الثورة ظاهرة مهمة جداًَ في التاريخ الإنساني، وهي سلوك متعدد الدوافع ينشط حين يختل التوازن بين الحاكم والمحكوم، يحاول فيها الشعب أو الجيش أو مجموعات أخرى إسقاط السلطة الحاكمة التي تخلّفت عن نبض الشارع وتطلعاته، وتقاعست عن تحقيق ما ينشده من رخاء وتوزيع عادل للثروات وتغيير جذري حقيقي للأنظمة. ورغم أن كل ثورات العالم، تأتي من حيث لا يحتسب الطغاة، فإنها ليست حدثاً عشوائياً، كما يتبادر لبعض الأذهان، لأنها لا تولد في لحظة تنفيذها أو أثناء محاولة التنفيذ، وإنما تكون رابضة كخيار في طبقات الوعي الجمعي المكابد إلى أن تطفو فوق السطح وتنشط حسب ظروف ومواقيت بعينها، وبعد أن تصبح الخيار الوحيد الذي ترى فيه الجماعة -في تلك اللحظة-خلاصها، وأنها أفضل الحلول وأنجعها لتحقيق التغيير المنشود، ولأن بناءها وانتصارها، وتحقيق أمنياتها وديمومتها، لايتوقف على زمن معين، لأنها كالفاكهة يحين قطافها بعد النضج مباشرة، وليس قبله أو بعده، كما قال لينين عندما سئل بعد الثورة البلشفيّة، عن أحسن وأفضل وقت للثورات، ما معناه: "لو حدثت الثورة قبل ذلك لما نجحت، ولو حدثت بعد ذلك لفشلت". وعلى الرغم من قوة وعنفوان غريزة حب البقاء التي تدفع الإنسان نحو التشبث بالحياة والتملك والتفوق والزواج والإنجاب والإنتاج والتعمير، فالثورة كامنة في الظل كغريزة التحرر والانعتاق الرابضة في أعماق الإنسان، تدفعه – حين تنشط – إلى التضحية بكل ذلك، وتحرك فيه السلوك الثوري الذي يرنو له ويهتز به وجدان ملايين المهمشين الخائفين الذين هم في الحقيقة وقود الثورات والمحرك الأقوى لإشعالها واستمرارها. والثورة بهذا المعنى ليست بالضرورة لغة من لا يجيد الصبر والحوار، وإنما هي منظومة فكرية ووجدانية وسلوكية، تنتظم أجزاؤها عبر السنين والأحداث لتبرز كوسيلة وحيدة لكشف حجم السخط والامتعاض تجاه الحكام ووعودهم الجوفاء الخالية المضامين، ولغة مثلى للتعبير عن درجة الملل والإحباط التي وصلت إليها الشعوب المنضوية تحت خط الفقر والدكتاتوريات المتلاحقة والمتوارثة، وطريقة فعالة للخروج من مأزق أو أزمة في شعب وصل إلى حالة من انعدام الأمل وقلة الحيلة ووقع تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية وثقافية فاقت كل احتمالاته، وضاقت أمام مواطنيه كل خيارات التغيير الجذري الشامل، وتلاشت، أو أرادها هو أن تضيق وتتلاشى، بعد أن أعذر وأنذر، وأرسل إشارات الاستغاثة التي ربما لم تصل إلى من يهمهم الأمر، أو وصلت ولم يسمعها أحد، أو سُمعت ولم تفهم، أو فُهمت ولم يُستجاب لها، وهنا تقع الواقعة، وتقوم القيامة التي لم تكن لتقوم إلا لأنها استنفذت آخر ورقات الصبر وأقلام الانتظار وأوراق الأمل في التغيير والخروج من وضع إلى آخر سواء كان أفضل أو أسوأ من الوضع القائم. ورغم اختلاف الشعوب في نظرتهم إلى الثورات الماضية التي عرفتها الإنسانية، وفي طريقة احتجاجهم، وإعلان رفضهم -كل حسب فلسفاته ومعتقداته- فالتاريخ يشهد أنها تبقى عند الأكثرية، نوعاً من الخلاص والتطهر، والسمو بالروح والنفس، في عصر انهيار لغة المنطق والعقل، لذلك تكون في كثير منها، وطنية أو شعبية، وتقوم في مجملها على هدف واحد وأصيل، هو الكرامة الحرية والتكافل الاجتماعي، الذي يؤدي انعدامه إلى غضب الشعوب من حكامها، وتمردها ضدها لتأسيس أخريات وطنية بديلة، وكثيرا ما تنطلق بعض الثورات من هذا الهدف النبيل، شعبية سلمية، وتنتهي، مع السف، إلى دكتاتوريات عسكرية لا تبقي ولا تدر، وتخلف وراءها جرائم كبرى تخلف ضحايا بالملايين. كما حدث في أمريكا عام 1776 مثلا حين ثار الشعب الأمريكي ضد بريطانيا وأسس الأمريكيون الولاياتالمتحدة، والثورة الفرنسية عام 1789...، وثورة إيران التي تمرد فيها الشعب الإيراني ضد "الشاه" في عام 1979 وأسس دولة دينية، وثورات أوروبا الشرقية عام 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر 2004. كما يمكن أن تكون ثورة عسكرية، يقوم أحد العسكريين بالوثوب على السلطة من خلال قلب نظام الحكم، بغية الاستئثار بكرسي الحكم، مثل الثورات الانقلابية التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات والستينات من القرن العشرين، والانقلاب العسكري الذي قام به ضباط الجيش المصري ضد الحكم الملكي عام 1952 والذي عرف في البداية ب"الحركة المباركة" ثم أطلق عليها البعض فيما بعد "ثورة 23 يوليو"، وذلك الانقلاب الذي قام به معمر القذافي في ليبيا عام 1969 وأسماها ثورة الفاتح من سبتمبر. أو تكون حركة تحرر ومقاومة ضد المستعمر مثل الثورة الجزائرية 1954-1962. فإذا كانت الثورة الفرنسية تعتبر من أهم الأحداث التاريخية التي عرفتها البشرية إلى جانب الثورة الصناعية. فإن "ثورة الكرامة" في تونس، تعد من أحدث الثورات الشعبية وأكثرها تفردا وتميزا في التاريخ، لأنها علمت العالم العربي أن حكامه الديكتاتورين إنما هم نمور من ورق، تستطيع نخبه الجريئة القادرة على طرح الأسئلة الحقيقية للبلاد بدون خوف أو وجل، أن تقضي عليهم، كما حدث مع الطاغية التونسي بن علي الذي خلعه خضار بسيط وعربته الشهيرة، بعد 23 سنة من التسلط والاستبداد، بثورة شعبية مدنية سلمية، من صنع فئة واسعة من الشعب وفي مقدّمتهم شريحة الشباب البعيد عن أي غطاء أيديولوجي سياسي أو ديني. ولكونها (الثورة) كانت إذانا بميلاد واحدة من أعظم ثورات التاريخ الحديث "ثورة شباب مصر" التي كانت محل إعجاب ومصدر فخر ومجد وغيرة في كل مكان في العالم العربي وخارجه، لأنها هي الأخرى كانت بأيدي الشعب بجميع طوائفه وتياراته الشابة، وبدون استخدام لأي شكل من أشكال العنف أو القوة، ولأنها أدت إلى عهد عربي جديد يثبت للعالم أن الإنسان العربي يمكنه أن يتقبل الأفكار والممارسات الديمقراطية الحقيقية ويطبقها للتحرر من دكتاتورية حكامه، ويفرض عليهم التداول السلمي للسلطة، كما حدث مع الرئيس المصري محمد حسنى مبارك الذي تنحى من المنصب الذي التصق به لأكثر من ثلاثين سنة خرب فيها البلاد وأفقر العباد. وإذا تميزت الثورة التونسية، بأنها كانت الشرارة الأولى لانطلاق الثورات الشعبية، واندلاع الاحتجاجات الجماهيرية السلمية في الكثير من البلدان أمثال: مصر، وليبيا، واليمن والعراق، والجزائر، والبحرين، وموريتانيا، والمغرب. فإن انتصار ثورة مصر تميزت بكونها كانت الانطلاقة الحقيقية لسباق الثورات الجديد الذي يعرفه العالم العربي والمغاربي، بعد سقوط وهم التفرد، وتهاوي أسطورة استثناء هذا البلد أو ذاك من هذه الانتفاضات التي لا يكون الفوز فيها إلا للانتصار وتحقيق غايات الثورة، وليس لانطلاقتها، كما حدث مع ثورة الجزائر التي كانت الثانية في ترتيب البدء، إلا أنها لم تستمر بنفس الزخم الذي بدأت به، والذي تلقفت قصبه الثورة الليبية وأججت وطيسه بدرجة ما كانت تخطر على بال أحد، وذلك لأن الكثير كان يعتقد أن الشعب الليبي من أكثر الشعوب المغاربية خوفا وخنوعا وخضوعا لحاكمه معمر القذافي الذي تسلط على الليبيين بالحديد والنار، طوال 42 عاما حفلت بمختلف صنوف النزوات وأشكال الجنون السالبة لشجاعة الشعب وعزته وكرامته وحولته إلى مسخ منزوع الإرادة والتفكير وشوهت وعيه وثقافته، ما جعل أي ثورة منه على أوضاعه مستبعدة، بل ومن سابع المستحيلات أن يخرج اليبي على القائد الأكثر دموية وعدوانية وبشاعة وفاشية وهدما في القرن الواحد والعشرين.. فإذا ما نجحت الثورة في ليبيا– وندعو لها بالنجاح- وإن كان نجاحها مشروطا بمدى صديقتها لا بالأدعية كما جاء في رسالة "إرنستو شي غيفارا" إلى "فيديل كاسترو" والتي قال فيها: "عندما تكون الثورة حقيقية، فلا مناص من النصر أو الإستشهاد". وكما جاء في آخر كلمات الشهيد عمر المختار قبل تنفيذ حكم الإعدام في خقه عام 1931 "إننا نقاتل من أجل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت، وليس لنا أن نختار دون هذا". هذا الفوز الذي لاشك سيكون أكبر محفز لجميع الأقطار العربية الأخرى التي ترزح تحت نير العدوان والتعسّف والاحتلال، للاستنارة بقبس الثورة الليبية كما استنارت هي بدورها بالثورتين العظيمتين، ثورة الياسمين في تونس، وثورة الغضب في مصر، هذا القبس الثوري البعيدة كل البعد عن الحسابات الميكافيلية الضيقة التي قال عنها هوشّي مِنه "إذا بدأتَ الثورات بحساب الخسائر مقابل صيحة الحريّة، فإنها ستخسر الاثنين معاً". هذه الحسابات التي شغلت، وللأسف الشديد، أكثرية الدول العربية والمغاربية، عن الاهتمام بإدانة الاستهتار بأرواح الشعب الليبي الذي ينتظر من كل الذين يؤمنون بالديمقراطية، والحريات، وتكافؤ الفرص، من الزعماء وكل الأطراف السياسية والنخب المثقفة، أن يباركوا خطوات ثورته، ويترحموا، على أرواح شهدائه البواسل الذين ضحوا بأرواحهم الزكية وأنفسهم الغنية، واسترخصوا أغلى ما يملكون لتحقيق الحرية والكرامة قبل الخبز، أو يقدموا -على الأقل- التحية لكل الشباب الذين صنعوا الحلم الذي طالما حلمت به الشعوب، كما فعلت ذلك بعض الدول الغربيةوالأمريكية التي تسابقت لنصرة شعب يعاني من قمع الديكتاتورية ومؤازرته ضد ظلم وطغيان حاكمها، هذه المؤازرة التي بلغت حد تهديد القذافي باللجوء إلى القوة لمنعه من تقتيل المتظاهرين العزل، والتي بدأت فعلا الأساطيل الأمريكية بالتحرك صوب وحول السواحل الليبية، بانتظار ساعة الصفر التي يحددها "البنتاغون" وحلفاؤه في حلف الناتو لكي يحصل الشعب الليبي على الحرية التي افتقدها في ظل نظام معمر وأبنائه السبعة. وكم نتمنى يكون التدخل إنساني صرف، وغير مبطن بنوايا ذات خصوصية استعمارية احتلالية استيطانية مبيتة، وذلك لأنه معروف عن الجيش الأمريكي عبر تاريخه، أنه لا يتدخل خارج حدوده إلا لمصلحة أمريكا وحلفائها وعلى رأسهم الكيان الصهيوني... ومصلحتهما الآن في ليبيا تتلخص بالنفط، والنفط أولا وأخيرا، تماما كما كان الأمر في العراق الذي غزته من أجل نفطه، بذرائع ودلائل واهية، كامتلاك السلاح النووي، أو أي ذريعة أخرى مهما كانت واهية ما دامت تؤدي إلى الاحتلال، كما فعلها الفرنسيون قبل ذلك باتخاذهم ذريعة المروحة للانقضاض على الجزائر -الذي خطط له لعقود- فأرسلوا حملة حاصرت العاصمة الجزائرية وروعت أهلها ودكت الكثير من معالمها بالقنابل واضطر "الداي" للتسليم في 1830. وبذلك وقعت الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي ل 136عام. أو تلك الكذبة المفبركة التي ادعت فيها فرنسا أن بعض القبائل التونسية تغير على الحدود الجزائرية وتتحرش بالقوات الفرنسية، فاحتلت تونس وأجبرت "الباي" على توقيع" معاهدة باردو" سنة1881، وبعدها معاهدة المرسى التي مكنت الفرنسيين من 75 سنة من الاستعمار. أو تلك الفرية الغبية التي استعمر بها المغرب، حيث انتهزت فرصة قيام بعض القبائل بالثورة على السلطان عبد الحفيظ التابع للسيطرة الفرنسية والذي كان ضعيف الشخصية، فأرسلت فرنسا قوة عسكرية لحمايته، فدخلت فاس عاصمة المغرب آنذاك وسيطرت عليها واحتلت المغرب عام 1912، وعقدت معاهدة مع السلطان أصبح بموجبها المغرب تحت مبدأ الحماية الفرنسية باستثناء منطقة الريف الذي كان تحت السيطرة الإسبانية وبقي المغرب تحت الاحتلال 44سنه. يبدو أن الأسوأ لم يقع بعد، وأنه آتٍ لا محالة، في حال لم يلتزم المصريون والتونسيون والليبيون الحذر الشديد، وذلك لأنه رغم ما يقال، من أن الثورة لا تموت ولا ينساها التاريخ والأمم"..لكنه يكفي لقتلها في مهدها، مجرد إبعادها عن الأصل الذي خُلقت من أجله، وتغييبها عن حقيقتها بأهازيج المديح الرومانسية، وتمييع أهدافها بجميل التصاريح التبريرية، وهدير الشعارات العاطفية، حيث أنه لم يكن صدفة أن يفاجئ الجميع، خاصة بعد نجاح ثورتي مصر وتونس، ببوادر ثورات مضادة، والتي لا يستبعد البعض تورط إسرائيل في ذلك الانفلات الأمني الغامض الذي يسود تونس منذ 25 فبراير والذي تخلله سقوط قتلى وأعمال حرق ونهب وتخريب واسعة، كما تؤكد ذلك فضيحة "القذافي/ نتنياهو" التي يبدو أنها لا تسعى لإجهاض ثورة 17 فبراير في ليبيا فقط، وإنما تخطط أيضا لإجهاض كل الثورات الشعبية المتتالية في عدد من الدول المغاربية والعربية التي ركزت على إيصال رسالتها للخارج أكثر من الداخل، وذلك بإثارة القلاقل على الحدود الليبية مع كل من تونس ومصر عبر الدعم العلني للأنظمة الحاكمة، أو من خلال التحركات العسكرية الخفية متمثلة في تزويد القذافي بالمرتزقة. وربما يقول قائل وما دخل إسرائيل والثورات المغاربية والعربية، والجواب لاشك واضح وضوح الشمس، وذلك وكما هو معروف عن تل أبيب أنها تقدم نفسها للعالم على أنها واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، وبالتالي يجب على الغرب دعمها في مواجهة الديكتاتوريات التي تحيط بها، ليس من الناحية العسكرية-لأن ميزان القوة في صالحها- ولكن من الناحية السياسية الجديدة المرتكز على الديموقراطية التي تفرضها ظروف الثورات المتتالية في عدد من الدول العربية المحيطة بإسرائيل والتي باتت أغلب دول العالم تتعاطف بقوة معها وتتأكد أن شعوبها، شعوب مسالمة وحريصة على الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، بخلاف ما روجت له الدعاية الصهيونية حول أن جلها "إرهابيون" وخصوصا بعد تساقط فزاعة وصول "الإسلاميين المتشددين" للسلطة في تونس ومصر وليبيا، حيث ركزت الثورات الثلاث على مطالب اجتماعية وسياسية ولم تركز على العامل الديني من قريب أو بعيد. هذا الوضع الجديد يخلق لدا إسرائيل قلقا بالغا، ورعبا هستيريا من أن يأخذ الغرب وعلى رأسه أمريكا بالحسبان هذا المعطى الجديد الذي سيحد من قدرتها على تقنع الغرب بمبررات مواصلة جرائمها ومجازرها ضد الفلسطينيين، فلا تستطيع بعد ذلك تمرر كافة مخططاتها التوسعية والاستعمارية في المنطقة، بل إن مشاريعها للتطبيع مع الدول العربية الواحدة تلو الأخرى ستذهب أدراج الرياح. لهذا وغيره كثير، يجب على الشارع العربي أن ويتوجّس من الغايات الخفي للإستراتيجية التي أعلنت عنها هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريحاتها المتكررة: "إن دعم الثورات العربية ضرورة إستراتيجية لأمريكا"، والتي لم تكن في يوم من الأيام إلا إلى جانب العدو الإسرائيلي والتستر على جرائمه المستمرة من خلال سياسة المكيالين.. فرفض وزراء الخارجية العرب كافة أشكال التدخل الأجنبي في ليبيا، وقبلوا بفكرة فرض حظر جوي على هذا البلد إذا استمرت الاضطرابات الراهنة، قرار له ما يبرره.. [email protected]