئيس بإصدار قانون يجرم الصحافيين ويدخلهم السجن بموجبه وتستجيب الحكومة لذلك ويصادق البرلمان بالإجماع على هذا القانون، ثم يأتي اليوم نفس الرئيس ليقول إنه يريد رفع التجريم عن الجنح الصحافية على أن تحضر نفس الحكومة السند القانوني لإقرار هذا الرفع ثم يصادق عليه نفس البرلمان؟ هل هناك استهزاء بالشعب أكثر من هذا؟ نفس الرئيس ونفس الحكومة ونفس البرلمان يصفقون ويطبلون لنظام حكم لا هم له إلا الاستمرار، يأتون اليوم ليقولوا لنا إنهم يريدون تحقيق إصلاحات تلبي رغبات الشعب وتستمع لانشغالاته وهمومه. أي منطق هذا؟ برلمان يعرف الجميع أنه وصل إلى حيث هو بتزوير إرادة الشعب وأنه غير جدير أبدا بأي عمل سياسي، يريد منه الرئيس أن يرتكز عليه لوضع أسس جمهورية جزائرية جديدة. أي استهتار ووقاحة هذه؟ بل هل أحصيتم أيها الجزائريون كم سنة قضاها الأطباء والمعلمون والمحامون والعاطلون عن العمل والطلبة والعمال وهم يطالبون بما يرونه حقا من حقوقهم بينما الحكومة تسخر قوات الأمن وزبانيتها في وسائل الإعلام وفي النقابات والجمعيات المرتشية لمحاربة هؤلاء وقمعهم والتأكيد لهم أنه لا حق لهم إلا ما هو موجود، وتأتي اليوم نفس الحكومة بتوجيهات من نفس الرئيس لتقول لهؤلاء تعالوا نتحاور من أجل تلبية جميع رغباتكم وطلباتكم المشروعة والشرعية؟ هل بقي بعد كل هذا من خير ترجونه من هذا الرئيس ومن حكومته وبرلمانه ومخابراته؟ *كاتب وصحافي جزائري