كلما حاول الاتحاد الاشتراكي تغيير نفسه إلا وتعثر ووقف في منتصف الطريق. السبب الموضوعي في اعتقادنا، أن الحزب بقي إلى حدود نهاية العهد القديم، سجينا لثقافة سياسية معينة هي الموروثة عن الحركة الوطنية، وعنوانها الكبير التنازع مع القصر على اقتسام السلطة السياسية في البلاد. لكن مع مجيء العهد الجديد، وعزم هذا الأخير على القطع مع المرحلة القديمة، وطرح استراتيجية مفتوحة على المستقبل، أو ما يعرف بسيناريوهات مغرب 2025، وجد الاتحاد الاشتراكي نفسه أمام تحدي كبير. فهو إما أن يبلور استراتيجية أخرى مستقبلية وبديلة أكثر قدرة على المنافسة والإقناع من استراتيجية الدولة، أو أنه سيبقى ذيليا ولا أفق له غير أفق هذه الأخيرة. لذلك فإن الحزب حاليا، وفي غياب تلك الاستراتيجية البديلة، أنه كل ما حاول التغيير والتقدم إلى الأمام، إلا ووجد نفسه منخرطا في استراتيجية الدولة أو في خدمة أجندتها كما يخطط لها حاليا علي الهمة وأصدقاؤه، وبالتالي السقوط فيما يعبر عنه بمخزنة الحزب. وكرد فعل على ذلك يضطر الاتحاديون الحريصون على استقلالية القرار الحزبي، أن يرفضوا الانخراط في هذه الأجندة، لكن المفارقة أنهم لا يجدون ما يتشبثون به غير العودة إلى الماضي والتقوقع داخله من خلال التشبث مثلا بالكتلة الديمقراطية، وهو ما يعني تغليب نزعة المحافظة وتعطيل أية إمكانية للتغيير والتجديد. بدأ هذا التمزق الداخلي بين النزعتين، منذ أن انقسم الاتحاديون في بداية التسعينات، ما بين دعاة أطروحة الحداثة والتقرب من الطرف الحداثي داخل الدولة لمواجهة خطر الأصولية، ودعاة الكتلة التاريخية والتحالف مع الاسلاميين لمواجهة استبداد الدولة. ورغم أن هذه الأطروحة الأخيرة قد انهزمت في المؤتمر السادس، فإن ما حدث لاحقا من خروج عن المنهجية الديمقراطية، وعدم وفاء الدولة ممثلة في العهد الجديد بالتزاماتها مع عبد الرحمن اليوسفي، ثم ما كشفت عنه سياسة انفتاح الحزب على ما سمي بالأطر الجديدة من مخاطر اكتساحه من طرف الأعيان، وبالتالي مخزنته من الداخل بعد ما تعذر احتواءه من الخارج، أحيى من جديد ذلك التوجس القديم وسط الاتحاديين من ابتلاع الدولة لهم، أو ما يعبر عنه الآن بشعار حماية استقلالية القرار الحزبي، وبالتالي عودة ذلك الخوف من كل تغيير قد يكون مفتوحا على المجهول، أو ما يظهر من خلال نزعة المحافظة. وذلك ما يقودنا إلى المأزق الحالي الذي يوجد عليه الاتحاد الاشتراكي. أي أننا نحن الآن أمام نفس الإشكالية التي تفجرت منذ التسعينات: كيف ننتقل بحزبنا من ثقافة الحركة الوطنية القديمة، وهي ما يعبر عنه مثلا بالاستمرار في التشبث بالكتلة الديمقراطية، إلى ثقافة حداثية منفتحة على المستقبل لكن دون السقوط في فخ حداثة ممخزنة يرمز لها بالدعوة إلى التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة؟ شخصيا هذا ما بقينا نبحث عنه طوال هذه السنوات، بدءا من محاولة التصدي لأطروحة الكتلة التاريخية أو أية صيغة أخرى للتقارب مع الإسلاميين في التسعينات، ثم بعد أن تبين لنا أن الخطر الأصولي قد تراجع نسبيا، وأن المشكل هو الآن مع الجهة الأخرى، أي خطر المخزنة المتزايدة للحزب بعد 2002، دعونا إلى ضرورة إحداث انعطافة في مسار الحزب نحو اليسار والفصل مع أجندة الدولة، وذلك عبر التأكيد على أهمية الإصلاحات الدستورية في هذه المرحلة وتوحيد اليسار والعودة إلى المعارضة، كما عبرنا عن ذلك في دورة المجلس الوطني لدجنبر 2009. وبين هاتين الدعوتين: إلى الحداثة في البداية، وضرورة الإنعطاف نحو اليسار في المرحلة الثانية، كان إحساسنا بأهمية ضبط الآليات التنظيمية الحزبية بما يسمح من تمتين شروط الديمقراطية الداخلية والإقرار بالتيارات، وذلك لكي يتسنى للمناضلين أن يعبروا عن آراءهم بدون قيود أو مصادرة، وذلك ما أوردناه في الوثيقة الصادرة عن مجموعة "الاشتراكيون الجدد". ونحن الآن أمام حركية حزبية نشيطة، يطرح علينا السؤال كيف يمكن التعامل معها بحيث لا يتم إجهاضها، أو على الأقل كيف يمكن تحقيق بعض التراكمات من خلالها. هذه الحركية التي انطلقت بالنسبة إلينا منذ دورة المجلس الوطني لسنة 2009 عبر الدعوة إلى الإلتزام بمقررات المؤتمر الثامن، ثم ظهرت بوضوح في الشوط الأول من دورة المجلس الأخيرة، بعد التحاق أطراف جديدة بها كعبد الهادي خيرات أو الطيب منشد، ثم لتصل أوجها في الشوط الثاني من نفس الدورة بالتحاق مجموعة مناضلي الدارالبيضاء، وومجموعة الأشعري، وبعض من مجموعة المندمجين وكذلك مجموعة المناضلين المحسوبين على اليازغي أو بعض من المحسوبين على ولعلو. ومن المؤكد أن الأطراف المساهمة في هذه الحركية وإن التقت كلها على شعار أساسي هو : حماية استقلالية القرار الحزبي، أنها تبقى غير منسجمة سواء في الأهداف المتوخاة أو في منهجية العمل. إذ من الأسئلة المطروحة حاليا: هل من الضروري المزيد من التصعيد في الضغط على المكتب السياسي كما عبر عن ذلك محمد بوبكري في مقاله ليوم السبت 22 يناير في الأحداث المغربية، أم الأفضل توخي الاعتدال وعدم الدفع إلى التأزيم الداخلي للحزب كما عبر عن ذلك عبد الهادي خيرات في استجوابه مع جريدة أخبار اليوم لنفس التاريخ؟ فنحن هنا أمام وجهتي نظر، لكل منها إيجابياتها وكذلك سلبياتها. فالتصعيد بقدر ما قد يعجل بالتغيير داخل الحزب، قد يؤدي بحسب نظرية الأنظمة أو علم التيرموديناميكا إلى ما يعرف بظاهرة L'entropie أي الإنفجار، وذلك ما حدث مرارا في تاريخ الحزب. غير أن التريث وعدم التصعيد أو إعطاء الأسبقية لخيار الاستقرار، قد يؤدي بدوره إلى حالة statu quo ، أو هو التعبير الآخر عن نزعة المحافظة وهي بتعبير نفس النظرية تؤدي إلى الظاهرة المعاكسة la néguentropie ، وبالتالي إلى الانكماش والتهالك الداخلي أو l'implosion. ماهي الصيغة المثلى إذن لتحقيق التغيير، أي الخروج من حالة statu quo ، لكن دون المخاطرة بانفجار الحزب؟ ذلك ما يقودنا إلى التساؤل الثاني: ما موقع أعضاء القيادة الحالية في هذه الحركية، وأية تحالفات ممكنة أو غير ممكنة معهم أو مع بعضهم على الأقل؟ كيف يمكن لبعض الأعضاء من الذين لم يلتحقوا إلا مؤخرا بهذه الحركية بأن يتحولوا إلى قائدين لها، والمقصود هنا مجموعة الأشعري، ثم بالخصوص كيف سيكون التحالف ممكنا مع أعضاء من المكتب السياسي يعتبرون هم المسؤولون لحد الآن عما وصل إليه الحزب، والمقصود هنا فتح الله ولعلو مثلا؟ هل تستطيع هذه الحركية إدماج كل هؤلاء، لكن بشرط أن يكون ذلك بحسب منطقها الساعي إلى الخروج من المرحلة الراهنة، أم أن هناك خطرا للالتفاف على الحركية لإجهاضها في منتصف الطريق وبالتالي العودة إلى نقطة الصفر كما حصل في جل محاولات التغيير السابقة؟ من جهتنا نسعى نحن إلى ترجيح اختيار ثالث، وهو أنه من خلال استقرائنا لتاريخ الحزب، لاحظنا كيف أنه كلما كان التنظيم في الدارالبيضاء قويا كان الحزب في عافية جيدة (مرحلتا عمر بنجلون والآموي)، ولذلك فبدل ترك المبادرة في يد القيادات الحزبية بالرباط تتصرف فيها لوحدها، كيف يمكن أن يتحول مركز الثقل وبالتالي زمام المبادرة إلى مناضلي الدارالبيضاء وبالتنسيق مع جهات حزبية أخرى، ولكن ذلك بطبيعة الحال، بشرط أن يتوصل هؤلاء إلى إيجاد أرضية حد أدنى يتوحدون حولها.